أطروحات بصدد الكراهية 2-2

إن مبدأ العقل لا يسجننا بالضرورة داخل براديغم مغلق ومنته، بل يجب عكس ذلك أن يصير السيرورة التي عبرها يتأكد وجود شيء ما بدل اللاشيء وبدل الفراغ، أن يوجد شيء ما مغاير للهوية الخالصة، للنحو المحض، مغاير للعلامات التي صارت أشياء جامدة حاملة لفيروس مرضها السيميولوجي،العلامات-الأشياء التي صارت تعاني من الخرف.حين نفكر في اختلاف الهويات نتخلص من سلطة الواحد، من إسمنت الهوية البارانوية المتراصة المبنية للمعلوم العرقي، الحضاري، الديني أو البيولوجي، ننفتح على تيه عقل بلا قرار/أساس ناظم ينتظمه. تولد الذات من علاقة طارئة، وتنسكن بالاهتزازات، بالدوار ليطوح بها فقدان التوازن الذي يظل يشتغلها دوما الى أن تبلغ لحظة الموت، وحين تسمح قوة التيارات الوجودية بظهور/ اشتغال بعض الكثافات الإبداعية، حينها يحدث للذات أن تمتاح من ذلك فرحا ما ، شذرات ما من فرح ممكن . يجب أن تقف الذات على شروخها وغرائزها، أن تشتغل عليها/ تشتغلها حتى نستكنه هذا الفراغ الوجودي،أن تتجاوز إسمنت البنيات الجامدة، صقيع الهويات، براديغماتها التي تعلي فقط من شأن المثيل. يجب أن نصوغ من هذه الشروخ إشكاليات جديرة بالفكر، على أن تظل إشكاليات وجودية بامتياز. بهذا المعنى تصير الذات مشكلة، تنرمي أمام، توضع في موضع الأولوية، تصير اقتراحا أي توجد….تصير موضوعا للفلسفة كما ذكر سقراط بذلك كثيرا. حاول أفلاطون رأب الصدع، تجاوز الشرخ، تجسير الفراغ حين انتقل من اللامعرفة الى الأفكار ، ولكن دائرة الأفكار، كما يرد في «الجمهورية» تلفي نفسها هي الأخرى مشروخة، مجزأة من طرف الخير الذي ينأى عن كل تحديد بحكم وضعه الاعتباري المتعالي.
هل ابتعدنا عن الكراهية التي هي موضوعنا؟ قد يبدو ذلك ظاهريا على الأقل بالرغم من حديثنا عن كراهية الفلسفة، عن الذات التي تعاملت معها البنية /البنيات كشرخ وكهاوية معرضة لرد فعل الكراهية،وعن براديغم الهوية الإسمنتية المتراصة. تركز الكراهية على /تضع نصب عينيها/ تنشغل كموضوع باللامحدد، اللامتموقع، بالتيه، بالجنون المدني، بهذا التوظيف للسالبية كنوع من التشوش واللاتمفصل، بالشرخ، بالانفصال والانقسام. لا تحلم الكراهية إلا بالخطوط المستقيمة ولا تريد غيرها. لا تحب الكراهية الطرق المفتوحة على الشساعة وعلى المناطق التخومية القصوى البالغة النأي، لا تحب الرحل الذي تعلموا كيف يسافرون/ يرتحلون كما يرى دولوز، وهم سادرون في المكان ذاته، لا تحب التائهين، المنفيين، اللاجئين، المزارعين الذين لا يملكون أرضا ولا تحب أي رحيل أو هجرة كيفما كان. لا تحب الكراهية الوجود. إنها كراهية للوجود أي للخارج،للعالم لأنها لاترى غير الداخل، داخل الهوية المتراصة، داخل البراديغم الذي يحيل على المثيل.ليس هناك بالنسبة للكراهية غير الداخل .هذا التمترس البارانوي في الداخل، رفض الاعتراف بالغيرية، هو التأكيد على أن كراهية الآخر ترتبط في الشكل الأقصى الذي تتلبسه بالشكل الأكثر غموضا وظلامية الشكل المكبوت من أشكال الكراهية وهو كراهية الذات. دوما حين يفرط أفراد، جماعات بشرية، حشود وجماهير، شعوب، أمم في مديح الداخل الإسمنتي المتراص، يكون ذلك دليلا على تغلغل الكراهية فيها.
