أصداء أصوات غافية ..اِغتيال المستقبل

تعبير تصويري حاذق وحارق وَرَدَ على لسان وزير خارجية فرنسا، ووزيرها الأول ( 2005 ـ2007) المثقف والإنسان ( دومينيك دوفيليبان )، لمناسبة حوار معه في إحدى محطات التلفزيون الفرنسي الحاقدة والناكرة والجاحدة، حيث واجهَ بكل شجاعة ونزاهة وأخلاق وتفكيك، سردية الغرب وأمريكا المناوئة والظالمة والمزيفة. تلك السردية المحبوكة لكن المرتجفة بخصوص حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد « الهمجية « العربية، و» إرهاب « حماس؛ والحال أن إسرائيل دولة محتلة لأرض ليست لها. فكيف يستقيم مفهوم « الدفاع عن النفس « مع الاحتلال والاستيطان، واقتلاع شعب.
وقد أثار « دومينيك» في حواراته المختلفة مسألة سياسة الكيل بمكيالين التي ينهجها إعلام بلاده بخاصة، والإعلام الغربي والأمريكي بوجه عام.
إنه التعبير الواصف السليم النافذ الذي يلخص ببلاغة عميقة حارقة وقاسية ما ينتظر العالم غداً جرَّاءَ هذه الحرب الشعواء الغاشمة المسعورة والمسنودة من قوى الشر والبغي والطغيان في العالم، التي تستهدف ليل ـ نهار، أطفال ونساء ورجال غزةَ، في نكران تام، وجحود مبين، وطيٍّ مُبَيّتٍ لأفكار فلاسفة ومفكري الأنوار، وشعارات الثورة الفرنسية المعمدة بالدم التي رفعت ثلاثية: الحرية والمساواة والأخوة بين الشعوب، بين البشر أنَّى كان هذا البشر، وأنّى وكيفما كانت لغته وديانته ولونه وجنسه. فإعلام الغرب بعمله الإفْكي ذاك، إنما يغتال ـ واعيا أو غير واعٍ ـ ويَدُكُّ مستقبلا إنسانيا قادما كان بالإمكان، لو خلُصَت النيات، وتحكمت الأفكار والضمائر، وتصرفت النُّهى والأنوار، وحضر العدل والإنصاف ـ أن يكون رحيما سَمْحا ينعم فيه الكل بالمحبة والعدل والحرية والديموقراطية. ذلك أن المستقبل الذي ـ يا كمْ صاغَ له ومن أجله، أدباء ومبدعون ومفكرون وفنانون، وفلاسفة وقادة رأي حر ـ أجمل وأنبل الكلام، وأبهى وأرقى الصور، وأرْوَق وأعمق عبارات وتعابير ومسالك التَّواد والتَّحاب التي ينبغي أن تسود بين البشر قاطبةً في كل أرجاء المعمورة، تحترق جذوره وجذوعه وذؤابته الآن أمام أعيننا. إن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها، وأوروبا والغرب، يغتالون الغد بأفواههم، وبخطاباتهم، وصحفهم، وإعلامهم، وسياسييهم، وقنابلهم، ومختلف ضروب أسلحتهم الفتاكة التي تفننت التكنولوجيا في إتيانها وابتكارها وتصنيعها، وتهديفها، يغتالونه في غزة الآن وقبل الآن، وفي الضفة الغربية، وأوكرانيا، وغيرها من الأمصار الساخنة التي تطحنها رحى الحرب الضروس، والإبادة الجماعية، والإغارات اليومية، والتطهير العرقي.
ذلك أن قتلَ الرُّضَّع والأطفالِ والنساءِ والشيوخ، وهدْمَ المباني والمساكن، والشجر والحجر، والمؤسسات العمومية والمشافي، وأماكن العبادات المختلفة، بتسديد وإرسال الموت لهم من الجو والبر والبحر، وبتجويعهم وتعطيشهم، وتعطيل قدرات شبابهم، وشاباتهم، وحرمان الجميع مما يُقيم الأَوَدَ، ويُبْقي على قليل من الروح، إنما يندرج في إطار اغتيال الغد، فلا أحد منهم ( من الغربيين والأمريكيين والإسرائيليين أولا وأخيرا ) بقادر على أن يتنبأ بما سيحمله الغد من عاصفة إنسانية هوجاء، ومن غضب ساطع عاتٍ يولد من الرماد، ويطلع من شمس الآتي، وينبثق مُزْهِراً من دم الشهداء. غضبٌ لن تملك أساطيل العالم الحربية، ولا طائرات الموت الموجهة، من إطفائه وإسكاته لأنه يتربى الآن في حضن وجينات الناجين والناجيات، وسيترعرع غداً، ويشتد ساعده ليواصل الانتقامَ لِموْتاهُ ومُهَجّريه، ومَنْفييه ولاجئيه إحقاقاً لحقه في الإقامة على أرضه التاريخية، على جزء منها ـ في الأقل ـ وعاصمتها القدس الشرقية.
