كيف ومتى دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ 24- ميلاد أكبر مستشفى مدني بالمغرب بمراكش «مستشفى موشان» سنة 1913

كيف دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ وضمن أية ظروف، وفي أية سياقات؟ وأين بنيت أول مؤسسة استشفائية حديثة بالمغرب؟ من بناها وما هي الأدوار التي لعبتها؟. تلكم بعض من الأسئلة التي تحاول هذه الحلقات، ضمن فسحة رمضان 2020، أن تجيب عنها.
والغاية، ليست فقط تتبع خريطة ميلاد «خدمة الصحة العمومية» ببلادنا، وكيف تم رسمها منذ 1910 ميلادية، بل تقديم معلومات تفسر كيف أن صدمة الإستعمار التي جعلت المغربي (في النخبة وفي المجتمع) يصطدم مع الحداثة الصناعية والإقتصادية والسياسية، التي غيرت من وعيه لذاته وللآخ رين وللعالم.. كيف أنها حققت ذلك ليس بالضرورة فقط عبر المدفع والرشاش والرصاص، بل أيضا من خلال نوعية الخدمات المدينية الجديدة التي جاءت مع المستعمر. وليس اعتباطا ما قاله في إحدى رسائله إلى قيادته العسكرية العامة بباريس، الماريشال ليوطي (أول مقيم عام فرنسي بالمنطقة التي احتلتها باريس من التراب المغربي)، حين خاطبها قائلا: «أرسلوا لي 4 أطباء، سأعيد إليكم 800 عسكري».
إن ما سأحاول تتبعه معكم هنا، هو قصة ميلاد خدمة الطب الحديث بالمغرب، من خلال قصة ميلاد العديد من المؤسسات الطبية بمختلف المدن المغربية من الدار البيضاء حتى أكادير، مرورا بالرباط، فاس، مكناس، مراكش، ابن أحمد، سطات، خنيفرة، الخميسات، وجدة، قلعة السراغنة، الصويرة، آسفي، الجديدة، القنيطرة، سلا وغيرها كثير. معززا بصور نادرة تنشر لأول مرة بالصحافة الوطنية المغربية. وأيضا كيف ولدت الصيدلة بالمغرب ومعهد باستور وطب الأسنان والطب النفسي والعقلي والطب المدرسي… إلخ.
هي رحلة في جزء منسي من ذاكرتنا الجماعية، كما صنعها الإحتكاك مع الحداثة من خلال بوابة الطب والصحة العمومية. والمناسبة شرط كما يقال، ونحن نعيش عصر مواجهة جائحة عالمية مثل وباء كورونا. (للإشارة كل الصور التي تنشر ضمن هذا البحث التاريخي مؤخوذة عن كتاب حفظ الصحة والجراحة بالمغرب الصادر سنة 1937 عن مصالح حفظ الصحة بالمغرب).

 