لنقف قليلا عند سبينوزا «أمير الفلاسفة» كما سماه دولوز، لأن ما قلناه يرتبط إلى حد ما بما عبر عنه في الجزء الثالث من كتابه (الإطيقا) الذي خصص اقتراحاته وحواشيه للوقوف عند(أصل وطبيعة الأحاسيس). يرجع سبينوزا الكراهية الى الحسد l’envie كما يرد في (حاشية الاقتراح الرابع والعشرين /ج 3) (تعزى أحاسيس الكراهية وما شابهها الى الحسد الذي لهذا السبب لا يكون شيئا آخرا غير الكراهية نفسها، بما أننا نعتبر أنها تهيئ الإنسان للاستمتاع بالشر الذي يطال الآخر وعلى العكس بالحزن لتوفره على السعادة) (ص :241). يطرح سبينوزا تشريحا ماديا وحسيا للكراهية، بل إن اقتراحاته وحواشيه حولها قد تكون بمثابة كشف لأعراضها قصد الشفاء منها.إنه الفيلسوف الأكثر تميزا في تفكيك الأحاسيس وشرحها بطريقة موضوعية وواقعية، بعيدا عن الاستعارات والأليغوريات والتعبيرات الرمزية التي تبناها التحليل النفسي لا حقا مع فرويد .إن الهدف الرئيس لسبينوزا إزاء الأحاسيس هو عموما أن نعاني منها بشكل أقل كما ورد في (الاقتراح السادس/ج5/ص :493)  (إن الروح بما أنها تفهم كل الأشياء باعتبارها ضرورية، تكون لها تبعا لذلك قوة على الأحاسيس وبلغة أخرى، فإنها تعاني منها بشكل أقل) وتتمكن خصوصا من القضاء على الانهمامات الحزينة التي تنقص من قوة الفعل عند الفرد.
انشغل سبينوزا بفضح الانهمامات الحزينة التي تفصل الإنسان عن قدراته وقواه الكامنة والممكنة، والتي تستغلها السلطة الاستبدادية والتيوقراطية لفرض معاييرها الصارمة والقمعية على المجتمع. الكراهية تندرج ضمن هذه الانهمامات الحزينة التي تضفي على الوجود الإنساني طابعا ارتكاسيا سلبيا. يقول في (الجزء الرابع الذي يتحدث فيه عن العبودية الإنسانية في الاقتراح الخامس والأربعين)  :(لا يمكن للكراهية أن تكون جيدة أبدا ) (ص 411).أن تكره شخصا ما، فكرا أو شيئا ما، نمط عيش،سلوكا….الخ يعني ذلك بالفعل أن تريد تدميره، أو في الحد الأدنى «أن نبعد» عن النحن، كل ما يسهم في حزننا كما يقول (الاقتراح الثامن والعشرون/ج 3) : (كل ما نتخيل أنه يساهم في الفرح، نجهد أنفسنا في نشره حتى يتحقق ذلك، وما نتخيله مضادا لذلك، أي أنه، بلغة أخرى ، يساهم في الحزن ، نعمل جاهدين على إبعاده أو تدميره)(ص.249)لأن من شأن إشاعة الحزن ودعم الإحساس به لدى الأفراد، المساس بحدة وجودنا بزخمة وكثافته والحد منها.
تتبلور اقتراحات (الإطيقا) حواشيه لازماته أو نتائجه، بلغة المنهج الهندسي الرياضي الذي تبناه سبينوزا كنمط للتفكير، على شكل شبكة عنكبوت تتواشج، تتعالق، تتقاطع خيوطها، التي قد تبدو واهية لكنها لا تخلو من قوة وصلابة، (كان سبينوزا مولعا بالتفرج على العناكب وهي تلتهم فرائسها بعد أن تعلق بخيوطها العنكبوتية،كما يروى بايل Bayle الذي كتب عن حياته). هناك (الاقتراح الأساس السادس/ج3) :  )كل شيء بما أنه موجود في ذاته،يعمل على الحفاظ على وجوده)(ص217)،والذي يتعارض بالتالي مع البرهان الذي يلي الاقتراح ذاته (أي السادس)أي يتعارض مع (كل ما يمكنه القضاء على وجود)(ص217) .لتجاوز هذا التعارض يلزم الانتقال الى (الاقتراح العشرون/ج 3 /ص237) الذي يقول :(من يتخيل تدمير ما يكرهه، سيكون فرحا). لكن الأمر ليس كذلك لأن العمل على التدمير،كما يقول لنا سبينوزا،سيء في نهاية المطاف، وذلك في البرهان الذي يلي ( الاقتراح الخامس والأربعون، ص411 ) : (نعمل جاهدين على تدمير إنسان نكرهه ،أي نعمل على إنجاز شيء ما سيء).أولا لأن (الفرح الذي يولد من تخيلنا تدمير أو إلحاق شر آخر، بشيء نكرهه، لا يولد دون شيء من الحزن في الروح) (الاقتراح السابع والأربعون /ج 3 ص276-277).
