أخيرا.. صدور الأعمال المسرحية الكاملة للمبدع رضوان احدادو

 

رضوان احدادو.. رائد الحركة المسرحية الوطنية المعاصرة بمنطقة الشمال، والحارس الأمين لذاكرتها التاريخية، والواحد المتعدد في استثمار طاقاته الهائلة خدمة للفعل الثقافي المسرحي الراشد، تأليفا وتأطيرا وممارسة ومواكبة وتتبعا واستشرافا. لم يكن المبدع احدادو غريبا عن حقل الممارسة المسرحية ببلادنا، بل كانت له إسهامات جمة، وخاصة بمنطقة الشمال، ونكاد نجزم أنه لم تكتب لسواه من الكتاب المغاربة المعاصرين، هذه القدرة الهائلة على الجمع بين الولع بالممارسة الإبداعية فوق ضفاف الركح من جهة أولى، ثم بين جهود التوثيق لذاكرة المسرح المغربي بالشمال من جهة ثانية. لذلك، أصبح واضحا أنه لا يمكن -بتاتا- التوثيق لمسارات العمل المسرحي بشمال المغرب بدون الإحالة المستمرة على حصيلة رصيد منجز المبدع احدادو على امتداد عقود النصف الثاني من القرن الماضي ومطلع القرن الحالي. وأكاد أجد صعوبة بالغة في تعداد كل ما نشره المبدع احدادو بهذا الخصوص، وتحديدا على صفحات جريدة «الشمال» التي احتضنت شغب المؤلف، وسايرت مساره الإبداعي الخلاق، واستثمرت حسه النقدي والتوثيقي المجدد. من بين الأعمال التوثيقية المؤسسة، نذكر مؤلفات «مسرح عبد الخالق الطريس» (1988)، و»كتابات على جدران مدينة منسية» (2001)، و»ثريا حسن- رائدة مسرحية من شموخ» (2005)، و»محمد الدحروش- مسيرة مسرحية متوهجة» (2008)، و»محمد النشناش- الظل الآخر» (2009).
لكل ذلك، اكتسى صدور أعماله المسرحية الكاملة خلال بحر السنة الجارية (2020)، في جزأين اثنين شملا ما مجموعه 695 من الصفحات ذات الحجم الكبير، بعدا احتفائيا متميزا، بالنظر لنجاحه في تجميع سلسلة من النصوص المؤسسة التي سبق للمبدع احدادو أن نشرها على امتداد فترات زمنية متتالية. ويتعلق الأمر بمسرحية «الدم» (1977)، وبنص «الأرض والزيتون» (1979)، وبمسرحية «في انتظار زمن الجنون» (1985)، وبمسرحية «أهل المدينة الفاضلة» (1998)، وبنص «زمن مضى ولم يمض» (1999)، وبمسرحية «البحث عن متغيب» (2001)، وبنص «الحافلة رقم 3» (2001)، وبنص «طارق الذي لم يعبر» (2011)، وبنص «المتنبي يخطئ زمنه» (2012)، وبمسرحية «الباب والرأس» (2014)، وبنص «تيرينا والملاك الصغير» (2015)، وأخيرا بمسرحية «المشاء، أو الأراجيح تحلق عاليا» (2018).
وإذا أضفنا إلى هذا الرصيد الإبداعي مجموع الأعمال التوثيقية الشغوفة بتفاصيل الممارسة المسرحية بالشمال، أمكن القول إن الأمر يتعلق –في نهاية المطاف- بتجربة إنسانية خصبة، مجددة، ومبادرة، ومنفتحة على ذاتها وعلى محيطها، مما أكسبها بعدا إنسانيا عميقا وإشعاعا وطنيا متميزا جعل من رضوان احدادو رائد مجال اشتغاله في تقاطع مع عطائه الموسوعي الذي غطى مجالات شتى. ولعل هذا ما أدركه الأستاذ عبد الكريم برشيد بحس مرهف، عندما قال في كلمته التقديمية للأعمال الكاملة: «رضوان احدادو هو كاتب أولا، وتحديدا هو كاتب مسرح ثانيا، وهو فاعل جمعوي ثالثا، وهو مناضل سياسي رابعا، وهو مؤرخ للحركة المسرحية في شمال المغرب خامسا، وهو مواطن مغربي بحس عربي أمازيغي موريسكي إفريقي، وهو مبدع بنزعة إنسانية وبرؤية كونية شاملة سادسا، وهو شاعر بجبة ثائر، وهو فنان برتبة ساحر، وهو كاتب بدرجة عراف ومتنبئ، وقبل هذا وذاك، فهو إنسان احتفالي، يعشق الحياة، ويعشق الجمال، في الناس وفي الأشياء وفي العلاقات الإنسانية الجميلة، وهو يكتب من أجل غد ينبغي أن يكون أجمل، وأيضا من أجل تأسيس معرفة مفيدة وممتعة، ومن أجل فن يجمل هذا الواقع، ويجعله يراجع كل حساباته، ويتراجع عن أخطائه وعن أغلاطه، وهو في كتاباته المسرحية يفكك هذا الواقع، بحاضره الآني وبماضيه التاريخي معا، ويعيد تركيبه أدبيا وفنيا وبشكل يكون فيه هذا الواقع الأدبي والفني مقنعا، ويكون ممتعا، ويكون له معناه ومغزاه. هو بالأساس كاتب مسرحي، والمسرح لديه ليس فرجة، وليس لهوا، وليس حرفة، وليس نميمة، وليس فضولا، وليس صناعة بسيطة، ولكنه شيء أكبر من ذلك وأخطر من ذلك، وهو مثل كل الاحتفاليين يؤمن بأن الأصل في هذا العالم الذي نحيا فيه هو أنه مسرح كبير…» (ص ص. 5-6).
لقد استطاع المبدع احدادو إعادة تكييف عوالمه المعيشة، وإعادة تأثيث مكونات الواقع المركب، في سعيه لإنتاج نصوص على نصوص، وخطابات على خطابات، واستيهامات على استيهامات. ونتيجة لذلك، اكتسب صفاته المخصوصة في الكتابة، بل وفي صناعة المتون المسرحية قبل تطويعها لإعادة تكييفها مع ضرورات التجسيد فوق فضاءات الركح. لم يستكن رضوان احدادو لتمارين الميلاد والتأسيس، ولم ينبهر بتقليعات «الحداثة المعطوبة» في انفتاحها على الكتابة المسرحية، بل سعى إلى إنتاج نصوصه الحميمية، وفق عدة مرجعية تنهل من درس التاريخ، قبل توظيف مضامين هذا الدرس لتفكيك انكسارات الزمن الراهن وانتظاراته المؤجلة وأحلامه المجهضة. يتحول درس التاريخ في نصوص رضوان احدادو إلى ملهم لعناصر التحفيز على خلخلة اليقينيات التي تكبل الواقع وتدفع به في اتجاه موجات الردة والتكلس والسقوط. تنهض شخصيات مثل طارق بن زياد وأبي الطيب المتنبي، لتخترق أزمنتها ولتعبر المسافات الزمنية والجغرافية، قبل أن تتحول إلى ضمير جمعي لتفكيك الواقع الراهن، أو لإعادة أنسنته، أو لتشريح تناقضاته وسقطاته. وفي كل ذلك، استطاع المبدع احدادو اكتساب لغته الشفيفة التي لا تشبه إلا شخصية مبدعها. ولقد أحسن الأستاذ عبد الكريم برشيد اختزال سمات هذه اللغة، عندما قال: «ولعل أهم وأخطر ما يميز هذه الكتابة الاحتفالية، عند الأستاذ رضوان احدادو، هي أنها تشبه كاتبها أو قارئها المناضل الاحتفالي في كل شيء، فهي متحررة مثله، وهي مفكرة مثله، وهي جريئة مثله، وهي قلقة مثله، وهي مجنونة جنونا عاقلا مثله، وهي سائلة ومتسائلة مثله، وهي مشاغبة ومشاكسة مثله…» (ص. 11).
وبهذه الصفات، استطاع المبدع احدادو اكتساب عناصر فردانيته المبدعة، واضعا نقاط الفواصل المميزة لتجربته الفريدة التي لا تشبه إلا ذاتها، بعد أن بادر بتجاوز الرؤى التقليدانية في الممارسة المسرحية الوطنية المعاصرة. ولعل هذا ما جعل كثيرا من النقاد ومن المتتبعين يعتبرون رصيد منجز المبدع احدادو إحدى علامات الضوء المشعة داخل عناصر التجديد والريادة للمشهد الثقافي بمنطقة الشمال، بل هو إحدى ركائز جهود التوثيق للإبدالات التاريخية لهذا المشهد الأصيل والمركب، الفريد والمتجانس، الرصين والصاخب. وعلى هذا الأساس، فإقدامه على تجميع نصوصه المسرحية المنشورة على امتداد الأربعين سنة الماضية، يعتبر مدخلا لتوفير عناصر الدراسة لكل جهود كتابة التاريخ الثقافي لمنطقة الشمال، ولتطور ذهنياتها الرمزية بحمولاتها الحضارية المميزة.
ولقد أجمل المبدع احدادو معالم هذا البعد، عندما قال في مقدمة عمله التجميعي: «اللحظة أعود إلى أعمال كتبت يومه بحبر الشهقة والدهشة والريبة واللهفة، تتجمع أمامي من خلال هذه الأعمال الأزمنة في زمن واحد، هكذا ولكأني دفعة واحدة أعيد كتابة كل تلك الكتابات.. مسرحيات أجدها الآن أعمارا في عمر وحيوات في حياة.. مسرحيات مضغوطة معتقة في مسرحية واحدة، ولكأني أقرأها لأول مرة،… ولكأن الزمن قد توقف حتى تبقى شاهدة وشاهدة على زمنها…» ( ص ص. 21-22).
مع هذه النصوص الثرية، يتحول رضوان احدادو إلى شاهد على الزمن الثقافي وعلى العصر، وإلى قارئ للتفاصيل، وإلى باحث عن النص المشتهى، حيث البحث عن التغيير، وعن العمق الإنساني، وعن استثمار التاريخ من أجل تكييفه مع قيم الخلق والإبداع، المنتجة لقواعد السكينة والطمأنينة والجمال.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 13/11/2020