أسئلة التحول والانبثاق في الكتابة المسرحية الراهنة.. يوسف الريحاني وقلق «موت وحياة المسرح»

 

هل بإمكان المبدع كتابة سيرته الذهنية؟ وما هي حدود النزول من الأبراج العاجية لأوهام النخبةمن أجل طرح الأسئلة المقلقة في فعل التجديد؟ وكيف تتأسس منطلقات القطع مع أصناف التراث التي تُبقي قبضة الأموات متسلطة على رقاب المبدعين؟ وما قيمة التوثيق لإبدالات حقل التاريخ الثقافي بدون اكتساب الجرأة الضرورية لتكسير الطابوهات ولتجاوز الكليشيهات المستنسخة والقوالب الجاهزة والمتوارثة لإواليات الفعل الإبداعي؟ وكيف يمكن للبحث التاريخي أن يعيد تفكيك عناصر التميز التي تنتج قيم الفردانية والحرية والجرأة والنقد في كل فعل إبداعي مجدد، ومستشرف لقارات الخلق والتجديد؟ وكيف يمكن لنزوعات الصرامة في محاسبة تلاوين “سوق الإبداع” أن تعطي للتاريخ الثقافي الوطني قوته النقدية الكفيلة -لوحدها- بتحويله إلى طاقة هائلة لإنتاج نصوص على نصوص، وأعمال على أعمال، وعوالم على عوالم؟
أسئلة متناسلة، تفرضها القراءة الفاحصة لمضامين كتاب “موت وحياة المسرح”، للأستاذ يوسف الريحاني، الصادر سنة 2016، في ما مجموعه 180 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. ويمكن القول، إن هذا العمل يشكل استقراءا لمجمل منعرجات التجربة الفنية للمبدع يوسف الريحاني مع عوالم الخلق والإبداع على ضفاف الركح، مؤلفا ومخرجا وممثلا، وقبل ذلك مثقفا وباحثا أكاديميا وقارئا نهما ومواكبا فريدا لخصوبة بنية التحول داخل التجارب المسرحية المغربية والعربية والعالمية. وبهذه الصفة، استطاع المبدع الريحاني وضع المنطلقات الإجرائية لكتابة سيرته الذهنية، من خلال التأمل التشريحي في أسئلة البدايات، وفي التلقين المدرسي، وفي التلقي الانطباعي الجنيني، ثم في نخلة التحليق داخل عوالم التميز والفرادة التي تظل سمة مميزة لكل فعل إبداعي حقيقي. لم يتبع يوسف الريحاني أسلوب الكتابة الخطية الكرونولوجية لسيرته الذهنية الذاتية، ولم ينشغل بهوس “الأعمال” ولا ببريق التغطيات الإعلامية التنميطية، ولا بردود أفعال الجمهور الخامل وغير المستعد للانخراط في متاهات أسئلة الخلق والإبداع والنقد، ولكنه -في المقابل- نحا نحو التأصيل للممارسة المسرحية ولخطابات إبدالاتها المرجعية، انطلاقا من تكوينه ومن قراءاته ومن إبداعاته ومن مساراته الأكاديمية والإشعاعية. ولعل ذلك ما أضفى على الكتاب مواصفات غير مألوفة، سواء على مستوى كثافة المضمون وعمقه، أم على مستوى شكل تقديم هذا المضمون وتنويعه بالجمع بين المتن السردي السير-ذاتي وبين التحليل الأكاديمي التشريحي وبين المنحى التوثيقي الصرف ثم بين المواد البصرية الموازية ببعدها الجمالي المثير وبدلالاتها الرمزية العميقة.
تنساب لغة يوسف الريحاني سلسة، دقيقة، وبعيدة كل البعد عن كوابح الإطناب الذي يعيد “تدوير” الأفكار والمواقف. تقارب تعابيره أفقه الرحب المنتشي بقيم بديلة في الممارسة المسرحية مثل “موت الممثل” و”تواري الجسد” و”عودة الضوء” و”متاهات الظل”، فتنتج متعا لامتناهية للاحتفاء بالعوالم المسرحية المخصوصة لصاحبها. يقول راسما سقف الكتابة لديه: “لست أريد بكتابي هذا أن أجادلك سعيا إلى إقناعك بشيء ما، فذلك مطمح الراغب في زعامة، ولقد أقلعت منذ أمد عن التبشير بأية أفكار، لأن المبشر باتجاه أو مدرسة إنما هو مشروع زعيم فشل في السياسة فاحتمى بالفن وجعل منه ضريحه وقبته المقدسة التي من خلالها يستميل أتباعا لحزبه الموءود. مطمحي لو قُدر لهذا الكتاب أن يقع بين أيديك أن يدفع إلى شحذ مزيد من الإحساس نرتكز عليه في تدبر الأمور، فهذا ما يمنحنا شجاعة مراجعة المواقف والآراء من الفن كما من الحياة. الإحساس ولا شيء غيره هو طريق الحق وسبيله ليعبر إلى قلوبنا…” (ص.14). ويضيف راسما معالم مساره الشخصي المرتبط بانشغالاته الثقافية والفنية، قائلا: “ولدت في أقصى شمال غربي من رقعة جغرافية شاسعة ناطقة بالعربية، ولكن أيضا بلغات أخرى: تريفيت، إسبانية وفرنسية. ولدت عند حد فاصل بين شمال وجنوب/ شرق وغرب/ بين جغرافيا حسبت على الإسلام وأخرى على المسيحية.. ولطالما اعتبرت أنني ولدت في فضاء يتماس فيه زمنان يبدوان وكأنهما مختلفان في كل شيء. نشأت في مدينة يتحدث فيها الجميع ويعتز بريادة مسرحية عرفت أوجها في فترة تصادم بين أزمنة وحضارات ومعتقدات متنافرة، فولدت من رحم كل ذلك حروب وصراعات.. ولكن أيضا معمار حديث وهندسة غير مألوفة، حررت تطوان من الأسوار التي سجنتها لقرون خارج التاريخ ومحت لدى ساكنتها كل إحساس بالزمن. احتضن هذا المعمار الكولونيالي بنايات فنية ومسرحية ودور سينما ومدارس موسيقية وتشكيلية بدأ الإسبان في تشييدها منذ نهايات القرن التاسع عشر وكانت بمثابة صلة وصل بين قديم وحديث، بين انغلاق وانفتاح، بين عبودية وتحرر. لم يقض لي أن أحيا نهضة بدايات القرن الماضي ونزوع حركاته الإصلاحية نحو العصرنة إلا في روايات السابقين ومقالاتهم وما خلفوه من ملصقات وصور باهتة، ولأنني ولدت بعد ذلك بسبعة عقود كاملة في فترة شهدت انتكاسة لكل مساعي العصرنة، فقد كان لابد وأن أتقمص في بداياتي دور عصام الدين الذي توله بعشق ما مضى، فقط لأنه لم يشاهده ويعايشه عن قرب…” (ص.14-15).
في هذا الإطار، انشغل يوسف الريحاني بأسئلة الهوية، وحاول القبض بتلابيب مسلماتها، لكنه انتهى إلى اختراق الآفاق وإلى تطويع الحدود، مساهما في تكسير اليقينيات الجاثمة على دوائر ما سماه أمين معلوف ب”الهويات القاتلة”. يقو الأستاذ الريحاني بهذا الخصوص: “قيل لنا منذ الصغر بأن الهوية هي أصل وبصمة، وعلمتني الموسيقى بأن الأصل وهم من الأوهام التي توارثناها دون فحص. قيل لنا بأن خصوصيتنا هي ما دمغه الأجداد وعلمتني الموسيقى بأن ما لا ينضبط للإحساس باللحظة وتنويعاتها، إنما يعاكس قانون الوجود. كلما أصغيت إلى باخ أو إلى أرفو بارت إلا وتعزز يقيني بنبذ الزخارف والعودة إلى البراءة الأولى لما قبل اللغة.. بنبذ كل جدال عقيم حول الميت، إذ لا معنى لخطاب غير صادر عن إحساس بالزمن، وحده الحي من يتنفس هواء الزمن…” (ص ص. 15-16).
وفي انسجام تام مع هذا الموقف المبدئي، يعيد يوسف الريحاني طرح الأسئلة المغيبة حول واقع المسرح العربي وحول شروط التلقي التي صنعت/ وتصنع نكسته المزمنة. يقول بهذا الخصوص: “ما هو شكل المسرح اليوم في مجتمعات وجدت ملاذها الروحي في الانغماس في الماديات ورهنت وجودها من خلال منظومة القيم الكونية، وخلاصها الاقتصادي في إلغاء الحدود والتعريفات؟.. ما هو شكل المسرح في عالم اليوم الذي ينحو رغم الصراعات والحروب التي لا تتوقف إلى أن يتخذ من نفسه شكل سوبر ماركت كبير ومفرط في نزوعه نحو استهلاك كل شيء؟.. بالتأكيد، قد يتخذ هذا المسرح أي شكل إلا هذا الزي الرث الذي لازلنا نصر في جماعتنا الناطقة بالعربية على استمراره بالقوة بدعوى حفظ التراث وصيانته؟ من ماذا؟.. من الزوال؟.. وهل لسيرورتنا أن تتحقق إلا من خلال الفقدان…” (ص.16).
لا شك أن الموقف القاسي المنبثق من هذه الأسئلة المحرجة، أكسب يوسف الريحاني الجرأة على الإعلان على رؤوس الأشهاد عن موت المسرح، وعن انبثاق الذات الباحثة عن عشقها المشتهى وعن مآلها الفرداني المنتظر. يقول المؤلف: “خرجت من رحم كل ذلك بهذا الكتاب الذي أوده إعلانا لموت مسرح يحتضر وميلاد فن آخر على أنقاضه في ثوب جديد. تذكر بأنني أعرض ما في وجداني ولا أفرضه.. تأمل واشحذ إحساسك، وأينما ملت، سيتجلى لك الزمان بصخبه وهدير تياراته الجارفة. سترى بأن كل شيء خارج ذاتك الضيقة هو الأكثر رحابة وجمالا، أما إذا ترددت وأحجمت، فسينحصر عنك جوهر الوجود، وستغدو معك الحياة في أوج بخلها. المسرح الحي كما الفن الحي كما الوجود الحي.. لا يزال هناك بعيدا.. في أقاصي الخارج..” (ص.20).
وبما أن الأمر يتعلق بكتابة مقلقة لليقينيات المتوارثة، وجد يوسف الريحاني نفسه في خضم يم بلا ضفاف للتأصيل لعوالمه الإبداعية المخصوصة، بدءا ببلورة فهم مجدد للفعل المسرحي، وانتهاءا برسم خطوط العلاقة البديلة والمفترضة مع “الجمهور”، ككتلة للتلقي، وكآلة للاستهلاك، وكنظيمة للتقليد. يقول في هذا الإطار: “كيف نخلص الجمهور من وهم التماهي؟.. بزعزعة ثقته الزائدة في نفسه وفي قدرته السهلة على الفهم السريع.. الفهم السريع للأحداث البسيطة يزرع في الجمهور وهم القوة المفتعلة. علينا أن ننزع البداهة من كل الأحداث.. علينا أن نجعلها مستعصية على الفهم البسيط.. الواقع مركب، وأحداث المسرح ينبغي أن تكون في مثل تركيب الواقع المعقد.. متشذرة.. متقطعة.. مركبة. لنزع التماهي، سنسعى إلى تبسيط عظيم في الأجهزة وفي أساليب العرض ومواضيعه.. نحتاج إلى البساطة الجميلة في التمثيل، مع استئصال الرمزية… ما الهدف الأعلى للمسرح؟… ألا نبكي على الواقع لنخفف من إحساسنا بثقل الواقع؟ لأن نغير هذا الواقع.. كيف؟.. بتغيير علاقاتنا به.. دموع العالم لم تغير العالم، وليس بوسعها ذلك أبدا.. المسرح قطار سريع.. كلما انطلق إلا وقهر كل تيارات الهواء…” (ص ص. 49-50).
وعلى هذا المنوال، فتح يوسف الريحاني نوافذ قلعته الإبداعية حتى تهب الرياح الكافية لتحريك البرك الآسنة تحت الجسر. يقرأ أرصدة المنجز العالمي، ويستنفر أدواته النقدية في البحث عن أصول ممارسة مسرحية مستقلة عن الدولة وعن الهيآت وعن التيارات وعن كل ما يقع خارج مغارات الذات المبدعة. يستلهم تجارب أسماء رائدة، ليعيد الاحتفاء بألق العطاء والتميز والتأسيس، مثلما فعل عند استحضاره لأسماء شكسبير، وبيكيت، وكولتيس، وعبد الكريم برشيد، وعبد الكبير الخطيبي، ومحمد تيمد، وعبد اللطيف اللعبي، وامحمد بنكطاف، ويوسف فاضل، ونبيل لحلو. يعلنها ثورة ضد القديم، وضد التقليد، وضد الاستنساخ. فيفجر ضفاف الركح برؤى جمالية تصنع فرادة يوسف الريحاني، كعنوان لمعالم مشروع ثقافي يبني الإنسان، بواسطة الإنسان، ومن أجل الإنسان، بألوانه وبأصواته وبلغاته، وقبل كل ذلك، بثقافاته المخصوصة التي تصنع تاريخه داخل نهر العطاء والتميز.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 10/11/2023