أصداء أصوات غافية .. جورج تْرَاكْلْ: ( 188 ـ 1914) أيقونة النمسا، والشعر الكوني الملتاع

في اليوم الذي استعد فيه جورج تراكل للذهاب إلى جبهة الحرب كممرض وصيدلاني، أقصد الحرب العالمية الأولى التي اندلعت للتو، وقبل أن يودع أصحابه، هَمْهَمَ بكلمات اختصرت كل شيء، مستبقا كعراف ما سيحل من خراب ويباب بالكون: ( سيكون ذلك مُرَوِّعاً ). وكتب في أجواء الشمس السوداء تلك، والمذابح الرهيبة الوقحة كما سماها التي كانت تحدث وترتكب أمام عينيه، نصه الشعري الرهيب « غْروديك « مصورا تلك الأهوال بمقدرة فنية فائقة، وبراعة وصفية باذخة، تذكر بلوحة بيكاسو الشهيرة: «الغرنيكا «، أخْذاً بعين النظر ما يربو على العقدين بين القصيدة وظهوراللوحة.
ترك الشاعر ثلاث مجموعات شعرية ثمينة عالية القيمة والاعتبار الفني واللغوي والجمالي والرؤيوي بشهادة كبار الفلاسفة والنقاد والشعراء، وهي: ( قصائد ) 1913، و( سيبستيان حالما، أو في الحلم ) 1915. أما مجموعته الشعرية الأولى: ( كأس الذهب ) التي كتبها في العام 1909، فضمت شعرا لا أخلاقيا خطيرا لم يعرف طريقه إلى النشر إلا بعد موته، أي في العام 1933، بعد أن أزيلت منه نصوص شعرية بل أعدمت تماما. وهي النصوص التي تحيل عارية على علاقته الآثمة بأخته إيزابيل، تحيل على خطيئته التي لم يبرأ منها إلا بعد أن وضع حدا لحياته المضطربة بتجرع مقدار من مخدر الكوكائين فاق « المطلوب «. وقد نجحتُ في العثور على واحد من تلك النصوص المحرمة بعنوان: ( خطأ ضد الدم )، قمت بترجمته، فإِلَيْكَهُ:
( الليل يتوعدنا ونحن في عناق حار على السرير؛ ومن مكان ما، يصل إلينا صوت ما: من يحرركما من خطيئتكما؟، وفي غمرة ارتجافنا من هذه اللذة الملعونة والناعمة، نرفع صوتَيْنا متوسلَيْن: اِغْفِري لنا يا مريم العذراء، اغفري لنا خطيئتنا أيها البتولُ ).
لفتت لوعة شعره الانطباعي، وألوانه الفاتنة، وإضافته الجمالية والنوعية، ورمزيته المورقة، ورحابة وكثافة أخيلته، وصوره البراقة البديعة، وغرابة معانيه، أنظار النقاد والفلاسفة ـ كما أسلفت ـ مما قاد الفيلسوف الكبير مارتن هيدجرْإلى أن يخصه بتحليل فلسفي عميق، ومقاربة جمالية رفيعة، إلى جانب هولدرلين وريلكه، في كتابه الذائع: ( في اتجاه القول ). وهاهي ذي ومضة من ومضات هيدجر فيه: ( هذا الشعر متفرد بين الشعريات: سعة رؤيوية، وعمق فكري، وبساطة في القول الشعري. ملكوت حُمَيّا أبدية. ).
وكان أحد الشعراء الفرنسيين الكبار مفتونا بالألوان الزاهية، والرموز المحلقة التي تغمر شعره رغم الضجر والألم والندم والخطيئة، والغرق في مستنقع المخدرات، حتى أنه أقَرَّ بحفظ نصوص كثيرة لتراكل عن ظهر غيب. ولم يكن هذا الشاعر غير الكبير أوجينْ غيللفيكْ.
وحسبك أن تعلم أن الذين اهتموا بشعره الرفيع، وبحياته الغريبة المريرة والمتقلبة، كُثْرٌ، نذكر منهم: هيدجر، لاَكانْ ، ديريدا، هنري ميشونيك، لوكاتشْ، وغيرهم.
من المرجح أن اختلاط المخدر بالخمرة، وبالشعر، والميثولوجيا والوثنيات، هو ما خوَّل لتراكلْ فعلته الشنيعة المرضية، وبررت له ضآلة خطورة مأتاهُ؛ أو لربما، أراد ورغب في أن يضيفها لعنة أخلاقية ودينية إلى إحساسه بخوائه، ولعنة ميلاده، وحدة رؤياه السوداء في عالم يزداد سوادا من حوله حيث سقطت القيم، وتدهورت المثل والمباديء، وشاهت العلائق والصداقات، وتردت الأخوة والمكرمات. وهي أشياء و» محفزات « لاسعة لاذعة حاول فاشلا أن يتخطاها بالنسيان بالإغراق في جحيم أو « فردوس « المخدرات واللذاذات التي زرعت في شعره وسلوكه الكوابيس، والهلوسات، والصور العجائبية والغرائبية، والنبوغ على كل حال، وتلك هي المفارقة الكبرى. وكمثل فرانز كافْكا الروائي العالمي الفذ، اختار الميتافيزيقا ضد الدين.
قال واصفا شعره: ( إنه انعكاس وفيٌّ لقرن ملعون من دون إله ).

إضاءة:

سِفَاحُ القربى، أو زنا المحارم، أو الزواج بين الأخوين. كانت هذه الممارسة الشائنة شائعة بين الأسر الملكية القديمة كالفراعنة في مصر الفرعونية القديمة للحفاظ على نقاء الدم في السلالة الحاكمة. كما كانت منتشرة لدى الأشوريين والسومريين، والبابليين. وحسبك أن تعود إلى ألواحهم الشعرية، وإلى أناشيد الأوغاريتيين، وأناشيد الحب السومرية والأشورية، لتقف على تلك الممارسة التي تمجها الأخلاق، والقيم الإنسانية العليا، والثقافة بعد أن تشربت بالديانات التوحيدية أساسا، والحضارة، اليوم، ومنذ مئات السنين.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 24/02/2023