«أتربة على أشجار الصبار» للروائي عبد الواحد كفيح

رواية البادية المستباحة

في رواية « أتربة على أشجار الصبار» للكاتب الروائي «عبد الواحد كفيح» الصادرة مؤخرا عن دار النشر والتوزيع أكورا، يسافر بنا الروائي إلى ربوع بادية مغربية تعيش عزلتها، ويعيش فيها الناس أيامهم العادية ويكافحون ليحصلوا على رزقهم اليومي. البادية التي سيظهر فيها فجأة شخص يدعى «بوعزة»، قال عنه البعض إنه راعي ماشية، بينما الكثيرون لم يعرفوا من أي أرض جاء إلى هذه البادية. بوعزة هذا سينشر بين سكان البادية أنه يمتلك قدرات خارقة، ويأتي بأعمال لايستطيعها سوى الجن! ثم بسرعة أحاط نفسه بأشخاص يساعدونه على نشر مزاعم خوارقه وقدراته بين سكان القرية مما جلب له التقدير والإحترام والتصديق بكل ما يصدر عنه من أعمال، فصار يتحكم في رقاب الناس وسيطر على عقولهم ويخضعهم لما يشاء إلى أن صار من كبار القوم، يأمر فيطيعه المأمورون ويفعلون كل ما يطلبه منهم، ولو تعلق الأمر بسلب الأرض والممتلكات بوثائق مزورة يشهد عليها زبانيته ومريدوه بأنها حقيقية، وليست باطلة ومزورة.
هكذا سيستطيع امتلاك والاستحواذ على بيوت الناس وقطع الأرض التي يعتاشون منها، ويسلب إرادتهم في الدفاع عن حقوقهم ومشروعية ممتلكاتهم، معتمدا في جبروته وأكاذيبه التي يروجها على رجال السلطة وأعوانها الذين وجد فيهم السند، وتواطأوا معه في كل ما يفعل من دجل وسحر وكذب وسرقة.
ستكون أسرة « الميلودية» أرملة الراحل عباس، من أكبر ضحايا الدجال بوعزة، حيث سيسلب منهم قطعة الأرض التي تحوي مسكنهم وأثاثهم، وكذا المنطقة التي يفلحونها لتكون مصدر رزقهم وعيشهم. بين عشية وضحاها ستجد الأسرة نفسها مسلوبة من كل ما تملك في الحياة، فقررت مغادرة القرية. التهجير الذي تعرضت له أسرة الميلودية سيطوحها لتقطع السبل في مناطق بعيدة ترتجي اللجوء إلى قرى بعيدة لتجد لها مستقرا، لكن تجد الاعتراض من سكانها بدعوى أن الأسرة جاءت من قرية انتشر فيها وباء قاتل، وقد كان هذا ادعاء وحيلة من اختلاق الفقيه الدجال بوعزة الذي أمر أتباعه بنشر الخبر الكاذب حتى يحتاط سكان القرى المجاورة وألا يسمحوا لمن يقتلعهم ويقوم بتهجيرهم بالسكن والإلتجاء إلى القرى المجاورة كي لا يحلموا بالعودة يوما إلى قريتهم الأصلية.
أثناء قطع الطرقات، مع رفض أهل القرى المجاورة احتضان أسرة الميلودية، سيضيع منهم الإبن « الشرقاوي» الذي سيأخذ لنفسه مسارا آخر في الحياة بعيدا عن باقي أفراد الأسرة ، حيث سيجد نفسه خادما عند أحد الأشخاص ويعيش هناك أحداثا مضطربة لم نعرف نهايتها بوضوح في الرواية.
أما الميلودية وابنها «محمد» وكنتها «يزة الشلحة» فينتهي بهم الأمر ببناء « عشة» من القصدير والكارتون والأعشاب بضواحي إحدى المدن الكبيرة، لينضافوا إلى قائمة الفقراء الذين يسكنون في العشوائيات ويشكلون بذلك أحزمة الفقر التي تطوق المدينة.
من هذه العشة العشوائية ستشمر الميلودية عن ساعدها لتتعارك مع الحياة. نعم هي معركة البقاء والوجود وإلا سيكون المصير هو الضياع. كل يوم تجد نفسها تحث ابنها محمد على مواجهة التحديات والظروف التعيسة الجديدة عليهم من أجل البقاء والاستمرار في الحياة. ابنها محمد الذي وجد نفسه مقتلعا من أرضه ومن عالمه البدوي الذي تعود عليه ويعرف تفاصيله، ليجد نفسه في جوار مدينة كبيرة لا يعرف أسرارها ولامساربها كي يستطيع أن يتدبر له ولأمه ولزوجته موردا للعيش. أمام ضعف عزيمة ابنها محمد لانعدام خبرته بأسرار المدينة وعوالمها، وعدم معرفة التعامل مع الناس فيها، وجدت الميلودية نفسها مجبرة على الإتيان بالعيش وتوفيره من أي شيء تستطيع، حتى ولو كانت أعشابا تنبت بالضواحي وتصلح للأكل. لقد رافقت نساء وأطفالا ورجالا إلى مكب النفايات تنبش وتبحث عما يصلح للبيع في مكان الخردوات، واقتحمت بعد ذلك، عالم البيع والشراء، بإيجاد مكان لها بجوار « الفراشين» تنشر فيه لبيع مختلف أنواع الجوارب، وبرعت في المهنة، إلى حد أن لقبها الناس « الميلودية التقاشر «. وبموازاة ذلك كانت تفتح لنفسها كوات في جدار الحياة القاسية عليها كي تطل من خلالها وتوسع معارفها مع أناس يمكن أن تستفيد منهم بنسج علاقات التعارف بخدمة نساء في الأحياء الراقية في المدينة. كما أنها كانت لاتتوقف عن الدفع بابنها محمد لاقتحام عالم المدينة دون خوف منها والذي صار مع تقدم الأيام يصنع له مكانا فيها، ولو بالعنف أحيانا لضمان البقاء والشغل في دروب وأحياء تمتلىء بأشخاص عنيفين، يحترفون الإجرام وبيع الممنوعات ولايقبلون بينهم، الآخر الغريب بسهولة.