قلنا سابقا، إن قصة دخول الطب الحديث إلى مراكش ارتبطت كثيرا بقصة الدكتور موشان ومقتله من قبل جمهرة هائجة غضبا من المواطنين المغاربة عند باب عيادته يوم 19 مارس 1907، حيث تم نقل جتثه بداية إلى مدينة الجديدة لدفنه هناك، قبل أن يتم نقل رفاته شهرين بعد ذلك إلى بلده فرنسا، حيث أقامت له وزارة الخارجية الفرنسية جنازة رسمية، واضعة على نعشه وسام صليب الشرف، بينما أقامت له بلدته حيث ولد “شالون سور سوان” تمثالا تذكاريا (لا يزال قائما بها إلى اليوم). فيما قررت الإقامة العامة الفرنسية بالرباط، سنة 1913 إعطاء الإنطلاقة لإنشاء مستشفى مدني كبير بمراكش، أطلقت عليه إسم “مستشفى موشان”، الذي يعتبر التدشين الأول لدخول الطب المدني (بعد دخول الطب العسكري سنة 1912) إلى مدينة الكتبية. حيث باشر ذلك المستشفى مهامه في آخر سنة 1913، وشهد توسيعات متلاحقة انتهت سنة 1918، ما جعله واحدا من أكبر المستشفيات المدنية الحديثة بالمغرب في بداية القرن 20.
بني مستشفى موشان، المعروف أكثر في الذاكرة المراكشية إلى اليوم باسم مستشفى المامونية (بينما اسمه الجديد رسميا منذ سنوات هو مستشفى ابن زهر)، على قطعة أرض شاسعة كانت حديقة مهداة من السلطان سيدي محمد بن عبد الله في القرن 18 إلى ابنه مولاي المامون، مجاورة لحديقة أخرى كبيرة وجميلة مهداة إلى ابنه الآخر مولاي عبد السلام (لا تزال هذه الأخيرة متواجدة إلى اليوم بمراكش بمنطقة جليز). وهي حديقة ممتدة على أكثر من 15 هكتارا، مكنت من إنجاز بناية طبية جد كبيرة بها ضمت منذ البداية، استنادا على تقرير مفصل طويل للدكتور هنري روتيي خريج كلية الطب بباريس، والذي عين في العشرينات مديرا لذلك المستشفى وأيضا مديرا جهويا للصحة العمومية وحفظ الصحة بالجنوب المغربي كله، ضمت أجنحة تخصصية متعددة، شملت جناحين كبيرين للرجال (تشخيصا وجراحة)، جناحين كبيرين للنساء (تشخيصا وجراحة)، جناحا مخصصا للمرضى من المغاربة اليهود، جناحا مخصصا لعائلات أغنياء مراكش وقوادها وفقهائها الكبار (تشخيصا وجراحة)، جناحا للجراحات التخصصية الدقيقة يضم أيضا قسما للراديولوجي ومختبرا للتحاليل، جناحا خاصا بالمطبخ ومحل غسل الثياب وحمامات بماء ساخن ومطعما، قبل أن يتم افتتاح قسم خاص بالأمراض المعدية (خاصة جناح الأمراض الصدرية وجناح الجدري) ابتداء من سنة في 1920، تابع له في منطقة أخرى بالمدينة. مما يقدم الدليل على أنه كان مستشفى من قيمة كبريات مستشفيات المدن الأروبية حينها مثل باريس وروما وبرلين ولندن. (للإشارة جزء من حديقة مولاي المامون بني فيها أيضا الفندق الشهير عالميا بمراكش “فندق المامونية”).
مما تؤكد عليه، أيضا، وثيقة الدكتور روتيي، أن الأجنحة الجديدة لمرضى السل والجدري والأمراض النفسية، التي أنجزت في منطقة بعيدة عن مستشفى موشان، فوق قطعة أرضية تبلغ 18 هكتارا بمنطقة الداوديات، قد سمح بميلاد مستشفى كبير جديد بمراكش ابتداء من سنة 1920، عرف باسم “مستشفى أمرشيش” (الذي أصبح اليوم هو مستشفى الرازي، وفي أجزاء من تلك البعقة الأرضية ستتم عمليات توسعة طبية كبيرة وهامة، في بداية القرن 21، وأطلق عليه إسم مستشفى محمد السادس). كان مستشفى أمرشيش قد افتتح كي يكون فضاء للتشخيص والعلاج، وفي حالات تفشي الأوبئة فضاء للعزل الطبي الشامل، مصاحب بهندسة مجالية خضراء توفر للمرضى الظروف المثالية للراحة النفسية والجسدية والصحية. مما يعني أن مدينة مراكش قد امتلكت في المسافة الزمنية بين 1913 و1920، مستشفيين مدنيين كبيرين، واحد عام والثاني تخصصي.
