الغرب والقرآن 5 : التشكيك في كتب التراث

التفكير في النص القرآني، وشرحه وتفسيره وحصر معناه، ليس انشغالا عربيا؛ فقد دأب المستشرقون، ومعهم الدارسون القرآنيون، على محاولة تفكيك الخطاب القرآني وارتياد علومه ومباحثه ولغاته، وتحديد نوازله ومفاتيح فهمه، وذلك في مواجهة التيارات الدينية التي تحاول فرض أساليبها بمنطق استغلاقي واحتكاري وإيماني، لا يستقيم الآن مع تعدد المناهج وطرق البحث العلمية التي تنبني على التشخيص والتحليل والتدقيق والتمحيص واستدعاء القرائن العلمية المادية والتاريخية.
يلاحظ الباحث حمود حمود أن هاوتينغ يعتمد على عدة ركائز خالية من أية نظيمات نقدية أو مقاربات منهجية بكل ما تعنيه الكلمة، ويصف تلك الركائز بـ “الأدلوجات التخمينية المسبقة”، غير المدعمة بالأدلة والنقد، ويجملها في ما يلي:
أولاً، رفض كل ما كتب في التراث الإسلامي جملة وتفصيلاً. فكتب التراث الإسلامي لا تعدو في النهاية أن تكون سوى نتيجة لتطور العرب العقلي باحتكاكهم مع ثقافات البلاد التي احتلوها (بشكل محدد، احتلال المسلمين والعرب لبلاد سورية والرافدين) من جهة، ومحاولة إعطاء “معنى” للقرآن وتفسيره، أكثر من كونها تقدم صورة تاريخية للسياق القرآني من جهة ثانية. حتى النقوش التي ذكرت آلهة بعينها (هبل مثلاً)، لقد قُرأت خطأ برأي هاوتينغ، خاصة إذا دلّت على آلهة مكية. لماذ؟ لبعد الشقة الزمنية بين تاريخ النقش وتكوّن القرآن كما يؤكد الكتاب. لذا لا بد من إعادة قراءتها. لقد كتب التراث الإسلامي كما يؤكد هاوتينغ (وقبله وانسبرو) نتيجة تطور المجتمعات الإسلامية وعقائدها وطقوسها برؤيتها هي أو تَصورها على الأقل، مُجمّعة من مصادر مختلفة. لذا لا يصح بأي حال أن تعكس لنا واقعاً تاريخياً. فكتب التراث من هذه الناحية مشكوك بها. فهو منذ البداية يطرح هذا التساؤل: “إذا كنا نمتلك القرآن فقط [أي القرآن بدون التراث]، هل سنستنتج أن الاتهامات الجدالية ضد المشركين بالضرورة أنها وجهت إلى العرب الوثنيين؟ أعتقد لا”.
يصف حمود حمود هذا التساؤل بـ”الهلواني جداً”، ويوضح الهدف منه بقوله:
“سينفق هاوتينغ من أجل الإصرار على امتلاك القرآن فقط (بدون نقد ولا تاريخ ولا هم يحزنون) ورمي كتب التراث، ليس فقط فصله الثاني كما قال هو، لا بل جل مناقشاته أثناء الكتاب”.
ثانياً، إن كل ما أشار إليه القرآن لما هو موجود في حياة العرب (ديانات، تقاليد، حتى أسماء بعينها) لا يشير إلى أي واقع تاريخي، فالنص القرآني بعينه ليس نصاً تاريخياً ولا يحوي أية إشارات تاريخية. (هذا إذا غضضنا النظر الآن عما أثاره الأستاذ نادر قريط على مقال الأستاذ محمد النجار: “الوحي المحمدي بين الدراما والتاريخ” والذي يتقاطع إلى حد ما مع سياقنا: «أعتقد أن علامات كثيرة تدفع للاعتقاد بأن القرآن والحديث واللغة العربية والخط العربي والمخطوطات المبكرة والتصورات الدينية.. لا تصلح لأن تكون خطاباً صادراً عن الحجاز، فهي تحتاج لمنطقة ذات إرث حضاري لغوي ديني لا تتوفر عليه منطقة بدوية قاحلة قليلة السكان». الكلمات للأستاذ قريط).
وهكذا فإن الاتهامات مثلاً بالشرك التي وردت في القرآن، هي عند هاوتينغ ما هي إلا نتيجة مماحكات طائفية ودينية. إن المنطقة التي حدثت فيها هذه التطورات ليست في بلاد العرب (ومن ضمنها تكون لغة القرآن وتطورها) وإنما بشكل واسع في الشرق الأوسط وبشكل أخص سورية والعراق (ص13)؛ وبالتالي ما ورد في القرآن لا يعكس أوضاع جزيرة العرب، وإنما ثقافات الشرق الأوسط في الشمال، من بلاد العرب، الجزيرة. لكن هذا لا يمنع من تواجد توحيد قوي في مناطق الحجاز.
ثالثاً، من أجل ذلك، كل ما ورد في القرآن لا بد أن يعاد تأويله سيميائيا بالعكوف على القرآن وحده، بالدوران والدوران داخل القرآن وحده، بدون مصدر تاريخي، بدون نقش بدون رسم… إلخ. طبعاً لا شك أننا سنرى والحالة هذه أن القرآن سيبقى نصاً مغلقاً معلقاً في الهواء، صامتاً، لا نعرف أصله من فصله! لا يشير إلى مكة، ولا الحجاز، ولا الكعبة، ولا يثرب، ولا حتى إلى شخص مثل محمد (الذي ورد ذكره أربع مرات على الأقل)… الخ. من هو محمد؟ في الواقع لا نعرف. ربما شخصية ابتدعته شخصيات بسبب حاجتهم إليها كمخلص لهم، وذلك أثناء جدالاتهم ونقاشاتهم!
ويستنتج حمود حمود أن “فكرة مثل فكرة الوثنية التي صورها القرآن وذكر بالاسم بعض آلهة العرب، ستتحول مع هاوتينغ إلى حقل تأويلي مؤدلج، يحاول بأي طريقة إقصاء التاريخ، وتقديمه في نهاية المطاف أنه لا يمثل سوى تصورات جدالية (بما يخص الوثنية) داخل جماعات الدين الواحد، أو حتى في جدالاتهم مع أديان أخرى. وهذا مع الأخذ بعين الاعتبار بالتوافق مع هاوتينغ أن مفردة مثل الوثنية والشركية هي مفردة غير محايدة (ص45) بالمطلق، وبشكل محدد أثناء وردوها في سياق جدالي بين طرفين (كل طرف يرمي الآخر بالوثنية لأنه لا يسير على نهجه التوحيدي بشكل تام). لكن هذا الكلام شيء، وإنكار عبادة الأوثان بالكلية في مكة وبعض بلاد العرب، أي التي أشار إليها القرآن، شيء آخر تماماً وخاصة إذا ارتبط هذا على تخمينات مسبقة غير مدعمة بأي دليل”.


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 30/04/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *