أفلام غيرت العالم 6 : صمت الحملان

 

هناك تعريف شائع يقول بأن السينما هي إعادة ترتيب الوعي في عقول الجمهور، فالسينما ليست فقط مرآة تعكس ما يجري في المجتمع بل أيضا أداة لإعادة تشكيل المجتمع.
فإذا كانت السينما، ككل الفنون، أداة للتعبير عن رؤية معينة اتجاه الواقع، إلا أن تأثيرها على الناس أقوى من كل أدوات التعبير الفنية الأخرى، حيث استطاعت، منذ ظهورها، أن تشكل قوة مؤثرة في الرأي العام، قوة قادرة على تكوين أو المساهمة في تكوين رؤية مشاهديها لهذا العالم وأن تؤثر بشكل ملحوظ في تغيير نظرتنا للواقع بمختلف تجلياته.
ضمن هذا الاتجاه تميزت أفلام عديدة، بكون تأثيرها كان أقوى من غيرها حيث انها كذلك قادت إلى تغيير قوانين، سياسات، سلوكيات وأفكار، كان العديد منها يعتبر من المسلمات، وبذلك تتضح القدرة الفائقة للسينما على تغيير الواقع والوعي الإنساني.
في هذه السلسلة مجموعة من الأفلام التي، بفضل جرأتها، ثرائها الفني وعمقها الإنساني، استطاعت أن تساهم بشكل كبير في تغيير العالم إلى الأفضل.

 

 