كانت نتيجة ذلك، انفتاح كبير لساكنة المدينة والمناطق القروية المجاورة على الخدمات الطبية الجديدة تلك، مما يقدم الدليل على تبدل في الوعي الصحي لدى غالبية ساكنة المدن المغربية حينها. ومما تجدر الإشارة إليه أن الطاقة الإستيعابية لمستشفى موشان قد بلغت منذ سنة 1915 ما مجموعه 320 سريرا، مما جعل معدل الإستشارات الطبية به تصل إلى مستويات قياسية، بلغت في المعدل ما بين سنوات 1913 و 1925، ما مجموعه 157 ألف استشارة طبية في السنة، وبلغ عدد من قضوا أياما للعلاج بأسرته في المعدل 2112 مريضا، بينما بلغ عدد أيام الإستشفاء به معدل 52 ألف يوم استشفاء، وسجل بداخله معدل 621 عملية جراحية و375 فحص إشعاعي.
كانت تتبع أيضا لمستشفى موشان مؤسسات طبية أخرى موزعة على كامل أحياء مراكش، ضمت مركزين طبيين كبيرين هما مركز رياض سيدي عيسى بمنطقة القصور، ومركز رياض موخا (قرب فندق التازي بجامع الفنا)، وكلاهما لا يزال قائما إلى اليوم، بذات الأسماء. ومؤسسة للأمومة و6 مصحات للتمريض و 17 قاعة للتشخيص الطبي والعلاجات الأولية (قاعات طبية خاصة بالأحياء السكنية الشعبية) ومستوصفين واحد منها بالمدينة القديمة خاص بتشخيص وتتبع معالجة مرضى السل أنشأته ممرضة فرنسية متخصصة في ذلك المجال الطبي، ستصبح واحدة من علامات وأيقونات مراكش هي السيدة دينيس ماسون، أول امرأة كانت تقود دراجة هوائية بمراكش منذ 1929، واشتهرت بعبارة “بالاك آسيدي، بالاك آلالة”، لكنها ستشتهر أكثر بترجمتها الجد دقيقة والموفقة للقرآن الكريم، التي لا تزال إلى اليوم هي الترجمة الفرنسية الأكثر اعتمادا في العالم. ولقد عاشت في مراكش حتى سنة 1994، حيث توفيت ودفنت بها عن سن 93 سنة وتحول رياضها الذي كانت تقيم به بالمدينة القديمة من قبل وزارة الخارجية الفرنسية إلى متحف جميل.
مثلما، نسجل بخصوص مستشفى موشان، أنه كان يتوفر على ست وحدات طبية متنقلة، يشرف على غالبيتها أطباء عسكريون، كانت تجول كل مناطق الرحامنة والحوز وأعالي الأطلس الكبير ومنطقة شيشاوة، من خلال برنامج زيارات أسبوعية متواز مع أيام الأسواق الأسبوعية أو المواسم الدورية.
في وثيقة أخرى للطبيبة الفرنسية آدريان ديكور، التي عملت لسنوات طبيبة رئيسية للمركز الطبي الخاص بطب النساء، نجد تفاصيل هامة عن قصة افتتاح تلك المؤسسة الطبية التخصصية العمومية بمراكش بالمدينة القديمة، ابتداء من سنة 1926، بطاقم طبي نسائي كامل، كان حينها تحت رئاسة الطبيبة الفرنسية ليجي. وهي المؤسسة الصحية التي حققت تواصلا كبيرا في بداياتها أساسا مع النساء المغربيات اليهوديات، ولم تبدأ النساء المغربيات المسلمات في زيارته للتطبيب والولادة والإستشفاء سوى سنة 1929. حيث تؤكد أرقام تلك السنة أن عدد الولادات للأمهات اليهوديات به قد بلغت 197 عملية ولادة، في مقابل 29 عملية ولادة فقط للأمهات المسلمات. وتواصل ارتفاع عدد الإستشارات الطبية حتى حدود سنة 1932، إلى أن بلغ ما مجموعه 53 ألف استشارة طبية، التي ما لبثت أن ارتفعت بسرعة في سنة 1936 إلى 107 ألف استشارة طبية، بينما ارتفع عدد الولادات في ذات السنة إلى 507 عملية ولادة (ضمنها 149 عملية ولادة لأمهات مسلمات). وتم بالتوازي فتح قسم للتكوين، تم فيه منذ سنة 1927 تكوين المولدات التقليديات المغربيات، مع منحهن شهادة طبية رسمية، مما مكن من تطوير أدوارهن الحيوية بكامل المدينة، وقلل بنسب هامة من وفيات المواليد وأمهاتهم.
من المؤسسات الطبية الهامة التي افتتحت بعرصة مولاي مونة بمراكش، المستوصف المتخصص في علاج ومحاربة مرض الزهري الجنسي، الذي كان يراقب منذ 1917 ما مجموعه 1445 مومسا موزعات على كامل أحياء المدينة، ممن طالتهن الرقابة الإدارية لمصالح حفظ الصحة والرقابة الأمنية، ومكنتهن من امتلاك بطاقة مهنية خاصة. وهذا يعني أن عدد من يفلتن من تلك الرقابة، غير الممتلكات لتلك البطاقة المهنية قد كان كبيرا أيضا، مما كانت نتيجته صعوبة التحكم حتى حدود سنة 1937 في الخريطة العامة للدعارة بمراكش. ولقد برز خلالها إسم الطبيب العسكري الفرنسي الدكتور ديو، الذي بدل جهدا طبيا كبيرا لحصر خريطة انتشار مرض الزهري بالمدينة وبالمناطق القروية المجاورة، وأشرف مع فريق مساعد من الممرضين ومسؤولي مصالح حفظ الصحة العامة على إلزامية التلقيح ضد ذلك المرض الجنسي المعدي، وعلى توزيع بروتوكول أدوية علاجية ورقابة أسبوعية طبية لكل بائعات الهوى المسجلات ضمن القوائم العامة بذلك المستوصف، الذي بلغ معدل الزيارات إليه طلبا للعلاج من قبل المصابين، في السنوات ما بين 1917 و1925، ما مجموعه 35 ألف زيارة استشفائية (كما تؤكد وثيقة تفصيلية للدكتور بورتو رئيس مصالح حفظ الصحة في الثلاثينات بمراكش وعلاج مرضى السل ومرضى الزهري).
ستعرف مراكش أيضا ميلاد العديد من العيادات والمصحات الطبية الخاصة منذ سنة 1912، بلغت أرقاما قياسية بالنسبة لمدينة مغربية في أول القرن العشرين، حيث سجل في الفترة ما بين 1912 و 1925، افتتاح 19 عيادة طبية لساكنة تجاوزت 190 ألف نسمة (ضمنها 31 ألف مغربي يهودي). من أشهرهم حسب تخصصاتهم المختلفة، وما وفروه من آليات طبية جد حديثة للتشخيص والعلاج، نذكر الطبيب الإسباني مانويل كنال فوينتس خريج كلية الطب بقاديس سنة 1918، الدكتور مارك فيلليب، الدكتور جورج آكيكي، الدكتور أوفسي كونيا. مثلما شهدت المدينة ميلاد المصحات الطبية الخاصة، المتقدمة جدا، لكل من الدكتور موريس جاكو والدكتور لابيدوس والدكتور هنري مودو. مثلما افتتحت بها عدد من الصيدليات ابتداء من سنة 1913، بلغ عددها سبع صيدليات سنة 1935، أشهرهم الصيدلية الحديثة للدكتور دريفوس وصيدلية أوستري للدكتور جون أوستري، وصيدلية راينو للدكتور هنري راينو وصيدلية مارتان للدكتور بيير مارتان. مثلما افتححت بها عيادات لطب الأسنان منذ 1915، كانت أولها عيادة الدكتور كاييريس.

 


الكاتب : لحسن العسبي

  

بتاريخ : 22/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *