«أسابق الأخيلة »( 1) لأمجد مجدوب رشيد: النص الخاطف

الشاعرُ شاردٌ كنيزك
يتفكرُ في نبضه
يقلّبُ زمنا يَسْكن الرمال
تخفِقُ في أضلعه بُروقُ التكوين

1 ـ في العنوان

تنبني الصيغةُ الصرفية للعنوان ” أُسابق” على المشاركة والمفاعلة، فالمعنيّ بالسبق والتسابق واحد من متعدّدين، يُسابقهم ويعدو معهم وضدّهم، “وهي تفيد التشارك والمخاصمة”. وتنكشف دهشتنا لما نعلم أنّ المسبوقين ليسوا سوى الأخيلة، والأخيلة “إحدى قوى العقل التي يتخيل بها الأشياء”، والأخيلة جمع للخيال. للخيال مركز السبق والموقع الأول والأخير، في هذا النص وفي غيره، داخله وخارجه، فهو مربط الفرس ، “والخيل جماعة الفرس” . وحسبُه أن يسابق الأخيلة، لا أن يسبقها، فمن ذا الذي لا ينفلت الماء من بين يديه !

2 ـ فكرة الهلام
يخِفّ الشاعر ويدِقّ حتى يصير ضوءا، وينتثر ويتلاشى حتى يغدو حدسا، و”النيزك” و”الرمل” و”المجرة” و”الحدس” و”الخيال” كل هذه لا يُحاط بها، فأمره من أمرها، وحاله من حالها.

3ـ فكرة الخطف
ما الخيط الرابط بين الشاعر والنيزك والضوء، وما الذي يجمعه بالشمس والجان! هي أشياء لا يقبض عليها، ولا حتى يُدنى منها. مرورها خاطف خُلب، تسنو فتعشي الأبصار.

4 ـ ثنائية الداخل والخارج
يسيح الشاعر في الفضاء الواسع، فيشرد “كنيزك” ثم “يسير في “مجرّة”، والمجرّة في “سماءٍ بكر”. هي اتجاهات الشاعر نحو الخارج، مبتعدا عن ذاته ومفارقا لها، لكن الشاعر لا يمكن له أن يوجد بغير ذاته، وإلى هذه الذات يروح الشاعر بعد غدوّه، إلى “مجرّته “الذاتية” التي ينطوي فيها كل الكون الكبير. إنه سفر عكسيُّ الاتجاه، لا يملك الشاعر غير مخْر عبابه، ففيه “يتفكر في نبضه”.

5 ـ أخيلة لا مَروضَة ولا ممتطاة

لا حيلةَ للشاعر إلا خياله، وأخيلته مطاياه ومراكبه، والشاعر متخيِّر لا يرضى من هذه المطايا غير البكر الجموح، لا مروضة ولا ممتطاة، ينشد البكر منها التي لا “تخطر على بال بشر”.
السماء “البِكر”، والبكر من الأخيلة هي منى الشاعر، “التي لم يطمثهن إنس ولا جان” ، أخيلة متمردة ثائرة قبل أن تولد، لذلك فهي “ترتعش في أمشاجها”، وعندما يحين المخاض ويشتدّ ألم الولادة ويعلو الصراخ، تتفتح العيون وتبصر وتتبرعم.

6ـ الشاعر المتوسّل

لا يملك الشاعر إلا أن يناجي خياله الشارد الهارب، يناديه أن يفيض عليه، والفيض ماءٌ والماء حياة. إنه نداء المستعطِف المتوسِّل، يتوسّل إلى السيد «الحدس”:
“يا سيدي” بهذه الصيغة تنكشف التراتبية بين المنادي والمنادى، الثاني أصلٌ للأول، هو خبزه، الذي يطوي به القفار، والقفار فقر، ولتجد أشد الأشياء كرها إلى نفس الشاعر أن يفتقر خياله.

7ـ لبِنُ النّص
لبن النّص كلِمٌ منثور، منه الاسم والفعل والحرف، واستهلاله اسمٌ دالّ، إنّه “الشاعر” الاسم والصفة واسم الفاعل، هو “المبتدأ” الذي يُخبِر عنه اسم الفاعل “شاردٌ”، كلاهما (المبتدأ والخبر) بالصيغة نفسها “فاعل”، وفي ذلك تنغيم صوتيّ يقويه المقطع الصوتي [شا] علامة تنبيه ولفت انتباه.
بعد السطر المستهِلّ، تنهال أفعال ثلاثة ” يَتَفكّر، يقلّبُ، تخفقُ” تقلب الشّرود (والشرود سكونٌ) فِعلا، فِعلا في الزمن الحاضر المضارع، أليس المقام مقام سبق والمضمار مضمار تسابق!.
ينظر الشاعر في ذاته، ” فيتفكر في نبضه” وينظر وراءه “فيُقلّب زمنا يسكن الرمال”، ونتيجة ذلك كلّه أنْ “يتكهرب” الشاعرُ وتتوتّر أضلعه، بفعل البرق الذي يسوطه، وينهال عليه.

8 ـ النفحة الإيمانية

لهذا الجمع اللفظي نفحة إيمانية، هي نكهة المتصوف الذي يرتدي جبتّه فيرتدي ذاته، ويدور راقصا فتدور معه الأفهام، من الأثر القرآني ينسج “أمجد رشيد” خياله، فيجعل له أجنحة يدور بها السماء والمجرّات ويشرد مع النيازك متخيّلا ومخيّلا. فلا يكفيه من الألفاظ الفتح والسبق و البكر والباكورة و الطرق والبياض، واليد الأولى و العذرة والاستعمال الأول، فيـقتبس من النص القرآني آيته “لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ” ، مع بعض وتصرّف (يورد الآية من غير كلمة “قبلهم”)، ويظهر المتح من القرآن في استعمال كلمات ارتبطت أشد الارتباط بالنص القرآني، وكلمة “أمشاج” قرآنية الوقع بالدرجة الأولى. كما أنّ جملة النداء في السطر الشعري (المعادة مرّتين): ” يا فيض الخيال” لا تبتعد كثيرا عن المعنى القرآني الوارد في الآية الكريمة (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ).


الكاتب : عبد الحكيم برنوص

  

بتاريخ : 25/08/2021