أفلام غيرت العالم 9- أنا دانييل بليك

هناك تعريف شائع يقول بأن السينما هي إعادة ترتيب الوعي في عقول الجمهور، فالسينما ليست فقط مرآة تعكس ما يجري في المجتمع بل أيضا أداة لإعادة تشكيل المجتمع.
فإذا كانت السينما، ككل الفنون، أداة للتعبير عن رؤية معينة اتجاه الواقع، إلا أن تأثيرها على الناس أقوى من كل أدوات التعبير الفنية الأخرى، حيث استطاعت، منذ ظهورها، أن تشكل قوة مؤثرة في الرأي العام، قوة قادرة على تكوين أو المساهمة في تكوين رؤية مشاهديها لهذا العالم وأن تؤثر بشكل ملحوظ في تغيير نظرتنا للواقع بمختلف تجلياته.
ضمن هذا الاتجاه تميزت أفلام عديدة، بكون تأثيرها كان أقوى من غيرها حيث انها كذلك قادت إلى تغيير قوانين، سياسات، سلوكيات وأفكار، كان العديد منها يعتبر من المسلمات، وبذلك تتضح القدرة الفائقة للسينما على تغيير الواقع والوعي الإنساني.
في هذه السلسلة مجموعة من الأفلام التي، بفضل جرأتها، ثرائها الفني وعمقها الإنساني، استطاعت أن تساهم بشكل كبير في تغيير العالم إلى الأفضل.

 

عندما عرض فيلم “أنا دانييل بليك” في مهرجان كان السينمائي الدولي سنة 2016، وقف الجمهور لمدة 15 دقيقة لتحية فريق العمل، بسبب أسلوبه الفني ومضمونه الاجتماعي، وفاز الفيلم بالسعفة الذهبية للمهرجان الأهم عالميا، كما شارك في 35 مهرجانا عبر مختلف القارات وحصد 23 جائزة، والأهم أنه خلق نقاشا مازال متواصلا إلى الآن، حيث وجه نقدا شديدا لليبرالية المتوحشة، وسياسة رفع اليد عن الدور الاجتماعي للدولة.
فيلم “أنا دانييل بليك”، انتاج بريطاني فرنسي، للمخرج البريطاني “كين لوش” كتب له السيناريو “بول لافيرتي” وقام ببطولته كل من “ديف جونز” و” هايلي سكوايرز”، ويتحدث عن مواطن بريطاني اسمه “دانييل بليك” في التاسعة والخمسين من العمر ،ظل طوال حياته العملية يشتغل كنجار، لكنه سيتعرض لمشاكل في القلب، وعندما يشخص طبيب مختص حالته سيخبره بأن وضعه الصحي لم يعد يسمح له بالعمل، وبأن عليه الخلوذ إلى الراحة وإلا فإن حياته ستصبح مهددة.
سيجد “دانييل بليك” نفسه مضطرا لأول مرة لطلب المساعدة الاجتماعية، فذلك حقه على الدولة، وبيده مبرر يجعله مستحقا لهذه المساعدة، ألا وهو تقرير طبيب متخصص، لكنه لم يكن يدرك أنه سيدخل إلى دوامة لن يستطيع الخروج منها.
حكومة المحافظين، كغيرها من الحكومات التي ترى في القطاعات الاجتماعية تكاليف غير مرغوب فيها، كانت قد أوكلت لشركات خاصة تدبير الإدارة الاجتماعية التي تنظر في طلبات المساعدة، وهذه الاخيرة تتعامل بمنطق الربح لا غير، فكلما رفضت ملفات أكثر، كلما كان أداؤها جيدا ومطلوبا، وهكذا تحول موظفو الشركة الى آلات لتنفيذ الأوامر، بلا روح أو شفقة، وصار المواطنون المعوزون الذين يتوجهون إليهم مجرد أرقام في ملفات.
هكذا سيواجه “دانييل بليك” في مواجهة آلة بيروقراطية لا ترحم، وبأن عليه أن يملأ العشرات من الاستمارات واجراء المئات من المكالمات، وأن يواجه بالتسويف والقرارات غير المفهومة، وفي خضم هذه المعركة، سيتعرف على أم عازبة لها طفلان، اضطرتها الظروف لأن تسكن بعيدا عن مسقط رأسها بـ 450 كلم، ووجه طلبها بالمساعدة بالرفض فقط لأنها تأخرت عن الموعد المحدد لها ببضع دقائق، وستنشأ صداقة بين الإثنين.
في الأخير سيصاب “دانييل بليك” بنوبة قلبية أودت بحياته وهو في مبنى الإدارة التي داست غير مبالية على كرامته، تاركا رسالة لصديقته، كان يريد أن يقرأها في احتفال، فتقرأها هذه الأخيرة في حفل تأبينه ويقول فيها: إسمي دانييل بليك، أنا رجل ولست كلبا، أطالب بحقوقي وأن تعاملوني باحترام، أنا مواطن لا أكثر ولا أقل ”
اعتبر النقاد فيلم “أنا دانييل بليك” تحفة سينمائية حول كرامة الإنسان، وبأنه ثورة في وجه الظلم ، وصرخة في وجه الروتين والبيروقراطية.
وتكمن أهمية الفيلم على الخصوص في مضمونه الاستشرافي، لقد انتقد المخرج بشدة الليبرالية المتوحشة التي تعتبر أن الدولة يجب أن ترفع يدها عن القطاعات الاجتماعية، وبأنها ليست مسؤولة عن رعاية مواطنيها عند الحاجة، ليس في بريطانيا فقط، بل في مختلف الدول التي تقودها حكومات تتبنى هذا الطرح، لنتذكر هنا خرجات رئيس الحكومة المغربية السابق، غير أن التطورات الحالية بعد أن اجتاح فيروس كورونا مختلف دول العالم، أكدت أن تخلي الدولة عن القطاعات الاجتماعية بمثابة انتحار، ومن هنا تأتي أهمية الفيلم ودوره مبكرا في الكشف عن هذه المخاطر.


الكاتب : عزيز الساطوري

  

بتاريخ : 05/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *