أطروحات بصدد الكراهية 2/1

تطرح الكراهية موضوعا خاصا بها يتمثل في اللامحدد، التيه،الهذيان والجنون الاجتماعي، غياب القدرة على تخيل الآخر، التفكير في الاختلاف ،والقضاء على طوبى utopie التحرر والتعدد.هناك بالنسبة للكراهية بنية/ بنيات لا وجود للآخر فيها، بنيات مثل مربعات فارغة،شروخ مفتوحة يندلق منها كقيح متعفن ونتن كره الآخر المختلف عن الذات،سواء كان هذا الآخر أقلية دينية، عرقية، جنسية، ثقافية، لاجئا، معطوبا، هاربا من جحيم حرب ما ،أو باحثا عن حياة كريمة في بقعة أخرى من العالم ليتخلص من الحياة المشوهة، سياسيا، وجوديا وثقافيا التي عاشها من قبل.
الذين يمدحون/يمارسون الكراهية، يعتقدون أن البنية التي ولدوا عاشوا وسيموتون داخلها، يجب أن تظل بنية خالصة صافية معفاة كلية من حضور الآخر/ الأجنبي. إنهم يمارسون الكراهية كنوع من السالبية التي تشوش/ تربك العلاقات الوجودية الممكنة بين الأفراد،سالبية تقول بؤس الفكر ، عري الوجود، تشوش الحواس كلها، وتزرع العجز عن الحياة. الذين يمدحون/يمارسون/ينظرون للكراهية، عاجزون عن الحياة، عن تمثل زخمها، صيرورتها، خطوطها المتعالقة التي لا تجعل منها حياة بدون وجود الآخر. يعمل هؤلاء ضمنيا على تطبيق إحدى ثوابت السيادة التي حازها الملك قديما حين كان يمارس على الآخرين :(الحق في الحياة والموت)،أي أن تترك أفرادا ما يحيون عبر قتل آخرين والحكم عليهم بالموت.
وكما الكراهية جريمة ترتكب ضد الوجود، وضد سياسة العيش المشترك، فإنها منذ البدء كانت أيضا جريمة فلسفية لأن الكراهية وسمت بوسم حضورها أصل الفلسفة، خصوصا مع الحكم على سقراط بالموت والمآلية الكارثية التي تعرض لها جيوردانو برونو، سبينوزا وروسو أو محنة ابن رشد. ويمكن التفكير عميقا في ما يجعل الفلسفة موضوعا لاشتعال نيران الكراهية وتغذية أسباب القمع والإبعاد والإقصاء، ومحارق الأجساد والكتب والحكم على ممارسيها والمنتسبين إليها إما بالموت أو الصمت أو الانزواء بعيدا عن المكائن البارانوية للسلطة، وعن انهمامات الدهماء والغوغاء وغرائزها المنطلقة،وهو ما استمر في القرن العشرين مع إغلاق شعب الفلسفة بكليات الآداب .فأي جريمة ارتكبتها الفلسفة حتى تستدعي جريمة/جرائم أخرى؟. إن الكراهية، كما يتأكد ذلك عبر العديد من التجارب،هي مبدئيا رفض لوجود ما ،بينما الفلسفة، هي أو لا وقبل كل شيء، عشق للوجود، والعشق عموما لا يوجد/ينمرس بدون أن يفترض،ربما، وجود رفض مسبق. لكن شتان بين الرفض كرد فعل قد يبدو أحيانا عاديا، وبين الكراهية التي تصير عمياء.
من نافل القون أن منطقة التدخل المفاهيمي تبدو عبر تاريخ الفلسفة كساحة معركة لأن الفلسفة انبثت /انعلنت دوما كمنظومة ضد منظومة فلسفية أخرى سابقة ومضادة.باسم تكون عوالم ورؤى جديدة للعالم يتم دحض أخرى والتفكير ضدها، نيتشه ضد هيجل،ماركس ضد هيجل،حتى أن ألتوسير صاغ قوله الفلسفي المأثور بأن الفلسفة المادية صراع طبقي يخاض داخل حقل النظرية، ونتذكر أيضا مقال كانط القصير عن المعارك التي تخاض داخل مسرح عمليات الفلسفة.غالبا ما تقول الفلسفة شيئا ما متعذر الاحتمال، متجاوزا بكثير لما يسود في عصرها، مضادا للتقليد والثرات، ولبعض السلط السائدة والمؤسسة، سواء كانت فلسفة ثورية أو محافظة، سواء أنتجها كانط أو ماركس وغيرهما. ذلك نظامها الخاص، علة وجودها، ووظيفتها المفاهيمية والوجودية الأساس كفلسفة تحزن الكثيرين وتمارس الإضرار بالغباوة كما قال عنها فوكو. ذلك ما يجعلها خارج أي موقع منتظم ،في مكان مغاير، المكان المختلف. موقع الطوبى l’utopie هنا لا يحتويها ولا يصير محل سكنها المغلق والمنتهي، بالرغم من فتنته وغوايته. لنستحضر في هذا السياق، بأن سقراط ظل يتكلم ويجادل كما لو أنه يكلم نفسه بالرغم من محاورته للآخرين. يعبر سقراط في الحوارات الأفلاطونية عن أفكار لا موقع محدد ومعلوم لها، وهو ما يعني أنها تعبيرات وأفكار غريبة وغامضة،لا محل ولا سياق لها .لا نعرف بالضبط تحديد الموقع الذي انطلاقا منه يتكلم سقراط ،وما الذي يقصده وحين يبدأ المحاوَر في الفهم، يكون الوقت قد فات،وقد استعمل كاليكليس وقته ليصل الخاتمة وينسحب من لعبة المحاورة تاركا سقراط وحده يتكلم.
