أدب الهجرة السريّة والتاريخ الحضاري المغربي – الإسباني المشترك .. نماذج من الرواية المغربية و الإسبانية

في غفلةٍ من زمنِ اللاّمبالاةِ والتّفاهةِ والرّداءة، ستَنضافُ كَمّاً وكيفا خلال العُشريّةِ الأولى من هذا القرنِ إلى ريبّيرتوار الآداب والفنون المغربيّة العشراتُ من الأعمالِ الرّوائيّةِ و القصصيّةِ والشِّعريّةِ والمسرحيّةِ والسّينمائيّةِ و التّشكيليّةِ ولمّا لم تَلق بعدُ نصيبَها من المعالجةِ القرائيّةِ و النقديّة، وهي التي أعلنتْ عن بداية مرحلةٍ تاريخيّةٍ ومَفصليّةٍ في الأدبِ المغربيِّ بقيّامِ أدبٍ جديدٍ سيُسمّى «أدب الهجرة السريّة»، و بُزوغ جيلٍ جديدٍ من بلاغِيِّي القُبْحِ والألمِ والقسْوةِ والقُنوط…
هذا الأدبُ الذي لن يَكون سوى امتداد طبيعي و طلائعي- بإملاءِ المتغيّرات- لبدايةِ الأدبِ المغربيِّ بنصٍّ «هِجْرَوِيٍّ»، هو كذلك بالِغ الأدبيّة و الشعريّة.. خطبة طارق بن زيّاد. هذا النّصُّ الرّفيعُ الذي سيَكون له ما بَعدَه مع نصٍّ رحليٍّ لرحّالةٍ مغربيٍّ سيُوقِد جَذوةً لا تنطفىءُ في أدب الرَّحلة بالمغرب، وسيترّبع بلا مُنازعٍ على عرش كتابة أدب الرّحلة على الصّعيد العالَميّ.. ذلكُم هو ابن بطوطة اللوَاتيّ الطّنجيّ.
وما كان للهجرةِ السريّةِ أبداً أن يَكون لها أدبٌ هكذا بجَرّةِ قلمٍ لولا أنّ صُنّاعَهُ قد تجاوزوا ترصُّدَ وتصيُّدَ المشاعرَ الإنسانيّةَ الأليمةَ المتدفِّقةَ الباديّةَ للعَيان لدى المهاجر السرّيِّ من مَبلغ الخوْف والترقّب والفَقد والمرارة… إلى النّفاذِ إلى ذاكِرتِه ومِخيالِه ورُوحِه حيث هناك وعيُه بالمُشترَكِ التّاريخيَّ والحضاريَّ بينه وبين أناس الضّفة المجاوِرة لا يزال في تمام يقظتِة.
وهنا، قد يبدو من البلاهةِ والمُضحِكِ والمثيرِ للسُّخريّةِ والشَّفَقةِ بمكانٍ، الحديث عن الوعْي بالمشترك التّاريخيّ والحضاريّ في حضرة المهاجر السرّيِّ المغربيِّ، هذا الذي لابدّ و أن يَكون، في الغالِب، قد أنهكَهُ الجهلُ والفقرُ والأمّيّةُ… غيْر أنّ هذا الاعتقادَ سرعان ما سيَتبدّدُ بمجرَّدِ استحضارِ ذكائِه العجيبِ، وتاريخِ بلادِه الثقافيِّ والحضاريِّ العريق، وتاريخِه «الهجرويّ» السرّيّ من حيث لا يَعدِم بيتٌ مغربيٌّ مهاجراُ قانونيّاً أو سريّاً منذ العربي الشطّ في القرن الثامن عشر (1). هذه الهجراتُ التي لم تَكُن في يَومٍ من الأيّامِ من أجل الخُبز، ولكن لأجل شيءٍ ما ؟!.. شيءٌ سيَجعلُها على مستوى التّجربةِ والكتابةِ مفتوحةً على الدّوامِ لا على الاستماتةِ والإماتة، ولكن على حُبِّ الإكتشافِ والمغامرةِ وارتيّادِ الآفاق… ممّا سيَنحتُ لها، بالفعلِ وبالقوّةِ، خانةً في الأدب.
