شره الأمكنة.. العالم بعدسة أحمد بن اسماعيل 7 : محراش مول النفار.. وأسطورة عودة السعدية

 

حين تتحول العدسة إلى مؤرخ فني كبير.. حين تسرق اللحظات ليس لتوقف الزمان ولكن لتعيد للوجدان كينونته.. تنفخ فيه روح الحياة المزهوة بكل ما هو جميل ونبيل.. بكل ما يجعلك تقف باحترام وانت مبهور لترفع القبعة وتنحني ببهاء ممتثلا للمشاهدة والإنصات..
هكذا جعل الفنان الفوتوغرافي المبدع أحمد بن إسماعيل آلة تصويره معشوقة دائمة محمولة على كثفه الأيسر لتجاور قلبه حيث تتناغم مع نبضات حبه التي تحولت إلى قصة عشق أبدية..
بين وضوح النهار وأثار الليل، بين الوجوه المشرعة في الساحة، في الدرب، في الشارع، في المقهى، في المسرح، في السينما، في كل هذا الكون الممتد من القلب إلى القلب..
عشق فسيح في عالم لا يلجه إلا من ينبض بالحب، ويتملى بالجمال، ويتقن فن العيش ليسكن قلوب كل العاشقين، ممن تحدثت عنهم الأساطير ، أو حتى تلك التي قد تحتاج لمعرفة كنهها وانت تتسلل في علو إلى سدرة منتهى الحب..
أحمد بن إسماعيل وهو يعبر كل تلك الدروب والازقة الضيقة شكلا، والشاسعة حبا، من حيه بدرب سيدي بن اسليمان في المدينة العتيقة مراكش، فلا يعبرها رغبة منه، أو تغريه روائح توابلها، وطلاء جدرانها، وزليج سقاياتها، وقرميد أقواسها، وطيبوبة وبساطة سكانها، إنما تقوده محبوبته، عشقه، لممارسة شغبه/ حبه الفني في التقاط كل ما هو بديع،..
أحمد بن إسماعيل حتى عندما افتتن بالريشة والصباغة والألوان، وأبدع فيها ببصمته الخاصة، لم يفارق ملهمته، عشقه الأبدي، آلة تصويره، هذه الآلة التي سنرافقها حبا فيها وعشقا لها، من خلال ما أنجبته من تحف فنية بعد إذن الفنان المبدع أحمد بن إسماعيل، لتُفشي لنا الكثير من الأسرار، وتعيد الحياة للكثير من القصص، وتروي لنا كل الروايات عن شخوص ورجال وأماكن وفضاءات، سواء في مراكش وساحتها الشهيرة أو عبر جغرافيا الحب لهذا الوطن، والتي سكنت أحمد وآلة تصويره حتى الجنون.. وهو ما ستميط اللثام عنه هذه الحلقات:

 

“عودة كالت رمضان
بالخوخ والرمان
اغفر لها يا رحمان”

تذكرت هذه العبارات التي قالها لنا أحد “النفافرية” بمراكش ونحن ننجز استطلاعا عن هذه المهنة في نهاية التسعينيات من القرن الماضي وكان معي الصديق أحمد بن اسماعيل الذي قام  بالتصوير ومن ضمنها هذه الصورة للنفافري محراش..
عندها سمعنا من نفافرية كثر عدة معلومات مهمة عن تاريخ هذه المهنة التي قدر لها أن تكون مدتها الزمانية لا تتعدى شهرا في السنة،
قالو لنا إن  عودة السعدية أو اسمها الحقيقي “مسعودة الواوزكيتية” أمّ أحمد المنصور الذهبي،  أنها أفطرت في يوم رمضاني عمدا ثم ندمت ندما شديدا ما جعلها تُحَبِّسُ كل حلييها وأموالها لفائدة «النفافرية» ليدعوا لها  بالمغفرة والتوبة.. ومن يومها كان النفافرية ينشدون تلك العبارة السالفة الذكر اعلاه
عندها تذكر المعلم محراش أيام كان يشتغل بثمن زهيد حيث يقول:
” كنخدمو بـ 30 ريال في الشهر وكانت بحال إلى قبضتي ستين ألف ريال” ويضيف:
“إننا نتقاضى اليوم 350 درهم خلال شهر رمضان تؤديها لنا نظارة الأوقاف.. هذا الأجر زهيد لكن النفافري يكتفي ب (البركة) علما أنه يلف وسط دروب وأزقة المدينة ويتم ذلك على الشكل التالي:
في اليوم الثالث من رمضان يقوم النفافرية بجولاتهم في الأحوام والدروب ويدقون على أبواب البيوت وهو نفس الشيء الذي يقومون به في اليوم الخامس عشر من رمضان، أما في اليوم السابع والعشرين فإنهم يخرجون للقيام بجولات عبر المتاجر.. وفي كل هذه الجولات يردد النفافري مايلي: “ها النفار لله يجعل البركة” الناس لايبخلون على النفافري بتقديمهم إياه عطايا من سكر ونقود وغيرها..”
الصورة هذه لمحراش أثناء انجازنا للاستطلاع ذاته واللقطة معبرة انطلاقا من الزاوية التي التقطت منها،  وكذا إبراز آلة النفار، وهنا تكمن قدرة فناننا الفوتوغرافي الكبير.أحمد بن اسماعيل.
أعادتني هذه الصورة الى ما قاله لنا أمين النفافرية المعلم رحال في المقامات والنغمات المرتبطة بإيقاعات النفار:
فالقيام الاول ويسمى السليطني ومنطوقه:
لا إله إلا لله (مرتين) ليرد عليه مساعده المتعلم: لا إله إلا لله.. وبعد التوقف لأربعة دقائق يتم البدء بالمثني ومعناه:
لا إله إلا لله ربي وحده لا شريك له هو الوحيد سبحانه.. ويرددون ذلك عن طريق نفخ    (النفار) ثلاث مرات ..
ثم ينفخ إيقاع (مريطة) بعد ما يلفون على الصومعة أربع مرات ويقولون فيها:
جاء رمضان تــــــــان تــــــــان تــــــــان
مشى رمضان تــــــان تـــــــــان تــــــــان
بعد ذلك يتوقفون أربعة دقائق لببدأوا القيام الخامس (القطاعة) وهي من خمسة أطباع أهمها إيقاع (الحضاري) ويفهم من هذا الإيقاع ما تفسيره:
تان تان تراران ـ تان تان تراران.. تم ينفخون إيقاع الكناوي ومفهومه:
هداك داو داو ـ هداك داو داو.. ويقول منطوقه:
أ للا مينة واش الرغايف طابو.. ويردد ما منطوقه: نوضي ياتا تسحري ـ النفار با يمشي.. وهي المرحلة الأخيرة بعدها يبدأ المؤذن في الابتهالات والتهاليل.
هكذا إذن تعيدنا صورة النفافري محراش الى طقوس النفافرية والروايات الأسطورية عنها، لست أدري إن كان مايزال على قيد الحياة، لكن الذي أعرفه هو أن محراش سيبقى راسخا في الذاكرة من خلال هذه الصورة لمبدعنا الكبير احمد بن اسماعيل..


الكاتب : إعداد: محمد المبارك البومسهولي

  

بتاريخ : 02/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *