أصداء أصوات غافية .. عبد الجبار السحيمي المفـرد الجمـع (في ذكرى انصرام اثنتيْ عشْرَةَ سنةً على رحيله )

من الناس من يعيش ليأكل، ومن الناس من يأكل ليعيش، ومنهم من يعيش ليبدع، وَيَتَكَثَّرَ، وَيَتَذَوَّتَ، ويتجمع، فإذا هو ملك نفسه تماما كما هو ملك الغير والآخر. وعبد الجبار السحيمي من هؤلاء الأخيرين، الذين جاؤوا إلى الدنيا ليقولوا كلمتهم المشرقة، وليبصموا بالدم والتجربة والخبرة والعصامية، كينونة مستحقة، ووجودا قائما ومتحركا له معنى، متنافذا ومتقاطعا مع موجودات وكيانات، وعلائق وعوالم وحيوات.
تَهَيَّبْتُ – منذ وعيت أهمية الأدب وحرقة الإبداع- اسم عبد الجبار الذي كان يطالعني نابضا بسحر خاص، ونداء غامض خفي وبعيد، كلما طالعت «العلم الثقافي» منذ أيام التلمذة والطلب بثانوية عبد المومن بوجدة المحروسة في العام 1969، وهو العام الذي ظهر فيه أول عدد للملحق الثقافي – في ما أقدر-. كنت آنئذ أخط كلمات مرتعشة، حظيت بسماعها مقروءة بصوت الشاعر العذب والجميل الراحل محمد بنعمارة ضمن برنامجه «حدائق الشعر»، كما حظيت بسماعها مقروءة بصوت المذيعة فريدة النور، في برنامج الإذاعة الوطنية الشعري، الذي كان يعده ويقدمه الشاعر الراحل ادريس الجائي.
لكن ما كنت أقرأه، وأحتضنه بالقلب المتوثب، وشغافه المتحفزة، على صفحات «الملحق الثقافي للعلم» كان شيئا مختلفا عما كنت أكتب.
وَيَاكَمْ مَنَّيْتُ النفس – مستعجلا- أن أراسل «العلم» أي عبد الجبار السحيمي، ليرفعني إلى الأعلى حتى أَتَبنَّكَ مكانا سنيّا، وحيّزاً بهيّا ومقعداً معتبراً بين تلك الثلة المثقفة التي كانت تُوَقِّعُ بالمداد كدت أقول: بالدم –سطورا مشعات ومثقلات بالوجع والألم والخيبات. غير أنني كنت أفيء إلى ضآلتي، وشح زادي، وقلة معيني، مقتنعا بالصبر، وناخسا نفسي بوجوب القراءة، والاستزادة.. لامتلاك ما به أخط سطرا حقيقيا، سطرا خصوصيا يكون لائطا بي، وموقوفا علي.
ودارت الأيام، ثم ما عتم الطفل والشاب الذي كنته أن ارتقى نسبيا في سلم الكتابة والإبداع، وتحول مع تحولات الواقع السياسية والإيديولوجية، وركب، مع من ركب، قارب اليسار، ما جعله ينأى عن التفكير في إرسال كتاباته إلى «العلم» في منتصف سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ظنا منه – وقد كان الأمر ساريا ومتداولا- أو توهما – لقد أوهموه بالفعل- أن ظهور الاسم «في العلم» يُرَتِّبُك للتو إلى جنب المحافظين والماضويين والرجعيين، وهي حجة عليَّ لا لي، لأنها تفضح صَغَارِي، وعدم نضجي، وتقوم دليلا على خلطي –كما الكثيرين- بين الفكر والأدب، والحزبية، حتى لا أقول السياسة، لأنها أوسع وأعرض وأعمق. على رغم ما كان يتناهى إليَّ من أن عبد الجبار السحيمي فوق الاعتبارات الحزبية الضيقة، إذ هو أديب أريب، وإنسان نبيل صادق وصدوق، يحظى بحب المثقفين طُرّاً، واحترام الأحزاب قاطبة.
كانت «خواطره الطائرة» مرقاي إلى الكتابات الأولى، شدني إليها، وَمْضُها، وغناها الدال على قصر جملها وتراكيبها، وواقعيتها الرومانسية العذبة التي أغرتني بقطاف بعض ثمارها، ودسها في ثنايا «إنشاءاتي» التي لطالما خدعت بها أساتذتي.
وَرَسَمَتْ مجموعة «الممكن من المستحيل» – التي كانت حدثا عند صدورها- بنية سردية ممتعة وعذبة قطعت مع الرخاوة الرومانسية، وَجَبَّتْ مَا اعْتُبِرَ قبلها قَصّاً، وسجلا إبداعيا منقوعا في مرايا الواقعية، التي عكست أوضاع وأحوال ووقائع مغرب ينهض ويكبو، تُسَوِّرُه حِرابُ الأوفقيرية، وتتناهشه طغمة من المستكلبين على نِعَمَهِ وخيراته.
لقد عرف عبد الجبار السحيمي كيف يسلط عين قلمه على واقع موار ينغل بالتمايز والتفاوت الطبقيين على عدة مستويات، وكيف ينقل عذابات وانتظارات المعوزين والمزاحين في هذا الوطن، إلى القص والإبداع والإعلام بطريقة «المعلمين» الحاذقين، والصابرين «القانتين»، ما جعله نسيج وحده كتابيا. ولعل شخصيته القوية الوقورة، وعمق ثقافته، وهدوء طبعه، وتسامحه، وتواضعه الجم، أن يكون وراء نجاحه البَيِّن، وفي الثِّوَاءِ من شخصيته الأدبية المتميزة والمتفردة.
