أصداء أصوات غافية : فاس تبحث عن فــــاس…

لاتزال فاس الراهنِ، فاسُ الحالِ تبحث عن فاس الصفة الموصوفة، فاس النعت المنعوت، فاس البدل التي كانت بالسماع وبالقياس وبالحضور، وبكل جارحة وحس وعقل وروح. لكأنها نُهِبَتْ وسرقت بليل، يقول الصدى: بل سرقت نهارا جهارا، أي أنها هُمِّشَتْ وأُتْلِفَتْ مُقدّراتُها، وعُطِّلَتْ مقوّماتُها البانية الساعية إلى امتشاق المجد، وبلوغ الذروة من حيث استيحاءُ ماضيها التليد، وبلورةُ تاريخها العلمي المجيد، وإعْمَال طاقاتها التي دُثِّرَتْ، وإحياء روحها التي بُعْثِرتْ هنا.. وهناك.. وهنالك.
فهل تكون ماتتْ؟ هل تكون تُحْتَضَرُ حَسْبُ، ولمَّا تأْتِ بعدُ مُدْيَةُ الموت الرهيب على آخر وريد من أوردتها، وآخر شِرْيان لا يَني يمدها بما فَضُلَ من نَفَسٍ ودم وروح وحياة.
مُدُنٌ كانت نسيا منسياً، نهضتْ، ومدن كانت ـ بالأمس القريب نَكراتٍ، محطَّ عبور، تْرانْزيتْ فقط، أعلتْ رأسَها، وأَتْلع حاضرها وأزهرَ، وأصبحت قبلةً ومناراً وضوءاً، تشع ثقافة وتمدنا وعنفواناً وهي التي كانت قاب قوسين أو ادنى من الخفوت والشحوب، مقتصرة على الحاجيات الأدنى، والضروريات الأقل، ملبية جوعةَ الغادين والرائحين، منطوية على بدواتها، لها دور سينما، وخمارات ومقاهٍ، وإدارات غولٍ، وما كينات لا تهدأ تبتلع كل شيء أخضرَ غَضّا، وأصفرَ يابسا، وليس لها عُلْقَةٌ بالتِّلادة، ولا بالأثالة. لسنا نستكثر ذلك على مدننا، ونَسْلِقها بشواظ من حقد وكراهية مبتغين لها العودة إلى قماطها، والرجوع، ثانيةً، إلى خندقها، والركون إلى سحنتها، ووجومها السابق. على العكس من هذا، إنما نريد لها التقدم أكثر والتطور، والسؤدد، وبلوغ الغاية من وجودها وإنشائها وإقامتها، بالحفاظ على روح ماضيها وهويتها، والدفع بحاضرها قُدُماً وأماماً لتُسامِتَ وتنافس مدن العالم المتحضر المترامي.
لكننا نتأسى على حاضر فاس عاصمة المغرب العلمية والروحية والحضارية والوجودية، بما يعني أنها واسطة عقده، وزمردة سلسلته الذهبية، ونبضه الحي، وقلبه الخافق بنبوغ أبنائه وبناته، وعبقرية علمائه، وقدسية صلحائه وصالحاته، ومقام متصوفته السَّنيّ العالي، وعظمة تاريخه التليد، وشموخ مسجده الجامع الضارب في القدامة والعلم والشهامة والوطنية.
صارت فاس تختبيء خلف جدار إسمنتي سميك، وهي إِذْ تخرج هنيهةً إلى الشمس، تُشيحُ سريعا حتى لا تَعْمَى. فالظل المتمادي أغْشاها وأعْشاها، والرطوبة المتعاورة على أزقتها ودروبها، وأسوارها التاريخية، وأبراجها وأبوابها، هشَّشَتْ جسدها، وأبلتْ جِيدَها، وأضمرت أمارات وجهها، وعاثت العثة فسادا في ستائرها ( وليس في هذا الكلام إنشاء ومجاز، بل هو الحقيقة عارية سافرة ).
