أمريكا والمغرب.. ضفتان في التاريخ وفي الأطلسي (8)

دعوة المغرب إلى المشاركة في معرض سان لوي الدولي سنة 1902

كيف يمكن تمثل قصة العلاقة بين المملكة المغربية والولايات المتحدة الأمريكية كما تحققت في التاريخ المعاصر والحديث؟. ما هي أبعادها سياسيا وحضاريا وأمنيا وتجاريا؟. لماذا بقيت حقيقة العلاقات بين البلدين سجينة كليشهيات عناوين كبرى، دون الغوص في تحليل المعنى التاريخي لتلك العلاقة النوعية والخاصة؟. أين يكمن السر في كل الرسوخ الإستراتيجي للعلاقة بين واشنطن والرباط؟. وما الذي يشكله «لوبي التاريخ» في تجسير تلك العلاقة بين الدولتين؟. ثم ما الأهمية التي للجغرافية في العلاقة بين طنجة وبوسطن، وبين الدار البيضاء ونيويورك، وبين الصويرة وفلوريدا؟.
إنها بعض من الأسئلة التي تحاول هذه المادة الرمضانية أن تجيب عنها، من حيث هي تحاول رسم خط تاريخي لميلاد وتطور العلاقة بين المملكة المغربية والولايات المتحدة الأمريكية. نعم، هي تستحضر أكيد، أن عين درس التاريخ المغربي ظلت دوما مصوبة باتجاه الشمال المتوسطي في أبعاده الإسبانية والبريطانية والفرنسية والألمانية، وهي تحاول أن تنزاح قليلا صوب غرب المغرب باتجاه عمقه الأطلسي، من خلال مغامرة نبش الغبار عن ذاكرة العلاقات بيننا وبين بلاد «العم سام». ففي ذلك تفسير آخر للكثير من القصة المغربية (الدولة والمجتمع) في التاريخ الحديث والمعاصر وضمن مهرجان اصطخاب المصالح بين القوى العالمية، التي جغرافيته مجال من مجالات تقاطع تلك المصالح.

 