ومع توالي الأيام، والكفاح المستميت والعراك الدائم مع الواقع الجديد المرير، استطاعت الميلودية وابنها محمد أن يغيرا ويبدلا أحوالهم المعيشية التي تحسنت بل ازدادت تحسنا وصارت حياة الأسرة راقية ورغيدة، تعيش بجانب علية قوم المدينة، وأثريائها في مسكن باذخ البناء. وكل ذلك حققته الأسرة بطرق غير شرعية وكأنها تنتقم من الزمن الماضي ومافعله بوعزة حين عمل على تهجيرها من القرية ومن الأرض. إلا أن هذا الإنتقام سيكون على حساب فقراء آخرين لما كان محمد يشتري براريك جيرانه السابقين في أحياء البناء العشوائي، ويعيد بناءها بالإسمنت المسلح وبيعها بثمن مرتفع، بمساعدة أشخاص نافذين في الدوائر الرسمية للمدينة، بل إن «محمد» بنفسه سيصير واحدا ممن لهم الكلمة في تسيير شؤون دواليب ومشاريع المدينة لما صار منتخبا ينتمي لنفس حزب سيده « الروبيو» صاحب قاعة السينما المعروف بجاهه وغناه الفاحش بين سكان المدينة، والذي كان مشغلا لمحمد في بداية التحاقه واشتغاله في المدينة.
وسيبلغ الانتقام مداه حين تقرر الأسرة الرجوع إلى ربوع القرية وإلى المكان الذي تم تهجيرها منه، على يد بوعزة الفقيه الذي ادعى القدرات الخارقة، عازمة على الانتقام منه بعدما امتلكت بدورها الجاه والمال والسلطة والنفوذ، لتجد أنه قد رحل إلى عالم الآخرة، ومع ذلك ذهبت الميلودية إلى القبر تنبشه، لتحدث فيه ثقبا تبول منه على جثة الفقيه الميت.
رواية «أتربة على أشجار الصبار»، هي رواية البادية المغربية بامتياز. البادية المغربية بهشاشتها وتهميشها، وبساطة سكانها وأميتهم التي ساعدت راعيا على أن يجعل من نفسه فقيها ادعى تحكمه في الجن وامتلاكه لقدرات خارقة، يستطيع بها أن يشفي المرضى ويجلب السعد لمن يفتقده، ويحقق أماني كل من يرغب في شيء، مع توظيفه لأشخاص يروجون لأكاذيبه بين السكان، بتواطؤ مكشوف وبمشاركة مع رجال السلطة، فاستطاع بذلك أن يسلب من الكثيرين منهم الأراضي والمساكن والأمتعة، بل وأن يكون السبب في تهجير الناس من بيوتهم وأرضهم ليصيروا بلا مأوى ويلجتئون إلى أحزمة الفقر فينضمون إلى من سبقوهم هناك.
وقد بذل الروائي « عبد الواحد كفيح « جهدا كبيرا في نحت لغة عربية فصحى، تحيط بعالم البادية في كل تفاصيل حياتها. ولاشك أن ذلك لا يتأتى إلا لمن خبر شؤون البادية وعاش بين أهلها وتقرب منهم للإطلاع على حياتهم وعلاقاتهم ولغتهم المتداولة بينهم، والمصطلحات التي يستعملونها في تدبيرهم لحياتهم اليومية. لغة عربية صافية، تصعد من بطن التربة البدوية وتكتبها بلونها وشكلها وبكل التفاصيل التي فيها.
وإذا كانت لغة الرواية قد نجحت في أن تكون لصيقة بتربة عالم البادية المغربية بأعرافها وتقاليدها وعيش أهلها، ونقلت باقتدار مايتعرضون له من تدليس واحتقار وتهميش وسرقة، فإن شخصيات نفس الرواية تبقى غير مقنعة أحيانا في تصرفاتها وفي بناء عالمها. فليس مفهوما ذلك الانتقال لأفراد أسرة الميلودية، خاصة هي نفسها مع ابنها محمد من حال العوز والفقر والجهل والمرض والشيخوخة إلى عالم الغنى الفاحش والسطوة والتجبر بل وقيادة احتجاجات « الفراشة» داخل أحياء المدينة ومواجهة السلطات بقوة وعنفوان !.. ثم ذلك النسيان غير المبرر لمحمد ( الأب) والجدة ويزة الشلحة ( الأم ) لابنهم «الشرقاوي» الذي افترق مع باقي أفراد الأسرة أثناء رحلة التهجير! ولم يلتقوا بعد ذلك أبدا، وكذا نسيان « الشرقاوي» لأبيه وأمه وجدته ولم يذكر أحدا منهم طوال مدة الافتراق أثناء اشتغاله عند الحاج وزوجته الصالحة، اللذين سينتهي أمرهما بالموت للحاج والسجن للزوجة الصالحة بعد تصفية زوجها الحاج برصاصة من البندقية، ليجد الشرقاوي نفسه في الأخير ينعم بالممتلكات الوفيرة والمتنوعة، التي تركاها من ورائهما!!..


الكاتب : إدريس أنفراص

  

بتاريخ : 01/03/2022