وما لم تكن هناك لَفَتاتٌ فُتاتٌ بين الفينات، من قِبَل المشتغلين بالمسرح والسينما، والطرب الأندلسي، و” الموسيقا الروحية ” التي لا يختلف إلى أماسيها سوى الندرة، فإنها تفنى بعد أن يُهيلَ التهميش والإشاحة والإعراض المقصود وغير المقصود، ركاما من أقمشة النسيان، وأردية من الأقفال والإظلام. فاس الحال تبحث عن فاس النعت، المخلدة في العالمين. تبحث عن حقيقتها المغيبة وصولتها وواقعها المنير الذي كان. وتسألُ، بلْ تُسائلنا: ما الذي جرى؟، مالي نُسيتُ وأُهْمِلْتُ ثقافيا وفنيا وسياحيا وجماليا وعلميا، وذِكْراً إعلاميا إلا فيما ندَرَ وقَتَرَ؟. ما لمدنٍ شقيقاتٍ أخرياتٍ تبوَّاْنَ المكانة التي كانت لي بل أكثرَ، بينما انتكستُ؟. أَلأنَّ لهن أرباباً ورجالاتٍ قوَّامينَ مُشَمِّرين، بُلَغاءَ مُبلِّغين، طُرَّاقَ أبواب ومثيري أعصاب؟. أَلَهُم اللسانُ الفصيح الصريح، والمبادرة الفريدة العديدة وليس لي لسان؟. أليس لي أهلون رجالٌ أفذاذٌ، وسلالةٌ زاهية أندلسية زاهرة أباهي بها الأُمَمَ إذا نوديتُ للمقارنة والمحاججة.؟ وأجناس مختلفة انصهرت في بوتقتي حتى صارت واحدا؟.
لكنما السلالة الأندلسية الآرية السامية المولدة والمزجية بمُهْراق الدم الساري في أوردتي وشراييني، ووُتُني، دم الخلطة البهية السحرية الإيبيرية والأمازيغية والصحراوية واليهودية والعربية الإسلامية، رحلتْ، وبَوْصَلَتْ رحيلها الاضطراري أو الاختياري، صوبَ المدن الداخلية حيث تستعرض المقاولات والمصانع والأوراش الاقتصادية، والبورصات والأبناك، والمنصات الإلكترونية، جبروتَها من ناحية. ونحو السنغال والكابونْ والكوتْ ديفوارْ، والكونغو، وجزر القُمُر، وغيرها إفريقيا، واتجاه كندا وسويسرا وفرنسا وبلجيكا وألمانيا وانجلترا، وامريكا غربيا، من ناحية أخرى.
فليكنْ، غير أنني، وإِنْ شَحَّ على أرضي معدن الفضة والنحاس، وانتفى منجم البلاتينْ والذهب، وأمْلقتْ الصناعة الحديثة بكل فروعها، ورُحِّلَتْ، ونَدرَ الاقتصاد وغاضَ، وتعطلت عجلة التصنيع والتبديع، فلي فنوني وجنوني الإبداعية. لي ما أطلب بإلحاح أن يسترد لي ويعيش وينتعش، كما كان ذلك سائدا مهيمنا يصنع تفردي وخاصياتي، وخصوصيتي، ويصيغ من جديد شخصيتي وميزتي. ولعل أهمها أن يكون كما كان: القبلة السياحية. فلي من المقومات والتراث المادي واللامادي والروحي، ما لا يختلف فيه إثنان. إذ أن أغلب الحضارات التاريخية حطَّت الرِّحال على أرضي، وأقامت صروحا مُنيفة على ثَرايَ لا يطولُها الخيال، ولا تحيط بها الصفة. وفيَّ مدافن وأضرحة الملوك والحكماء والعلماء والأولياء والشعراء والمتصوفة. ولي أبواب عظيمات مُتْرَعاتٌ تعبق برائحة التاريخ العَطِرِ والأمجاد، وعناوين الانتصارات والانكسارات كحال أي شعب وأي أمة. وربما يكون باب ” الكيسة ” محتفظا بتلاوة وتعاليم وشعر الشيخ الأكبر محيي الدين، ودروسه وتصوفه، وعلمه الغزير، ولقائه ب ” إمام الوقت ” على حد قوله.(1 ). ولي الثُّلومُ والشقوق العريقة المروحية التي اتخذتها اليمامات والخطاطيف موئلا وسَكَنا. فهي تنشر ظلالها عند كل مغرب شمس كالسحب الكريمة، وفي الأصائل مُشَقْشقةً مغردة.. مسبحة وصادحة بمجدي ورفعتي بين الأمم.
وكيف أنسى الموسيقا الأندلسية ( موسيقا الآلة ) التي هي ميسمي وفخاري وصلصال اعتزازي. ولدت في الفردوس، ورضعت وترعرعت هنا حتى أشرفت على الذروة في الإيناع والإبداع والإمتاع. التصقت بي فدلتْ عليَّ، ودللتُ عليها بدوري، فطوبي لها وطوبى لي.