لو شئنا وضع عنوان سلبي لشكل العلاقات المغربية الأمريكية ما قبل 1912، تاريخ فرض الحماية على المغرب، لكان محصورا في ما يمكن وصفه ب «أزمات مشكل المحميين الأمريكيين من المغاربة والأجانب». ذلك أن كل المراجع التي اشتغلت على أرشيف المراسلات بين ممثلي السلطات المغربية في طنجة أو في العاصمة فاس، تقف بتفصيل دياكروني (وليس سانكروني) عند كم كبير من المشاكل القانونية والتدبيرية والأمنية والمالية التي تسببت فيها قضية «المحميين الأمريكيين». وكيف أنها أثرت كثيرا على أدوار القناصل الأمريكيين المعينين من قبل وزارة الخارجية الأمريكية بالمغرب، مثلما أنها كانت سببا في إعفاء البعض منهم من مهامه الديبلوماسية في قرارات عقابية (القنصل الرئيسي بطنجة ماثيوز كمثال). لأن مسألة منح «الحماية الأمريكية» حينها للأفراد المغاربة، على امتداد سنوات النصف الأخير من القرن 19 وبدايات القرن 20، قد تحولت إلى مجال للفساد المالي واستغلال النفوذ والرشوة.
لكن، الواقعة كما حدثت تاريخيا، مختلفة بعض الشئ. أولا لأن مشاكل أزمة «المحميين» بالمغرب (وهنا مهم جدا العودة إلى الكتاب القيم للمؤرخ المغربي محمد كنبيب «المحميون» الصادر سنة 2011، ضمن منشورات كلية الآداب بالرباط)، كانت واقعا مشتركا بين كل القوى الأجنبية ذات التمثيل الديبلوماسي أو التجاري بالمغرب، من البرازيل بأمريكا اللاتينية حتى روسيا القيصرية بموسكو، مرورا بمدريد، باريس، روما، فيينا، برلين، ستوكهولم، لشبونة، لندن، أمستردام وغيرها من عواصم الدول الأروبية. وأن الفساد المالي والرشوة والإغتناء غير المشروع للوسطاء وللديبلوماسيين الأجانب وهم يبيعون أوراق حمايات حكومات بلدانهم للمغاربة، قد ضاعف منه ثانيا مستوى الفساد والرشاوي والإتاوات المتفشي ضمن البنية الإدارية للسلطة المغربية على كافة المستويات التدبيرية (تجارية، جمركية، ديبلوماسية وأمنية). ولم تكن المشاكل الأمريكية في مجال مسألة المحميين، سوى جزء من كل، حيث سجلت مشاكل عويصة في كل المدن التي كان بها تواجد ديبلوماسي أمريكي بالمغرب، من طنجة حتى الصويرة، مرورا بآسفي والجديدة والدار البيضاء والعرائش، وكذا في كل المناطق التي ولدت بها أنوية تجارية أمريكية (خاصة الشركة الأمريكية للجلود من مدينة فيلاديلفيا، التي كانت تصدر الجلود من المغرب صوب جبل طارق ومنه إلى لندن ومن لندن إلى ميناء بوسطن).
إن ما نود نحن التوقف عنده أكثر، في هذا المستوى من البحث في قصة العلاقات المغربية الأمريكية، هو الشق المؤسساتي لتلك العلاقة كما تبلور في المرحلة الدقيقة ما قبل 1912، والذي ستكون له آثار جلية على الموقف الأمريكي بعد 1912، أي بعد فرض الحماية الفرنسية والإسبانية والدولية على الأراضي المغربية، كما تم توزيعها بين باريس (في الوسط الغني فلاحيا ومعدنيا) ومدريد (في الشمال وفي الصحراء الغربية للمغرب من سيدي إيفني حتى الكويرة) ومجلس حماية دولي في منطقة طنجة. ذلك أن واشنطن لم تعترف عمليا بتلك الحماية بشكل قطعي حتى نال المغاربة استقلالهم من فرنسا وإسبانيا في ثلثي أراضيهم سنة 1956، حيث ظل النقاش بين واشنطن وباريس هل هو «حماية» أم «وصاية»، امتد حتى سنة 1937، بينما في الجانب الذي احتلته مدريد فإن واشنطن لم تعترف به قط. وأن رهانها الدائم منذ معاهدة 1786، ظل هو الحفاظ على حق الحرية الإقتصادية والباب المفتوح والمساواة في ذلك بين الدول الغربية على مستوى تقاطع مصالحها الحيوية مع الجغرافية المغربية، أرضا وبشرا ونظاما سياسيا.
بالتالي، فإن شكل تطوير واشنطن لتواجدها الديبلوماسي والتجاري والإقتصادي بالمغرب، ما قبل 1912، من ضمن تواجدها في الفضاء المتوسطي وفي شمال إفريقيا، قد ظل يحكمه منطق متناغم مع رؤية استراتيجية شاملة للنخب الحاكمة بالولايات المتحدة الأمريكية سواء في مؤسسة الرئاسة أو في المؤسسة ذات القرار الفصل التي هي الكونغرس. وهي الرؤية التي ظلت تحكمها حينها «مبادئ مونرو» الإحتياطية التحرزية حماية لمصلحة «أمريكا أولا»، وعدم الإنجرار عسكريا بالأساس إلى تشابكات الصراعات التنافسية بين القوى الأروبية عبر العالم وعدم التورط فيها. مثلما ظلت تحكمها المسافة الواجبة مصالحيا بين العمق الأروبي في غرب المحيط الأطلسي وبين العمق الأمريكي في شرق المحيط الأطلسي، أي بعبارة تبسيطية: كل واحد يلعب في مجاله الحيوي جغرافيا ومصالحيا. من هنا ذلك الحرص الأمريكي الدائم ما قبل 1912، على أن يكون تواجدها في المغرب متساوقا من الناحية السياسية مع المخططات الأروبية (سواء الفرنسية أو الإسبانية أو البريطانية)، وحريصا من الناحية التجارية والإقتصادية على مبدأ «الحرية الإقتصادية والباب المفتوح والمساواة» حتى تضمن لها موقعا ضمن تلك السوق في شمال إفريقيا وجنوب المتوسط (قبل أن يتوسع ذلك التواجد إلى شرق المتوسط والشرق الأوسط في بدايات القرن 20 بمنطق مصالحي وجيو سترايتجي آخر جديد ما بعد نهاية الحرب العالمية الأولى سنة 1918، وأساسا مع بدايات اكتشاف النفط).
لهذا السبب، فإن تواجد الخبر المغربي والموضوع المغربي، ضمن رزنامة الخطاب السياسي الأمريكي وضمن واجهته الإعلامية والصحفية في تلك المرحلة ما بين 1844 و 1906، سيتحقق من خلال تطور « القضية المغربية» على مستوى حسابات واستراتيجيات القوى الأروبية الكبرى المتعلقة بتوسيع مجالات النفوذ التجاري والإقتصادي لها، بخلفية التحكم جغرافيا في السوق العالمية بمنطق القرن 19 وبدايات القرن 20. بالتالي فإنه لا يمكن تمثل ذلك بوضوح معرفي متصالح مع الواقعة التاريخية، بدون تمثل تطور التنافس الأروبي على الأسواق الخارجية ضمن مجال نفوذها الجغرافي الأقرب لها الذي هو إفريقي وشرق أوسطي وآسيوي، الذي بلور ضمن نخبها وضمن مجالات التعبير السياسية بها ما يوصف ب «الحزب الإستعماري»، الذي هو تيار عسكري وتجاري واقتصادي وفكري في الآن نفسه. فكان حرص واشنطن، في تعاملها مع «القضية المغربية» حرصا براغماتيا نفعيا بحكم طبيعة الأمور، بالعلاقة مع تطور ذلك التيار «الإستعماري» أروبيا. وأن تواجدها بالمغرب، قد توازى مع ذات مستوى التواجد الأروبي الغربي:
على مستوى أشكال التعامل التجاري عبر الموانئ المغربية،
على مستوى التمثيل القنصلي والديبلوماسي،
على مستوى ممارسة ما يمكن وصفه ب «قانون المحميين»،
وكذا على مستوى التهديد العسكري البحري كلما اعتبرت أن الحاجة تقتضي ذلك للدفاع عن مصلحة حيوية آنية أمريكية (مثال حادث اختطاف المواطن الأمريكي «بيرديكاريس» الذي كانت له أدوار مركبة في طنجة، ضمنها أدوار طبية وأدوار تجارية وأدوار تبشيرية وأدوار مخابراتية. أقول اختطافه رفقة إبن زوجته الإنجليزي «كرومويل فارلي» من قبل المتمرد أحمد الريسوني بضواحي طنجة سنة 1904).
بالتالي، فإن التواجد الأمريكي بالمجال المغربي، قد ظل شبيها بالتواجد الأروبي الغربي، أي في تساوق معه وليس في صراع معه. وظل الحرص دائما على الحضور في كل محطة مفصلية تتعلق ب «القضية المغربية» منذ مؤتمر مدريد سنة 1880، الخاص بمناقشة «قانون المحميين بالمغرب» بين الإبقاء عليه أو إلغائه، حتى مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906، الذي تم فيه عمليا وضع الأسس لفرض الوصاية على الجغرافية المغربية وتوزيعها تدبيريا بين أكثر من عاصمة أروبية تحت خيمة المصالح الفرنسية بالأساس، والذي سجل فيه رفض واشنطن المشاركة ضمن رأسمال إنشاء «بنك المغرب»، مما اعتبر قرارا غير حكيم من قبل بعض أعضاء الكونغريس بواشنطن. مثلما تم الحرص على الحضور في ملفات أخرى من قبيل لجنة «منارة آشقار – رأس سبارتيل» و «المجلس الصحي» بطنجة و «مجلس شرطة طنجة وموانئ المغرب».
كان الأمر، في النهاية، أشبه بمد وجزر في التواجد الأمريكي بالمغرب ما قبل 1912، حسب درجة المساس بالخط الحيوي الذي وضعته واشنطن لشكل تواجدها بالفضاء المتوسطي وبشمال إفريقيا، تجاريا وسياسيا. مع تسجيل معطى مركزي هام، هو أنها على امتداد مستوى ذلك التواجد، الذي قلنا إنه مؤطر ضمن رؤية استراتيجية لها (مبادئ مونرو – مبادئ الحرية الإقتصادية والإنفتاح المجالي والمساواة بين الدول)، قد ظلت حريصة على تجسير العلاقة مع مؤسسة الدولة المغربية ممثلة في بنيتها المخزنية السلطانية، فهي لم تقطع أبدا التواصل مع مختلف مستويات هرم السلطة بالمغرب من أعلاها ممثلا في السلطان إلى أدناها ممثلا في خدام الدولة المغربية في الموانئ والمدن، مرورا بالصدر الأعظم والنائب السلطاني بطنجة ومختلف الوسطاء من تجار مسلمين ويهود ومن محميين مغاربة من الديانتين معا بمختلف المدن المينائية بالشاطئ الأطلسي للمغرب. مثلما ظل الحرص كبيرا على بقاء التمثيل الديبلوماسي الأمريكي، وتوسيعه قنصليا ليشمل دوما ما بين 4 و 7 قناصلة في نفس الوقت بمحتلف المدن المغربية ذات الدور التجاري البحري. وأنه سيتم ترقية التواجد الديبلوماسي في طنجة (مقر النائب السلطاني وشبه مقر وزارة الخارجية المغربية بمنطق القرن 19 التي هي «دار النيابة»)، إلى مستوى «وزير مفوض» في نهاية القرن 19، وإعلاء مستوى قنصليتها بطنجة إلى «مفوضية أمريكية». وأن كل ذلك قد ظل يتم بالتنسيق دوما مع ممثليتها الديبلوماسية بجبل طارق، بدليل أن أغلب القناصلة الأمريكيين الذين سيتم تعيينهم بالمغرب من قبل وزارة الخارجية الأمريكية هم قادمون من مناصب لهم سابقة بجبل طارق.
إن مما يعزز ذلك التوجه الأمريكي للحرص على موقعهم الديبلوماسي والتجاري بالمغرب، هو توجيه الدعوة عبر مبعوث أمريكي حل بفاس إلى السلطان مولاي عبد العزيز للمشاركة في المعرض الدولي لمدينة سان لوي بأمريكا سنة 1902، إسمه لونغرمان، وهو المعرض الذي اعتذر مولاي عبد العزيز عن المشاركة فيه، وأرسل رسالة مع ذلك المبعوث إلى الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت يشكره على الدعوة وأنه كلف لونغرمان لإقامة جناح باسم المملكة المغربية وأن له حق التفاوض مع التجار والبنكيين الأمريكيين لدعوتهم للإستثمار في مجال المناجم بالمغرب. وهي الدعوة الأمريكية التي جاءت متساوقة مع إرسال واشنطن قبل ذلك مبعوثا لها إسمه «فالكوط وليامز» أنجز دراسة حول المجال المغربي بعد زيارته، تحت حماية مخزنية، لمدن تطوان، وزان، القصر الكبير، فاس، مكناس، سلا، الرباط ومراكش. مما يقوم دليلا على اهتمام واشنطن بالسوق المغربية ومجالات الإنتاج فيه تجاريا ومعدنيا وفلاحيا.


الكاتب : لحسن العسبي

  

بتاريخ : 26/04/2022