كل هاته التطورات تتنبأ بصعوبة تجاوز البعد الرعوي للمسؤولية بالرغم من تطورات الإطار المؤسساتي، الذي أصبح يتيح ذلك أكثر فأكثر، بما يعني ذلك دستورا جديدا وإنشاء المجلس الأعلى للقضاء، إعادة تنشيط المجلس الدستوري، برلمان بصلاحيات واسعة، انتخابات نزيهة، ومجتمع مدني دينامي. والمحطات الوحيدة التي ذهبت فيها آليات تحميل المسؤولية والمحاسبة عليها إلى نهاية مطافها تصادف اللحظات التراجيدية ..
شكل توقيع اتفاقيات مع القوى الأوروبية، بلا شك، منعطفا، وقد أدت المسؤولية الناجمة عن ذلك إلى مواجهة السلطان بمفاهيم وتصورات مغايرة عن الدولة. وقد كان للاتفاقيات التي غيرت من المعطى، ومنها اتفاقية لالة مغنية 1844 واتفاقية مع انجلترا حول الحماية 1856 واتفاقية تطوان في 1860 واتفاقية مدريد متعددة الأطراف حول منح الحمايات 1880، كان لها، على الأقل، آثار. أبرزت مسؤولية السلطان كرئيس دولة إزاء القوى الأجنبية، والتي اتخذ التزامات إزاءها كما أنها غيرت من مساحة ودائرة مسؤوليته إزاء شعبه، حيث بدا السلطان مسؤولا عن رعاياه وعن تراب محدد وكل الانتهاكات التي تحدث فيه.
غير أن الحركة الحفيظية، أي المساءلة التي تعرض لها السلطان مولاي عبد العزيز من طرف أخيه مولاي حفيظ بعد توقيع اتفاقية الجزيرة الخضراء «الخزيرات في 1906»، هي التي تعطي فرصة أفضل لفهم هذا الظهور، حتى ولربما كان عابرا وجزئيا وملتبسا، لمسؤولية السلطان إزاء شعبه عبر تحوير وتغيير دلالة فعل البيعة، بحيث أن بيعة ابن المواز( أبو العباس أحمد بن عبد الواحد الحسني السليماني الشهير بابن المواز الفاسي، وهو من علماء فاس المرموقين الذين أفتوا بخلع السلطان عبد العزيز ومبايعة أخيه مولاي عبد الحفيظ، بل هو كاتب تلك البيعة الفاسية المشروطة بطرد الفرنسيين من المناطق المحتلة بالمغرب في 1908 م)، لم تكن اعترافا بالنصر بملكية تراب، بل عقدا بين طرفين : العلماء ورؤساء الزوايا والأعيان، وبين الطامح إلى السلطة، وهو هنا مولاي حفيظ. ولأول مرة كان الوضع الاعتباري للسلطان رهينا ومرتبطا بالاعتراف الدولي، فلكي يكون سلطانا كامل الصلاحيات كان على السلطان مولاي حفيظ أن يحظى بالاعتراف به كمحاور ذي سيادة مكان شقيقه، وكان هدا التعاقد بالأساس يلزمه.
ولطالما تم النظر إلى السلطان مولاي حفيظ من نظارات الحركة الوطنية، وبالأخص الاستقلال، أي باعتباره سلطانا باع بلاده من أجل المال، ومن أجل راحته، « يمكن أن نسرد موقف علال الفاسي، الذي كتب أن ما يهمنا هو أن الحركة الشعبية في المغرب كانت ترى في مولاي حفيظ رمزا لمقاومة الأجانب، وكانت تنتظر منه في ما يتعلق بالمصلحة القومية أن يقوم بإلغاء كل الامتيازات، وفي ما يخص الإصلاح السياسي إخراج الدولة .من النظام الأوتوقراطي نحو حكومة ديموقراطية تضمن للأمة السيطرة على أوضاعها وإصلاحها، غير أن الضغوط الأجنبية ورفض فرنسا الاعتراف بجلالته دفعه نحو سلوك سياسي غير منتظر اعتبره الشعب تنازلا غير منتظر من طرفه، ولهذا ثار الشعب مطالبا الملك بالوفاء بوعوده، وقد أفضت الحادثة إلى مهاجمة فاس حاضرة البلاد من طرف القوات الفرنسية وإعلان الحماية في 30 مارس 1912».
في المقابل يقدم لنا التجميع الذي قام به محمد القبلي قراءة مغايرة وجديدة لتلك اللحظة جعلت من السلطان، عكس ذلك، سلطان الحكمة والمعرفة، سلطانا عادلا قام بكل المحاولات لإنقاذ بلاده لكنه وجد نفسه محكوما بموازين القوة لغير صالحه قادته إلى التبعية، ففضل التنازل . وبالرغم من أن هذه القراءة، التي تذهب بعيدا في عملية إعادة الاعتبار للسلطان مولاي حفيظ ـ بعيدا مع ذلك عن إسلاميي البيجيدي الذين يعتبرون أن مولاي عبد العزيز تمت تنحيته من طرف العلماء- هذه القراءة مهمة لأنها تعرض علينا، لمدة العشر سنوات السابقة عن الحماية، مختلف جوانب أو فهم المسؤولية.
أولا، نجد أن تبرير الفعل الحفيظي يستند بالضبط على المسؤولية القصوى للسلطان أمام مجيء الأجانب. بالنسبة لمولاي حفيظ وأنصاره كان اندلاع الجهاد وخوضه هو السلوك المسؤول الوحيد، وهذا ما يبرر حربه ضد شقيقه، ويذكرنا العروي بذلك قائلا«: لا تتسامح قواعد الفقه في هذا الموضوع حيث السلطان مجبر على خوض الجهاد ضد العدو الكافر مهما كانت الشروط والنتائج المرجوة من هذا الجهاد، ذلك لأن نصر الله دوما ممكن وإذا لم يقم بهذا الواجب فإن جزاءه هو العزل، وهذه قاعدة عامة ليست حكرا على المسلمين، بحيث أن الأمير المنهزم يتعرض منطقيا للتضحية. وتمثل أحداث 1908 ظاهرا ثورة ضد رفض القتال، ولهذا نجحوا، وحتى الأعداء فهموا تلك الأهداف. الثورات تتشابه من حيث ميكانيزماتها لكنها تختلف من حيث غاياتها وأسبابها التاريخية… ومن الواضح أن الوضعية في مغرب تلك الفترة بكل مكوناته الاجتماعية كان وضعية تخلف وعزلة وتشاؤم واتهام الذات والآخر، وكل ذلك لم يكن ليساعد على ظهور حركة واعية وناضجة ومنفتحة على المستقبل، ثورة للتجديد والإصلاح .. وأحداث 1908 تمثل، ولا يمكنها أن تمثل، غير ثورة مضادة. »