ولعلّ وعْيَ المهاجرِ السرِّي المغربيّ بالمشترَك التاريخيّ والحضاريّ المغربيّ الإسبانيّ كان مُحرِّكه نحو الهجرة إلى إسبانيا، و الأندلس بالتّحديد!
هذه الهجرةُ التي ستواكبُها كتاباتٌ جديدة، في مُجمَلِها جيّدةٌ و جادّة.
و من بين التي توفّرت لها العُدّةُ الأدبيّةُ والثقافيّةُ والفكريّةُ للنّبش في أعماقِ هذا المشترَكِ، تَنهضُ»يوميّات مهاجر سرّي» للكاتب والإعلاميّ المغربيّ رشيد نيني. (2)
ففي إسهامِها في إضاءة المشترَك التاريخيّ والحضاريّ المغربيّ الإسبانيّ، ما لا تُخطِئُهُ العَينُ منذ الصَّفحاتِ الأولى عند حديثِ نيني عن فظاعةِ ألاّ يَهتمّ المواطنُ الإسبانيُّ بتاريخه، وبخاصّةٍ في شِقّهِ الكبيرِ المتعلّقِّ بالمشترَك مع جارِه المغرب، وفضحِه عدم فهم الإسبَان إيّاه.
وهكذا نقرأُ بدايةً من الصّفحةِ الخامسة:
«على قمم بعض الجبال نرى أحيانا حصونا قديمة ومتهدمة. أشير نحوها وأقول لميرتشي أن تنظر. «هنا كنا قديما نقطن»… ميرتشي لا تفهم في التاريخ. تحب الشوكولاتة أكثر من رؤية القلاع المتهدمة.»
كما يَفضح نيني تقديم هذا المشترَكَ للقارئ والمُشاهدِ الإسبانيِّ بصورةٍ مغلوطةٍ و فاحشة:
«هناك قصة تجسد كل سنة في شوارع هذه المدينة. اسمها «موروس وكريستيانوس». محتوى القصة أن ملكا صليبيا سيأتي بجيشه عند ملك عربي. وسيقف أمام باب الحصن وسيقنع الملك العربي بمغادرته عن طريق إلقاء قصائد شعرية. هكذا يخرج الملك العربي يعود إلى أرضه وراء البحر صحبة جنوده. ثم يدخل الملك الصليبي الحصن… بدت لي هذه الطريقة في رواية التاريخ للأجانب طريقة ظريفة. ليس هناك داع لتذكير الأجيال الجديدة بما وقع حقا للعرب عندما طردوا من الأندلس. محاكم التفتيش. التقتيل. الطرد الجماعي. كل هذه الأشياء لن تنفع في جلب السياح.» ص.28- 29.