ولستُ أذيع سراً إذا ما قلتُ وحدستُ بأن ملاحقةَ حماس والكتائب والسرايا، وباقي الفصائل الفلسطينية المقاومة للقضاء المبرم عليها وتصفيتها حسب زعم أحفاد يوشع بن نونْ، ليس سوى تَعِلَّة مهزوزة، ومبرر كاذب، إذ المرمى الأبعد منها ( من حماس قيادةً وأطراً ومناضلين )، هو ـ في الحقيقة ـ ملاحقة وقتل الغد ما يعني قتْلَ من سيكبر غداً وفي قلبه ووجدانه وذهنه وجماع روحه، الثأر لأجداده وآبائه، وإخوانه وأخواته، وعوائله، الثأر لدمائهم الزكية التي سقت تراب الأرض الطاهرة، وشجرة الحرية الباسقة. والثأر لأرضه التي سرقت منه منذ أكثر من خمس وسبعين سنةً غِبَّ مؤامرة دولية، وتراخٍ عربي إسلامي بَلْهَ استسلام وصمت وخنوع بعد النكبة ( نكبة 48 )، ونكسة 67 في القرن العشرين: قرن الإفك والظلم والظلام، والحروب، والقتل المجاني، والاستيطان القسري، والكولونيالية السوداء البغيضة. زِدْ على ذلك أن استهداف المرأة الفلسطينية العظيمة: أم وأخت وزوج وبنت الشهداء، وصانعة الأمس واليوم والغد، يندرج أيضا ـ بتقديري ـضمن استراتيجية الإنقاص من الأيادي القادمة، والزنود المفتولة، والأفواه الغاضبة، والرؤوس العامرة ثقافة وعلماً وإصراراً، أيْ بإعدام الأرحام الوَلود، وتقويض زيادة المواليد من الطفلات والأطفال سلاح المستقبل، طمْراً للآمال المعقودة، وسعيا محموماً لكن فاشلا في وأْد الزيادة والازدياد.هو ذا بعض ما أوحى به إليَّ قول الوزير الفرنسي النزيه « دومينيك «. فإسرائيل لن تعيش في سلام وطمأنينة وأمان، ما دامت دولة محتلة عنصرية تقيم وجودهاعلى القتل والسفك، ولا تسعى جاهدة ومجتهدة إلى خيار إقامة الدولتين المطروح: دولة فلسطينية ودولة إسرائيلية. كما أن الغرب أخطأ الحساب بانحيازه الأعمى إلى كيان مغتصب وسارق مثل طائر الوقواق، وتسمية المقهورين المحاصرين والمُجَوَّعين بالإرهابيين من دون تلعثم، ومن دون أن يطرف له جفن. وهو الانحياز السافر الذي عمل ـ وهو يرفعه وينافح عنه بكل ما أوتي من لغة صفراء تقطر زوراً وبهتانا وظلما وادّعاء ـ على اغتيال مستقبله ونَحْر غده. فالغد الأوروبي والغربي والأمريكي، لن يكون أبيض ناصعا، سيكون مُبَثَّراً ومُبَقَّعاً بالرماد والسواد والدمامل والندم. لقد اغتالت سياستهم الضغائنية المنحازة والسافرة، كل ما بناه وشيده أعلامهم وعظماؤهم من فكر إنساني وهّاج، ومواقف سياسية سديدة وموضوعية، وإبداع نوراني بهي، وفلسفة غدوية ناضحة بالمحبة والعدل والحرية والجمال. هكذا يكونون ( سياسيو وصحفيو الغرب حاليا ) قد نسفوا كالنازيين تماما كل الجسور، وأحرقوا بالكامل كل الكتب والكراريس، والهتافات والشعارات التي أعلتْ من إنسانية الإنسان .. مطلق إنسان. فماذا كان سيكون عليه الغرب وأمريكا: فرنسا ـ بلجيكا ـ هولاندا ـ إيطاليا ـ إنجلترا ـ أستراليا، وغيرها لولا فكر وعقل وساعد المهاجرين الذين حلوا بباريس وبروكسيل، وروما، وسدني ـ ولندن ، وأمستردام وغيرها من العواصم الغربية الأخرى بما فيها أمريكا. أولئك الذين عملوا على قدم وساق، فمنهم من تجَنَّسَ فكتب في الفلسفة بلغتهم وتألقَ، وأبدع الشعر والرواية فتدفَّقَ، وتغلغل في دواليب الإدارة والمؤسسة فتسلَّقَ. ومنهم من عوَّلَ على يديْه وساعِدَيْه، واستماتته بالعمل العضلي، رغم الظلم، فاعْتُرِفَبمجهوده وتفانيه فحلَّقَ.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 17/11/2023