(حين نهاجم الآخر كما يرى البرهان الذي يلي الاقتراح الآنف الذكر، فإننا نهاجم (شيئا يشبهنا ولهذا السبب نكون حزينين). إذا ما تخيلنا وجود إحساس الحزن عند الآخر الذي يشبهنا، (فان هذا التخيل سيترجم إحساسا لجسدنا شبيها بذلك الإحساس) يقول (البرهان الذي يلي الاقتراح السابع والعشرين ج3/ص245).ما ينبغي فهمه هنا هو أن التدمير لا يكون سيئا إلا وفقط إذا اشترك مع صورة شيء يتعلق الأمر بتدميره،أي بلغة أخرى إذا كانت تحركه الكراهية. لكن سبينوزا يقول بأن الأمر لا ينطبق أبدا على (قاض يحكم بالإعدام على متهم،لا بسبب الكراهية أو الغضب، …الخ بل فقط نظرا لعشق الخلاص العام).تنهض كل الأحاسيس عند سبينوزا على منطوق الاقتراح الرابع من الجزء الثالث (ص :215) الذي يسبق فكرة الكوناتوس Conatus ،كما سيحددها في الاقتراحات اللاحقة (السادس، والسابع،الثامن والتاسع/ من نفس الجزء).يكتب سبينوزا في (الاقتراح الرابع/ج 3) ما يلي : (لاشيء يمكن تدميره سوى عبر سبب خارجي).
نعرف، عبر الاقتراحات بأن سبينوزا ينفي كلية(إمكانية أن يكون هنا داخل الذات نفسها شيء ما قد يدمرها) (برهان الاقتراح الخامس ج3/ ص215).فأن لا تتمكن الموت من الإتيان سوى من الخارج يغير حسب رأي سبينوزا، ذلك هو المجهود المتمثل في الحفاظ على الوجود كمجهود من أجل البقاء سليما ومعافى.قد ينحصر معنى أن يظل الإنسان سليما ومعافى ألا يخرج خارج الذات ،أن لا يندلق خارجها، وتلك إحدى تحديدات مفهوم المحايثة. وقد يكون تحديد البقاء سليما ومعافى مرتبطا، في صيغة أخرى، بالانذغام في علاقة فرح والمرور تبعا لذلك نحو درجة أكبر من الكمال(نقصد عبر الكمال ماهية شيء ما نفسه) كما يرد في (شرح التحديد العام للأحاسيس ج3/ص 333 )أو يبعدني عنه وهو ما سيلزمني، أيا كانت النتيجة، بالابتعاد عنه. إما أن يؤكد وجود الآخر ماهيتي أو ينفيها فارضا علي التدمير. يبدو كما لو أن وجود الآخر في حد ذاته مقلق ومشوش للحواس والفكر، وهو مايربط الكراهية بالحسد، حسب التقنية البلاغية المسماة قلب العبارة أوكيازم Chiasme  : أي أن نحب الشر ونعاني من السعادة التي يحس بها ويعيشها الآخر. قد يرتبط الحسد بدرجات مختلفة من الحدة. عبرها يصير وجود الآخر فالتا مني، من حيث هو واقع. إن واقع الوجود قد يكون الموضوع الأوحد للكراهية. إنها تختزل الآخر الى موضوع كثيف، تكره الحياة والوجود، ولا تكون لها(أي الكراهية)أي علاقة مع الإبداع والفكر الخلاق والنقدي، لأنها لا تعي طبيعة العوائق التي تجابهها كسلوك ورد فعل، ولا المصائد التي تقع فيها. لهذا تظل الكراهية (كراهية الآخر التي تجد أصلها في كراهية الذات)غير مبدعة وغير منتجه،نوعا من الدوران في حلقة مفرغة .كم من التحولات، الصيرورات،التغييرات الزائفة لم توجهها غير الكراهية، فيما يعتقد أصحابها سواء كانوا أفرادا أو جماعات بأن ردود فعلهم سليمة.إن الكراهية ليست سهلة أبدا بل غامضة بلا إدراك ولا قدرة على التمييز، ولا يمكن أن تجترح أمامنا طرقا نحو المعرفة ولا أن تقودنا نحو التحرر….

*هامش :
اخترنا في إحالاتنا على كتاب (الإطيقا) ،الإشارة إلى أرقام الصفحات مسبوقة بحرف (ص). وقد اعتمدنا على :
Spinoza, Éthique, traduit par Bernard Pautrat, coll. : Essais, Edition du Seuil ,1999


الكاتب : مصطفى الحسناوي

  

بتاريخ : 15/07/2022