«في بعض القرى النائيّة التي ذهبنا إليها للعمل في حقولها، لا يكاد الناس هناك يعرفون شيئاً عن المغاربة. كل ما يعرفونه يعود إلى الأساطير القديمة حول الموروس الذين كانوا يجوبون أرضهم، والذين طردوا شر طردة. هذه الحكايات يتداولونها أبا عن جد. وكلها تروي تاريخاً عجائبياً مليئا بالمغالطات.» ص.62
وإن كان الكاتبُ خلال أشهُرِهِ الأولى مع الإسبَان يجد «صعوبة كبيرة في تفكيك نظام تفكيرهم» ص.61، فإنّه بدهائِه سيَصلُ عن كَثب إلى حقيقةِ وعْيِهم بمشترَكهم مع المغاربة، على الرَّغمِ ممّا بُذِل ولا يزال لتجذيره. وهذا، بأسلوبٍ أدبيٍّ رفيع، غنيٍّ بالدّلالات كما نقرأ في هذا المَقطع:
«أمس رتب ألفونسو الكؤوس الفارغة داخل آلة الغسيل ونظر إلي باسما وسألني حول ما إذا كنت أعرف أبا عبد الله أو عبدول كما نطقها هو. تعمدت تجاهل الجواب لكي أعرف جوابه… أجابني ضاحكا أن الملك المورو كان يجب أن يخرج من غرناطة على كل حال لأن الملكة إيزابيل والملك فيرناندو زوجها كان يجب أن يعتليا العرش، لأن زمن الموروس بالأندلس كان قد انتهى إلى غير رجعة. قلت له ممازحا إننا نعود الآن من جديد… ضحك ألفونسو وقال إن الفرق شاسع بين أن تأتي إلى بلد ما باحثا عن الخبز، وبين أن تأتي غازيا. الغزاة لا يجتاحون بلادا فقط لكي تتقوس ظهورهم في قطف الطماطم… و فكرت أن ألفونسو على حق. الغزاة ليسوا هكذا. لم يكن أجدادنا يدلكون العجين في الأندلس. لقد قضوا قرونا طويلة في صناعة مجد كبير» ص. 84-85.
وفي المقابلِ، وعلى الواجهة المقابِلة في الضفّة الشماليّة للبحر الأبيض المتوسّط، يَسُوءُ بشكلٍ فظيعٍ لدى أغلب أدبائها وفنّانِيها، وإعلاميِّيها ومفكِّرِيها، وناسِها عموماَ، الوعيُ بالمشتركِ التاريخيِّ و الحضاريِّ مع الضفّة الجنوبية، ومَردُّ ذلك إلى أمور شتّى نذكُر منها ما جاء على لسان بعض من المؤلفِين الإسبَان القلائل الذين يتميّزون عن نقيضِهم بالاحتكام في كتاباتهم إلى الواقع التّاريخيّ والجغرافيّ والطّبيعيّ والبشريّ المشترَك بين بلدَا الضّفتيْن، وبالتّالي الإسهام في مدِّ الجُسور بينهما. وهم على التّوالي: أنطونيو دي بيينا، بيدرو مارتينيث مونتابت، خوان غويتيصولو:
– نحن الإسبان عنصريّون بسبب عدم تعوّدنا على التعامل مع الآخر».(4)
– عندما يحاول الإسبانيّ دراسة الأندلس في أبعادها المختلفة، فإنّه يفشل ذلك، ويقتصر على دراسة ما هو مرتبط بالأندلس من خلال هويّته وماهيّته ولا يتعدّى ذلك لدراسة ما يهمّ هويّة و ماهيّة الآخر. (5)
– هذا المجتمع، رغم مرور ربع قرن على عودة الديموقراطيّة، ما زال بعيداً عن الديموقراطيّة». (6)
وممّا قد لا نجد له مثيلاً في الأعمال الأدبيّة الإسبانيّة المتصالحة مع تاريخ بلدها، والمتحرّرة من الأحكام الجاهزة تُجاهَ جارتها وجيرانها الجنوبيّين، وبالتّالي المتفانيّة والفانيّة في إشعاع وإشاعة المشترَك التاريخيّ والحضاريّ بين الضّفتيْن، وذلك عبْر قنطرة الهجرة:رواية «لماذا يجب أن أهاجر» لكُونْتْشَا لُوبِّثْ سَرَسُووَّا
Concha Lopez Sarasua,Porque tengo que emigrar
وهكذا، تَنهض معظَم أعمالِ هذه الكاتبة، وروايتُها «لماذا يجب أن أهاجر؟» بالخصوص، بتناوُل العلاقات بين مختلف ثقافات جنوب حوْض المتوسّط، محكومةً بهاجس التّقارب بين الثّقافات، ومعالجة إشكاليّة الهجرة من زاويّة جديدة، لتعرِّف شباب إسبانيا على حقيقة ما يجري لشباب المغرب في الضفّة الأخرى من المتوسّط، وتنقل لهم رؤية أوضَح عمّا يَحدث، وهي تُراهِن على الاختلافِ والتنوُّعِ والهُجنَةِ المتوسطيّةِ والذّاكرةِ المشتركةِ بين المغرب وإسبانيا.