في الستينيات من القرن الماضي اعتقد مثقفون وفلاسفة من الذين تبنوا البنيوية ونظروا لها بأن البنية هي الذات. نتذكر حديث ألتوسير عن «السيرورة بلا ذات»وفي ثورة ماي 1968، تحدث الكثيرون عن نزول البنيات الى الشارع. البنية القارة المحددة والتي أحال عليها منظروها كل شيء، ألم تكن بشكل ما من الأشكال عنوان كراهية،ألا تفرز البنيات القارة والمغلقة دوما تجليات ومضامين عديدة للكراهية؟ مجرد سؤال نطرحه. نستحضر هنا ما كتبه سارتر في كتابه (مواقف/1967) :(فاليري مثقف بورجوازي صغير،لا شك في ذلك.لكل كل مثقف بورجوازي صغير ليس فاليري). ما يتكلم إذن داخل البنية هو مجرد مربع فارغ. لو نظرنا له من داخل البنية/البنيات وسلطتها المعلنة أو الخفية، لبدا لنا كلام سقراط نشازا موشوما بنوع من الغرابة، لا موقع محدد له، وكل ذلك ينجم عن أن سقراط يتكلم،لا يكف عن الكلام. مشكلة البنية هو أنها تكون بلا ذات وتكون أيضا، أحيانا كثيرة، بلا فكر، مجرد ورشة مفتوحة لإصلاح البنية الميكانيكية لذات /لفكر ما . حين يتكلم سقراط، يمارس حضورا حيا عبر كلام حي، حضورا يشوش معايير الدوكسا، يفقدها تعالقاتها وتمفصلاتها. يرتبط هذا التشوش أو اللاتمفصل بالثنائية التي طرحها سوسير : لغة/ كلام، والتي تتناسل في ثنائيات أخرى : ثوابت اللغة/ إنتاجية الجمل، المجتمع/الفرد، السلبية/الفعالية والتي قد تحيل أيضا على ثنائية شومسكي : قدرة/ إنجاز. إن الانجاز الذي يتم تحيينه والذي يبدأ لينتهي،يكون أقل شأنا من الإمكانيات اللامحدودة التي تطرحها البنى النحوية ومختلفا عن إمكانياتها، في الإطار الذي يتضمن فيه الكلام ويعبر عن سجلات قدرة ليست ببساطة لسانية بل سياقية، سوسيو-ثقافية، عملية…الخ.كل كلام حي لا يتمفصل بالضرورة مع اللغة.ذاك ما نستخلصه فلسفيا من درس سقراط.
حتى نتكلم، نضطلع بمحك الكلام ونقتطع حصتنا منه، يفترض ذلك من الذات المتكلمة استعمال نوع من السالبية الأساس،سالبية تأسيسية. غالبا ما تلفي الذات المتكلمة نفسها منذ البدء، أمام نوع من الكلية التي لها سبق الوجود على الفرد،أمام نهائية تتمظهر على خلفيتها إمكانيات لا نهائية يتضمنها النحو. تلك معضلة يصعب أحيانا تجاوزها( : هل من الضروري تجاوزها؟ ).يرى فرويد بأن الأنا تتضمن الكل في الأصل، لكنها بعد ذلك تقوم بفصل العالم الخارجي عنها،وذلك في سياق حديثه عن «النرجسية اللامحدودة «كتفسير» للإحساس الأوقيانوسي». وحدها ضربات العنف التمديني (من المدينة) أو الحضاري تستطيع إحداث ثقوب في السور العظيم لمملكة الانهمامات والغرائز. نستحضر في هذا السياق قول كاستورياديس بأن الإنسان في الأصل «حيوان مجنون» يصير متحضرا عبر استعمال العقل (اللوغوس). التمدن أو التحضر إذن مجرد قشرة برانية تنضاف إلى الأصل اللاجتماعي والعنيف كلية الذي يسم الإنسان . قد يصير التحضر نفسه رديفا لصيرورة الإنسان مجنونا، خصوصا حين نرى هذا الجنون الحيواني الذي صار عاديا مرتبطا بالحياة اليومية، حين نرى قطعان المستهلكين طاعنة في الاستهلاك والتسليع (من السلعة) المعمم للحياة التي فقدت نسغها/ أنساغها، ونرى الانتشار المهول والبئيس في نفس الوقت لمجتمع الفرجة المعممة كما نظر له «غي دوبور»، حيث يصير الزائف le fausc لحظة أساس من اللحظات المكونة للحقيقي le vrai. وحدها الطرق المتشابكة التي لا تقود الى أي مكان تماما كدروب موصدة تنفتح أمام الخطو، طرق متقاطعة، متعالقة تظهر فيها بين الفنية والأخرى محطات وقود غامضة ومربكة للحواس مثل تلك التي نراها في فيلم road movie أمريكي من الصنف»ب». وجود هذه الطرق الموصدة التي لا تقود الى أي مكان كما تحدث عنها هيدغر في كتابه Holswege ، لا تعني بالضرورة عدم وجود أي شيء عند نهاية الطريق،بل بالأحرى أن اللاشيء،شبح السلبي يصاحب الطريق التي نعبرها/نجترحها.


الكاتب : مصطفى الحسناوي

  

بتاريخ : 08/07/2022