«أوراق ميت » للكاتب المصري ممدوح عبد الستار

بين منحنى التصريح والتخفي

 

«أوراق ميت»( 1) رواية للكاتب المصري ممدوح عبد الستار ، عنوان مخادع ، فالعناوين في مجملها حمالة أوجه، فإما تكون عتبات نصية أو عتبات إشكالية لا تفك ألغازها إلا مع رحلة القراءة .
يستند العنوان على كلمتين : الأوراق ثم الميت، فإذا فككنا الكلمتين و فصلناهما عن علاقتهما بالرواية سنجد أن :
– الأوراق : جماد – مصنوع – له لون – نكتب فوقه / الميت : كائن – ضد حي – جسد – بلا روح
إذا عدنا للمتن سنجد أن الكلمتين اعتمدتا على التركيب الاضافي (المضاف والمضاف اليه ) والمتعارف أن الاضافة لغويا تعتمد على التوضيح والافصاح و التحديد والنسبة ، فالكاتب نسب هاته الأوراق إلى شخص مات. سينزاح اللبس مع أول تباشير النص عندما يصرح لنا السارد بمصدر هاته الأوراق ، حيث اعتبرها البطل صبحي أمانة إذن النص الروائي عبارة عن مظروف تسلمه السارد من البطل كي يقوم بسرده بأمانة ودون زيادة أو نقصان .
لقد شكل الكاتب مرجعية حكائية مبنية على رغبة الميت في الكشف عن سيرته وسيرورة حياة متحولة حسب كم الأحداث المعاشة ، صبحي ابن عبد الواحد والضاوية، بدوي ولد في أسرة كانت تفقد مواليدها كل مرة، ورغم أنف العم صقر الذي كان يضايق أخاه عبد الواحد متبجحا بكثرة ولده، فقد خرج للنور صبحي ذات صباح ، الولد الذي كبر وعايش أحداثا في قرية الدلجمون، والتحولات التي غيرت ملامحها بعد ثورة الضباط الأحرار إلى النكسة ثم حرب اليمن .. صبحي كان مدلل أبيه والذي كان يحيطه بعناية شديدة، الأب عبد الواحد ليس سوى تاجر نمت تجارته ثم بارت كي تشكل لنا ملامح البطل الملحمي في شخص صبحي .
نشأ صبحي متشبعا بروح الثورة وشارك في أجرأتها على أرض الواقع مع شباب القرية الداعمين لجمال عبد الناصر، إلى أن أصبح حارسا بالسجن ، لكنه لم يتخل عن حلم مشاركته في حرب اليمن حتى نجح في ذلك وعاد سالما كي يتزوج صفية .
حياة صبحي عبد الواحد عبارة عن علائق متداخلة مع شخوص عدة، مبنية على الصراع أو المصلحة واستطاع الكاتب ممدوح عبد الستار أن يلملمها داخل نفس روائي متشابك الذي رغم بنيته الكلاسيكية ، نص يثري الذاكرة ويغني شحنة القراءة وشغف الترقب الذي يسكن القارئ .
لقد رصد ممدوح عبد الستار مرحلة عريضة وحساسة من تاريخ مصر في سرد أشبه بالسيرة، معتمدا على البداية ثم العقد المتعددة والانفراج الذي كان أشبه بتحليق السارد البطل في عوالم الحرية والتخلي عن مخاوف النهايات : «لم ينشغل صبحي بالحقيقة أو الوهم في ما سمعه وخرج للخلاء باصقا حياته للكون الواسع يقول بعفوية (لاشيء يموت يا صبحي) ويحاول – بجدية- أن لا يكون بلا ذكريات مفرحة أو مؤلمة « (2 ) البطل هنا تواق إلى الوصول للحظة العدم، حيث التخلص من كل الشوائب، التي تعيده لنقطة الصفر.
«أوراق ميت « هي في البعد المناقض للمعنى: إنها وثيقة حية ،فصبحي ترك ما سماه «أمانة» كي يتجدد في المعنى ويتمدد في وعي القارئ .