وهي في كلِّ هذا تمتحُّ من الأدبِ الأندلسيِّ و الصّوفيِّ، ومن الفنون السرديّة الشرقيّة، والانجذاب إلى الحكّائين المغاربة، جامعة بذلك بين الشرقيِّ والغربيِّ من أجل الدّفاع عن ذاكرةٍ مشترَكةٍ متوسطيّةٍ أصيلة.
ولقد عاشت هذه الكاتبةُ في المغرب ما لا يقلّ عن عشرين سنة، قضت منها فترةً لا يُستهان بها في حيِّ قصر البحر بمدينة الرّباط، ما سَمح لها بالوقوف عن كثبٍ على التّراثِ المادّيِّ المشترَكِ بين البلدين، من المباني التراثيّة، والمواقع الأثريّة، والتحف الفنية… وغيرها من الموادّ الملموسة. كما وقفت على التّراثِ غيرِ المادّيِّ المشترَك، من فنون الطّبخِ واللّباسِ والحِلِيِّ والموسيقى والأدبِ والفنونِ والعلومِ والفلسفةِ والفكر.
فلا غَرابة إذن في أن تَكون أغلب عناوين قصص روايتها، السّبع عشرة ، حوْل هذا المشترَك التّراثيّ.
ولا غَرابة أيضاً في أن تَجعل بطلة روايتَها هاته، الطفلة المغربيّة حفيظة، ترفض رفضاً قاطعاً مغادرة بلدها بالهجرة إلى إسبانيا.
نقرأ في قصّة «في البحث عن مَخبإ» ضمن الرّواية:
«مباركة مستمعة جيّدة، ستشرح لها كيف أنّها لا تريد أن تهاجر، أنّها ترفض الذهاب، أنّ بلدها لا يبدَّل و لا مجال لمقارنته مع أيّ بلد كان، لا بمنزلها، لا بمَدرستها و معلّمها، لا بأيّ شيء كان… كيف لها أن تغيّر كلّ هذا؟ لا يمكن.» ص. 35-36.
وهنا لفت انتباه «الحرّاك» المغربيّ إلى هويّتة المتجذرة في جميع مناحِيها، وليس له من مَكسب إلاّ ما يُشرِكه فيها مع جاره في الضّفة الأخرى، وما عدا ذلك سوى إلدورادو واهِم.
أو كما قال نيني في يوميّاته: «أشرح لبعضهم أحيانا أن المغرب مثله مثل إسبانيا. سوى أن إسبانيا توجد في أوربا والمغرب في إفريقيا. وبيننا البحر بكل أزمنته الشاسعة التي تفصل بين القارتين.» ص.62

المصادر

1- يَعُدُّه الدّكتور عبد النبي ذاكر من أوّل المهاجرين السريِّين المغاربة في القرن الثامن عشر.
2ـ منشورات عكاض، الرّباط،، ط.2، 2006.
– 3Ibersaf Editores, Madrid, Primera edicion, 2009
ترجمها إلى العربية رشيد أبوالصّبر. و راجعها و قدّم لها د. عبد النبي ذاكر. منشورات كليّة الآداب و العلوم الإنسانيّة – أكادير- 2020.
4- أكمير، عبد الواحد: الهجرة إلى الموت: إسبانيا و أحداث إليخيدو، تقديم محمد العربي المساري، منشورات الزمن، الكتاب28، مطبعة النجاح الجديدة – الدارالبيضاء- 2001، ص23.
5- أكمير، عبد الواحد، نفسه، ص134.
6- أكمير، عبد الواحد، نفسه، ص23.


الكاتب : رشيد أبو الصّبر

  

بتاريخ : 19/12/2023