وفي «خط اليد» غمس السحيمي قلمه في دمه، وفي محبرة الوطن الذي أراده شامخا، وأرادوه منبطحا، وبقرة حلوبا. أراده ملاذ عيش كريم وحلم، وفَيْءَ محبة ونِعَمٍ تغدق على الجميع، وأرادوه ضيعة لأقلية «تَتَبَوْرَدُ فيه» وَتُصَعِّرُ خدها تعاليا وتطاووسا.
لنقرأه يقول ما ينسحب على حالنا اليوم، إذ المبدع الأصيل عرّاف ومستشرف: «كل الإشارات تقول: إننا شعب يحفر هوة واسعة في تاريخه: أغنياء بثروات خيالية، وامتيازات القادرين على الدفع، وملايين الشعب في فقر وبؤس خياليين».
ويضفي الكاتب عذوبة لغوية، وتوصيفا بديعا على مفاصل كثيرة من نصوصه التي تَنُوسُ بين القص والمقالة والشعر المنثور، كما في نصه» حرائق الجسد وبهاء الروح» الذي يكرسه لطنجة «العالية»، حيث رقرقة اللغة، وصفاؤها كعين ديك، وعذوبتها كماء منسرب بين صخور الصوان، والحصوات البيض والسود. قلم أثيل لإنسان فذ متفرد وأصيل، لأديب أريب، ومثقف عميق هادر بالدُّرَرِ كاليَمِّ لكن في هدوء وصمت النساك والمتصوفة الذين رأوا، وأسدلوا عيونهم على هول ما رأوا.. رأوا الخطايا تفترس الواقع، ولا مُنْقِذ، ولا مُبَادِر ومتوثب وَرَامٍ بطوق نجاة. فهل أسدل السحيمي عينيه على هول ما رأى؟، أبدا، لقد رفع ما رأى إلى سدة الإبداع، والسرد اللماح والحاد، والشعر الهفهاف، والكتابة المتقصدة العذبة، المضرجة بنبضات القلب والمداد.
في المرات القليلة، والمتباعدة في الزمان والمكان، التي لقيته فيها صُدْفَةً يمشي في الأسواق أو يذرع الشوارع، كالمتبتل، ملفوفا بإزار صمته الأبيض الهفهاف، ومدثرا بأردية الحكمة التي لا تعطى إلا للقلائل والأفذاذ، في المرات تلك، كنت أسارع لتحيته وللسلام عليه، متلعثما، أتعثر في أذيال خجلي مِنْ أَلاَّ يعرفني، وحبوطي من أن يسألني من أكون، كان يختصر الكلام بابتسامة عذبة، ترتسم على وجه ودود وديع وهاديء، وتَنْطق بين النبس والإصاتة: كيف الحال يا بودويك؟
وإن كنت أنسى لا أنسى اتصاله الهاتفي بي ذات يوم من أيام يونيو في العام 2005- – على إثر مقالي: «تهافت الكتبة» الذي أرسلته إلى «العلم الثقافي»، إذ أعرب عن إعجابه بالمقال الذي اعتبره مقالا سجاليا غنيا بالسند والمنافحة القوية، وجديرا بالقراءة، إذ ذَكَّرَهُ – كما قال: بسجالات السبعينيات من القرن الماضي. لم أخف شعوري بالاعتزاز والتقدير الكبيرين لهذا الكبير في تواضعه، وحصافة متابعته، وقراءته لما يصله إلى جريدة «العلم»، واعتبرت مهاتفته لي، وكلامه في حق «مقالتي» شهادة أعتز بها، وقلادة أزين بها جيد كتاباتي.
سيظل عبد الجبار السحيمي واحدا من الأفذاذ في مغربنا ومن أبنائه البررة الكرام وواحدا من شرفائنا، وواحدا من أدبائنا الرصينين النادرين الذين يحترمون الأدب، فيضعونه في «العيوق» كما عبر الجاحظ. وواحدا من الإعلاميين الأماجد الذين بصموا حقل الصحافة والإعلام، بحضورهم الكتابي، وإشعاعهم الإبداعي، وتواصلهم الإنساني، وسهرهم النضالي من أجل أن تتبوأ الصحافة والصحيفة، المكانة المعتبرة التي تليق بها كسلطة رابعة. وسيظل مدرسة علمت وأفادت، وفتحت الأبواب على مصراعيها، للمبتدئين، والناضجين، و»الواصلين» المكرسين من أي مشرب سياسي، أو طيف إيديولوجي كانوا. المهم أن ينتسبوا إلى أفق التجديد والإبداع الحق، والإضافة النوعية.
عبد الجبار السحيمي أيقونة الإعلام والأدب، وأيقونة حزب الاستقلال، بل أيقونة القوى الديمقراطية في البلاد، ونموذج المسلم الحقيقي السمح المتفتح والمتعدد. إنه -بكلمة واحدة- : المفرد الجمع.
لم يغب عبد الجبار السحيمي عن ذاكرتي يوما ، ولا عن واعيتي. استمر المُهَابَ الجليل البعيد القريب الذي كلما ذكر أمامي، أو قفز اسمه قدام ناظري، حضرت السبعينيات بكل زخمها وعنفوانها، بشغبها الأدبي الجميل، ومساجلاتها الإبداعية والفكرية الفتية والتي كان يرعاها، ويفسح صدر العلم لها، بحرائقها، بآمالها، وآلامها، سقطاتها، وَنُهوضها، وبانخراط جيل موتور في مَعْمَعَانها، ومعاركها، من أجل أن تحيا ذرية آتية، ومن أجل أن يتأسس أدب جديد كانت «العلم» الغراء، مبشرة به، ومساهمة في طيرانه، وانتشاره.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 03/05/2024