يعتبر الفيلم الأمريكي‮ “‬صمت الحملان‮”،‮ ‬انتاج سنة‮ ‬1991‮‬،‮ ‬من الأفلام القليلة،‮ ‬إن لم‮ ‬يكن الوحيد إلى حدود الآن،‮ ‬الذي‮ ‬ارتقى بتيمة الرعب،‮ ‬إلى أعماق النفس البشربة،‮ ‬رغم أنه لم‮ ‬يلعب على مشاهد الرعب مقارنة بأفلام من هذه النوعية،‮ ‬حيث أنه قدم بذكاء ابعادا جديدة للجريمة ذات الدوافع النفسية،‮ ‬كما أنه‮ ‬يحسب له تقديم المرأة‮- ‬المحققة في‮ ‬صورة جديدة،‮ ‬مما أدى إلى ارتفاع عدد النساء اللواتي‮ ‬يلتحقن بمهن كانت في‮ ‬أغلبها حكرا على الرجال من قبيل الاقسام المكلفة بالتحقيق في‮ ‬الجرائم المروعة وبمكتب التحقيقات الفيدرالي‮ ‬بشكل عام‮.‬
الفيلم مقتبس عن الجزء الثاني‮ ‬من رباعية الكاتب الامريكي‮ ‬طوماس هاريس،‮ ‬الذي‮ ‬نشر في ‮‬1988،‮ ‬وحسب عدد من النقاد فقد تمكن كاتب السيناريو،‮ ‬تيد طالي،‮ ‬والمخرج جوناتان ديم،‮ ‬من ان‮ ‬يجعلا من رواية رعب عابرة تجذب القراء اعتمادا على تيمة الرعب والجريمة التي‮ ‬تثير اهتمام الجمهور،‮ ‬تحفة سينمائية‮ ‬كسرت المألوف في‮ ‬افلام من هذه النوعية،‮ ‬من خلال استعراض مذهل للدوافع السيكولوجية‮ ‬للعنف في‮ ‬المجتمعات الغربية‮.‬
يتحدث الفيلم عن المحققة المتدربة كلاريس ستارلينغ،‮ ‬التي‮ ‬يرسلها المسؤول عنها للقاء طبيب نفساني‮ ‬مجرم بالتسلسل ومن أكلة لحوم البشر،‮ ‬هانيبال ليكتر،‮ ‬معتقل في‮ ‬سجن مخصص لاخطر المجرمين،‮ ‬وذلك لمساعدة المحققين على اعتقال مجرم بالتسلسل‮ ‬يدعى‮ “‬بوفالو بيل‮” ‬يقوم باختطاف شابات ويتركهن عرضة للجوع عدة أيام قبل قتلهن واقتلاع جلدهن ليصنع منه ثيابا نسائية‮. ‬
هانيبال ليكتر‮‬،‮ ‬الطبيب النفساني‮ ‬الذي‮ ‬لا تخفى عليه الدوافع الخفية للمحققين،‮ ‬سيدخل في‮ ‬لعبة شذ وجذب مع المحققة الشابة،‮ ‬حيث سيعدها بمساعدتها على اعتقال‮ “‬بوفالو بيل‮” ‬بشرط أن تمكنه من مفاتيح فهم عقدها النفسية المتراكمة،‮ ‬وهو ما ستصبح المحققة ستارلينغ‮ ‬مستعدة للقيام به بعد أن‮ ‬يختطف‮ “‬بوفالو بيل‮” ‬ابنة سيناتور مشهورة،‮ ‬أثار اختطافها اهتمام وسائل الإعلام،‮ ‬وأصبح على رأس أولويات مكتب التحقيقات الفيدرالي‮.‬
وهكذا سيبدأ صراع بين شخصيتين متناقصتين،‮ ‬هانيبال ليكتر،‮ ‬الطبيب النفساني‮ ‬الذي‮ ‬يتمتع بذكاء خارق وتركيبة نفسية عدوانية تعكس كل الشخصيات المريضة والشاذة التي‮ ‬كان‮ ‬يعالجها،‮ ‬من جهة،‮ ‬ومن جهة أخرى المحققة الشابة كلاريس ستارلينغ،‮ ‬التي‮ ‬تمثل الطيبوبة والبراءة وتعاني‮ ‬في‮ ‬نفس الوقت من عقد نفسية متراكمة،‮ ‬بسبب معاناتها وهي‮ ‬طفلة من كوابيس لا زالت تلاحقها،‮ ‬والاحساس بالضعف والحرمان بسبب وفاة والدها وهي‮ ‬في‮ ‬مقتبل العمر‮.‬
ويشكل هذا الصراع بين الشخصيتين،‮ ‬قوة الفيلم‮‬،‮ ‬حيث نتتبع الدوافع النفسية للشخصيات،‮ ‬في‮ ‬بناء درامي‮ ‬محكم،‮ ‬ونغوص في‮ ‬السيكولوجية الإجرامية للطبيب والشاذ الذي‮ ‬يختطف الفتيات،‮ ‬في‮ ‬قالب تشويقي‮ ‬أعطى للفيلم دفعة وقوة جذب،‮ ‬خصوصا في‮ ‬المشاهد الأخيرة حينما ستنقاذ المحققة الشابة إلى حاستها للعثور على المجرم‮ “‬بوفالو بيل‮” ‬وقتله‮.‬
الفيلم حقق نجاحا جماهيريا مذهلا،‮ ‬وفي‮ ‬نفس الوقت حظي‮ ‬بتقدير جد إيجابي‮ ‬من طرف النقاد،‮ ‬كما حصل على خمس جوائز أوسكار منها جائزة أفضل فيلم وجائزة الإخراج والسيناريو،‮ ‬واحسن ممثلة،‮ ‬جودي‮ ‬فوستر،‮ ‬واحسن ممثل،‮ ‬أنطوني‮ ‬هوبكينز،‮ ‬اللذان قدما في‮ ‬هذا الفيلم أفضل أدوارها السينمائية على الإطلاق‮. ‬
غير الفيلم الانطباع الذي‮ ‬كان سائدا في‮ ‬السابق عن افلام الرعب،‮ ‬وقدم قراءة عميقة للدوافع النفسية للجريمة والعنف،‮ ‬وشجع النساء على دخول عالم التحقيق في‮ ‬الجرائم ومنها المروعة،‮ ‬ونجح في‮ ‬أن‮ ‬يتبوا مكانه كواحد من افضل أفلام الجريمة النفسية وأفلام التشويق ولا زال،‮ ‬بعد‮ ‬29‮ ‬سنة،‮ ‬يحظى بإقبال جماهيري‮ ‬كبير عند عرضه على شاشات التليفزيون‮.‬


الكاتب : عزيز الساطوري

  

بتاريخ : 01/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *