«تَوشياتٌ لِأهوالِ الحب والمطر» للشاعر نور الدين ضرار على شَفيرِ الْعُزلَةِ؛ شِعريةُ الْكِتابةِ

 

أولاً:توطئة

نور الدين ضرار، الإنسان، الكائن البسيط، المُتَرعُ بكل صنوف المحبة؛ يغمر بها كل محيطه، العميقُ في نصوصه، الخبير بشتى أنواع الابداع، النادرُ في خُلقه، النديم في جلساته.واحد من الذين يُشيعون الفرح حولهم، ومن القلائل الذين يقيمون وزنا لعلاقات الإنسان النورانية… نَسيجتي المُمتدة به زمانا ومكانا، تسمح لي بالاقتراب منه دون حَد أو تخم.
وعلى طول رحلتنا، كان الاشتراك في طقوسٍ خلدتها فضاءاتٌ متفرقة؛ اِحتفل فيها إلينا بديع الكلام وشهوق العبارة، مثلما احتفلْنا بتداعياتِ حَضرةِ كل الغائبات والغائبين،الباصمات والباصمين على فُصوص الاِحتراق والعطاء الفردين.
وقد سبق لي أن سلكت إليه سبيلا روحيا (أو هو من سلك إلي هذا السبيل !) عبر منجزه الشعري الأول،أواخر تسعينات القرن الفائت: « تسكعات في خرائط التيه «(1) قبل ربع قرن، وقتها، كنت وقفت معه على شطوط غَواية نادرة؛ كما سمح لي كتابه الشعري بأن أرافقه إلى تخومه القصية، والغوص معه في أعماق سفرياته ومكابداته.

ثانيا:والآن…

الآن، ومرة أخرى أجدني مشدودا صوب عوالم نور الدين ضرار، وهذه المرة، من خلال ديوانه: « توشيات لأهوال الحب والمطر» (2) وقد طوحت بي قراءاته إلى إعادة اكتشاف ما سبق لي أن رصدته.إذ يظل ضرار، شاعرا مسكونا بالحَكِيِّ وبسرد العجيب في لياليه السحرية الشعرية الشاعرة، مقبلا على عناصر الطبيعة، متحدا بنداءاتها، منصتا إليها ومسترشدا بإشاراتها، عاشقا لرموزها ومؤمنا بوحيها.

ثالثا: الكتابة وشعرية الأُسْطُقسات
عديدة هي نصوص الديوان الشعري المرتبطة بعناصر الطبيعة. يتحد بها ضرار ويرتبط حد الاحتراق:
«مطر شفيف، قمر مشدود، آخر سماء، أنا التراب، آخر ذرة من رمل الصحراء، البحر ماء،آنية الليل، ندى القصيدة، مدارج النهار، نِعال الريح، أول اليابسة، أهداب الغيم، الشرفة الماطرة، كنه العاصفة، شتاء المدينة، فيض الأنواء، مضارب السحاب…» (3) تتأثث معها تباعا، عبر القصائد، عَلائقُ مُؤسسةٌ، ومباشِرة، لا شيء يوجعها، بل هي متحدة و منسجمة. يقول نور الدين ضرار:
« وحدها الأشجار
تدرك كنه العاصفة
ووحدها الحقول
يدركها تحت عباءتيَ النهارُ
فتهرب منيَ البدايات
ويجفُل من آخر دربيَ الوصول.»(4)
و يستطرد في مكان آخر:
« ربما
كنت أتسلى
بنفسي
وكانت حينها الأشجار
على حافة سريري
تتعرى في الفصل الأخير
من أوراق انتظاري.»(5)

ثمة حُلُولٌ، بِبَهائه الصوفي، ينجلي، وتبقى قوة الشاعر نور الدين ضرار شاهدة على ذلك حين استماتته
وبأسه، مقابل كل الخسارات النبيلة.

رابعا:الكتابة المشروطة
في النصوص، متعة التحدي ولذة النصر المحقق، عندما يكون الشاعر مثقلا بعناصر الإفلاس، لكنه ممتلك لقدرة خارقة قادرة على إضاءة ليل المدينة، ببهرج ظله. وقد شكل نص:»آنية الليل» (6) اشتغالا ساطعا على المراهنة والمُعارَكَة والنِّدِّية؛ كَنُزوعٍ شعري باذخ. ولنا هذه المعاني في النص؛ حيث تعين على إدراك الشروط التي أقامها الشاعر، في سبيل تحقيق رهانٍ غريب:

*الوقت هباء حَدَّ الألم
*الموت زلال حد العدم
إذا لم:
– يَحْمِلِ… الشاعر آنية الليل لآخر مدارج النهار
– يَصِلِ… الشاعر أول اليابسة بآخر البحار
– يُفْشِ… الشاعر جَزر البحر،حين تدهم الصحراء!!

خامسا: الكتابة و شعرية المعنى
قراءة نصوص الديوان، تزرع فينا نواصي للحلم وتُرهقنا بعذوبة الدفق الشعوري دون حراشف اللغة ومسكوكاتها التقعيدية. فهي تأتي طيعة وتُقبل بسلاسة وهدوء، حيث: المطر نُدَف والقمر مسدول، النَّخْبُ دائم، النجم غامر، الأحلام منضودة، القصائد موعودة و المساءات دافئة…

« أحتاج لمجرد وَرْفَةٍ
مِنْ فَيء عينيها
لأرتب في غفلة من عيوني
كومة أحلام مهترئة.»(7)
نصوص الديوان مليئة بدلالات الفرار من مشاكسة الشرور إلى فصول متروكة على هواها في الإقبال؛ زاحفة بأبراج، تحمل رسائل المحبة والجنوح نحو ألف سماء.

سادسا: الكتابة باسم الآخر
أمامنا في نصوص الديوان، بعض من السرود والحكايات التي شكلت مرآةً للذات وعكسا لحناياها وقيمها الإنسانية الشاهقة ( الوفاء، الصدق، المحبة..)….
ونص:»نوستالجيا بيرُّو»(8) …بإهدائه العاهل: (إلى..أكثر من صديق ) معانقة من الشاعر للوجه المشرق للروابط النورانية بين الكائنات، إذ الكلب «بيرو» حارس المدينة، المتسكع في لياليها، الحامل لمغامرات حاناتها، الحافظ لأسرارها، المنزوي أمام أسوارها و المثقل بسير الهزائم و المعارك المؤجلة.. هو انعكاس للذات قبل أن يكون كتابة باسم الآخر.
أما نص:»نوستالجيا رفيق»(9) وأيضا بإهدائه الرمزي القوي:(كأنه الجميع.. وكأنه لا أحد) فهو حَكِي بصيغة التداعي عن «رفيق ثوري» يتذكر الكل ويذكر العالم، لاعتبار نَفَسِه النضالي البطولي؛ المنافح بشراسة عن المقهورين و المهمشين. هو أيضا من يحمل عيوب الآخرين و يحلم بالغد الأفضل … و رغم ذلك «يُخَوِّنُه الرفاق» ؛ ينسونَه و لا يذكرونه!! أما الشاعر فوحده يرى فيه الصديق؛ المخلص لقناعاته و القابض على مبادئه.
سابعا: الكتابة والحب
هو إحساس يتفرد به الشاعر في علاقته بالأنثى. وما صيغة عنوان الديوان: « أهوال الحب و المطر» إلا تأكيد لذلك. فليس أمرَّ من رصيف الانتظارات الذي جعل الشاعر نور الدين ضرار منه، عتبةً مُمهدة لعواصف الإحساس الغامر المفضي الى سبل العشق؛ فعليه تنكسر العقارب، وفيه تأتي رسائل العتاب وسِيَر الاغتراب، وعنه تهرب البدايات ويجفل الوصول، وبه تتعَلَّبُ الذكرياتُ، وله تنحني الكؤوس المَلأى وتحار النفوس، وإليه تجنح الخطوات على أقدار التعب وشفير الانطفاء…
« وَ إذَنْ
لَا بأسَ اللَّيلةَ
أنْ أسْهرَ وَحدي…»(10) …
يصرخ الشاعر، خاتماً، مُنهِياً، خالصاً مِن أهوالِ حُبٍّ فَاضِحٍ،آثِمٍ، على زخات مطرٍ مُوَشَّى.. بِنُبُوءَةِ قَدَرٍ أعمَى.

الإحالات:
(1) ديوان «تسكعات في خرائط التيه» نور الدين ضرار ،1999، دار الصفريوي، الصويرة… و قد صدرت قراءتي العاشقة « تسكعات نور الدين ضرار، عالم من الفوضى و الدهشة « لديوان شاعرنا ، ضمن مؤلف جماعي (دراسات نقدية) حامل لعنوان: (( نور الدين ضرار، شاعر التخوم البعيدة – تجربة إبداعية بأبعاد متعددة )) عن منتدى رع للثقافة و الابداع، في طبعة أولى عام 2023.
(2)ديوان «توشيات لأهوال الحب والمطر» نور الدين ضرار، الطبعة الأولى ،2012، عن دار القرويين بالدار البيضاء
«توشيات..» (3)كل هذه التراكيب تم اقتطاعها بشكل مقصود من نصوص الديوان المشار إليه أعلى
(4)الصفحة 66، نص: وحدها الاشجار. الديوان
(5)الصفحة 71، نص: وحدها الاشجار. الديوان
(6)الصفحة28، وما بعدها، نص:آنية الليل. الديوان
(7)الصفحة 12، نص:آنية الليل. الديوان
(8)الصفحة 42 وما بعدها. نص:نوستالجيا بيرو. الديوان
(9)الصفحة 49، نص:نوستالجيا رفيق. الديوان
(10)الصفحة 77، نص:وحدها الأشجار. الديوان