تكتسي الكتابة هنا طابع السرد المزدوج : بين سارد محتمل وكاتب معروف، عبر عملية اختباء ممنهجة ،من خلال بنية سردية ترتكز على عناصر شديدة الترابط في ما بينها وبدقة ومهارة كبيرتين ، فالحدث السياسي أنتج مجموعة أحداث اجتماعية ، كما أن حدث ولادة صبحي أحدث تغييرات كبرى في حياة الأب عبد الواحد،إلى جانب حدث حرب اليمن الذي شكل تحولا كبيرا في نمط عيش البدو من خلال ما أفرزته عودة الجنود من حركية ودينامية اقتصادية.
تعتبر الرواية شكلا احتفائيا بالشخصية، حيث ركز الكاتب على جعلها مولدة أساسية للنص ، حتى السند المرجعي كان جليا من حيث اختيار عبد الواحد لمسميات أبنائه ، صبحي لأنه ولد مع مطلع الصبح يقول: « ليلى التي ولدت في الليل خلسة دون أن يحس بها مخلوق وصبري الذي صبرت القابلة أم الفار أكثر من اللازم لينشر بكاءه في الغرفة المزدحمة والأخير الذي جاء وعبد الواحد يدعو ربه بخشوع (أنت العادل) فسمي الولد عادل «.
تتجاوز الدوال الاسمية أبعادها الخاصة كي تبني لها مدلولات صريحة. فصبحي هي ولادة متعسرة لمصر وانتقالها من حكم الملكية إلى النظام الجمهوري مع الضباط الأحرار. فالصباح يؤشر على بداية يوم جديد لكنه يوم مجهول لا ندرك ما يأتي به ، الأب عبد الواحد سيفقد تجارته ثم يجلس كئيبا مع زوجته الضاوية إلى أن يموت غما، فيجد صبحي نفسه في سياقات فردية مع متغيرات كإتمام دراسته ثم اشتغاله كسجان وانتقاله إلى اليمن كجندي، كي يعود أخيرا ممنيا النفس بزواج متعسر لم يكتمل إلا بصعوبة.
تعتبر الرواية تشكيلا تاريخيا في مسوح سردي متين حاول ممدوح عبد الستار أن يخلق مسافة معقولة بينه وبين التاريخ، بل سعى لأن يحكي قصة حياة شخصية داخل رحم التاريخ عبر توترات قرية الدلجمون وهي نموذج للقرى العديدة في صعيد مصر . وفي رحلة السرد هاته، حاول الكاتب أن يتخلص من نمط الكتابة الايديولوجية تاركا الشخوص تعبر عن آرائها، وتشعر بأن لا سلطة للكاتب عليها بل جعلها حرة في النقد التاريخي بأمانة وصدق ، وهنا مكمن قوة النص.
استند الكاتب على توظيف الشخصية الدينامية، والتي تتنقل من حالة الى أخرى مع الحفاظ على بؤرة التوتر المتمثلة في البحث الحثيث للشخصية عن ولاء فكري يغذي مشاعره الجياشة تجاه مفهوم الوطن، إلى جانب شخصيات بسيطة كالأم والعم صقر والعمدة ومصطفى الرفاعي … ثم شخصيات مرجعية كمحمد نجيب وجمال عبد الناصر والملك فاروق … ثم شخصيات غامضة كالشيخ عوض.
هذا التشكيل الروائي جاء بأسلوب مسترسل سلس ، مع توظيف للمصطلح العامي في غالب الأحيان حتى تتقوى العلاقات بين الدال والمدلول، ولا تكون لغة الشخوص غريبة عن الزمكان الروائي.
نجح ممدوح عبد الستار في أن يكتب بنفس شعري، موظفا الاستعارات والمجازات ببراعة دون المساس بجوهر السرد مثل «كانت ضاوية بغرفة المعاش تعجن تعبها «، «الرؤوس والبيوت منكسة «، «انفرط لسان عبد الواحد بالتعجب و الحيرة «، « كان قلبه المسكون بهاجس الخوف مثل ضفدعة « وعشرات الصور الشعرية التي تفتح أفقا تأويليا رحبا للنص .
لقد كانت «أوراق ميت « غابة من التوترات الاجتماعية و السياسية في قالب سردي وسيري نجح الكاتب ممدوح عبد الستار في إخفاء الهوية الايديولوجية والتصريح، بالانفتاح على تأويل القارئ الذكي .
هوامش:

1-أوراق ميت. رواية. ممدوح عبد الستار. مداد للنشر و التوزيع دبي – طبعة 2017
2-الرواية . الصفحة 158


الكاتب : سعيد الشفاج

  

بتاريخ : 30/08/2019