ولا تسلْ عن القرويين ( شُرٍّفَ ذِكْرُه )،العظيم مفخرة المغرب التي لا تُدانيها أي مفخرة، بل مفخرة العرب المسلمين، أقدم جامعة عامرة. فهو رمز العلم والجلسات الفقهية والأدبية، والرياضية والفلكية والجغرافية والتاريخية. مقصد الباحثين عما يرفعهم ويعلمهم، ويرسخ أقدامهم ونخبويتهم وأستاذيتهم، وفي مقدمتهم البابا سلفستر الثاني، وابن خلدون وابن رشد، وابن عربي، وابن ميمون وابن باجة، وابن البنّاء المراكشي، والمعافري، ولسان الدين بن الخطيب، من دون أن آتي على أسماء أعلامنا الفاسيين الحديثين والمعاصرين، فهم معروفون مشهورون سارت وتسير بذكرهم الركبان. القرويين الأنْورُ حيث المكتبات والخزانات المزدهية، وحيث يترقرق وميض العقول النيرة، وتنبض روح الإنسان والتاريخ، ويتكلم الصمغ والحبر بلسان المعلمين والفقهاء والملوك والشعراء والمتصوفة والمجاذيب، وتنطق تصانيفهم وكراريسهم المخطوطة، وكتبهم النفيسة المطبوعة، بالشأو الذي وصلوه، وبالجاه العلمي الذي بلغوه، وبالصيت العريض الذي حققوه.
أما الجمال فقد حُزْتُهُ، وَرَفَلْتُ في غَلائله وغُلالاَته، واكتسيت بأرديته الحرير: بالدمقس والديباج والسندس، وتزينت بثمين أحجاره الكريمة، وذهبه الإبريز. ولبست ألوانه البيضاء كثلج الأطلس الأشم، أو كبجع فرانز شوبيرْ، والخضراء كجوامعي وأحواضي، وجنائني وحدائقي المترفات، وبيوتات أهلي وأبنائي وأحفادي القادمين من التاريخ والمقيمين في التاريخ. أنا الجميلة الحسناء، الغادة الغيداء، والكاعب الأبدية. لم أشخْ وإنْ حاولوا تشييخي، ولم أهرم كما يشاع، ففي هَرَمِي صباي المتألق المتأنق المتجدد. أنا العنقاء أحترق وأبعث على مدار الفصول؛ وطائر السيمورغْ الذي لا يحيا إلا بحرارة النار الوقّادة التي سرعان ما تنقلب إلى برد وسلام كنارالنبي إبراهيم عليه السلام. ما أريده من ذوي الجاه والأريحية، ما أريده من الساهرين على أمن وتنمية بلادي، ومن أولادي، والمنتخبين بعد أن يغتسلوا من أوضار الإيديولوجيا الضارة: أن يُعيدوني إلى سالف أيامي، وسابق مجدي، ويتأملوا مليّاً ما قاله فيّ الفقيهُ أبو عبد الله المغيلي أحد الشعراء الأحباب. فهذه واحدة من بين مئات القصائد الشعرية التي تغزلت بي، داعية لي بالغيث والسُّقْيا خوفاً عليّ من التيبس والتصحر، وخشية التصوح والذبول:
يا فاسُ حيّا الله أرضك من ثرى ////// وسقاكِ من صوب الغمام المسبل
يا جنةَ الدنيا التي أرْبَتْ عــلـــى ////// حِمْصٍ بمنظرها البهي الأجمـــلِ
تلك القصيدة الذائعة التي لحنها الموسيقار الكبير أحمد البيضاوي، فأبدعَ. وَغناها، ثم غناها الفنان عبد الوهاب الدكالي، كما غنتها المدارس والمعاهد، وأصبحت على كل لسان، وطيّ كل فؤاد ووجدان. ختاما: هل للمدن التاريخية الروحية ، رائحةٌ، رائحةٌ فردوسية كأنفاس نبيٍّ، وفوْحُ ورود وريحان. فوْحٌ سماويٌّ يهطل ناعما هفْهافاً من أجنحة الملائكة، وأثواب الحوريات؟ نــعـــمْ، لها تلك الرائحة. وفاس آيةٌ وبرهـــــانٌ.

إحــــــالــــــة:
ــ اشتهرت فاس بأبوابها التاريخية المنطوية على أمجاد وعلوم، وتصوف، وفقه، وانتصارات وانكسارات. وهاهي ذي: ـ باب الفتوح ـ باب الخوخة ـ باب الحديد ـ باب جبالة ـ باب الكيسة ـ باب سيدي بوجيدة ـ باب المكينة ـ باب أبي الجنود ( بوجلود ) ـ باب السمارين ـ باب شمس ـ باب الدكاكين ـ باب البرجة ـ باب السمارين ـ باب المحروق ـ باب زيات.