أنبياء بين التوراة والقرآن – 2 – إبراهيم الخليل

خاص الباحث فراس السواح في مواضيع تتعلق بالأديان والفلسفات والأساطير فى الشرق، وفي عقد المقارنات بين الأديان، ومن ذلك ما فعله فى كتابه «القصص القرآنى ومتوازياته التوراتية»، إذ طرح مسألة التشابه بين القصص القرآنى والقصص التوراتى من زاوية الباحث الذي يعتمد منهج علم الأديان المقارن. فسرد أمامنا قصص العديد من الأنبياء كلوط وابراهيم وإسماعيل ويوسف وموسى وداوود وسليمان ويونس وغيرهم..

 

وُلد إبراهيم وفق الرواية التوراتية في موطن آبائه بمدينة أور الواقعة في المنطقة الجنوبية من وادي الرافدين (=العراق)، والتي يدعوها المحرر التوراتي بأور الكلدان نسبة إلى الشعب الكلداني السامي، الذي استوطن في هذه المنطقة وأسس في نهاية القرن السابع قبل الميلاد المملكة البابلية الجديدة، التي كان من أبرز ملوكها نبوخذ نصر(1). ولسبب لا يذكره نص سفر التكوين (ولكن توضحه بعض الأسفار غير القانونية، على ما سنرى لاحقاً). فقد قرر أبو إبراهيم المدعو تارح ترك موطنه والتوجه إلى بلاد كنعان للإقامة فيها، فارتحل مع ولديه إبراهيم (أو أبرام) وناحور، وزوجتيهما ساراي ومِلكة، ولوطاً ابن ابنه الثالث المتوفى المدعو هاران. ولكن تارح توقف في مدينة حرّان (أو حاران) الواقعة في الشمال السوري، ليقيم فيها مدة من الزمن قبل أن يتابع طريقه إلى كنعان، ولكنه توفي هناك (التكوين 11 : 27-32).
بعد وفاة تارح خاطب الرب إبراهيم وقال له: «اذهب من أرضك وعشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأُعظم اسمك وتكون بركة». فذهب إبراهيم كما قال له الرب، وأخذ معه ساراي امرأته وكانت عاقراً لا تنجب، ولوطاً ابن أخيه المتوفى هاران، وكل مقتنياتهما والنفوس التي امتلكوها في حاران، وأتوا إلى أرض كنعان. أما أخوه ناحور فقد بقي في الشمال السوري (التكوين 12 : 1-5 ).
في أرض كنعان ظهر الرب لإبراهيم وقال له: «لنسلك أعطي هذه الأرض». فبنى إبراهيم مذبحاً للرب في شكيم حيث ظهر له، ثم ارتحل جنوباً إلى قرب مدينة بيت إيل، فإلى أقصى الجنوب الفلسطيني (التكوين 12 : 6-9).
عاش إبراهيم وابن أخيه لوط في كنعان حياة الرعي المتنقل، وكان يقيم مع أسرته وعبيده تحت الخيام على أطراف المدن الكنعانية. وفي إحدى سنوات الجفاف حصل جوع في الأرض، فارتحل إبراهيم ولوط إلى مصر. وكانت ساراي زوجته فائقة الجمال، فقال عنها للمصريين إنها أخته لكي لا يُقتل بسببها وتؤخذ منه. ولكن بعض موظفي فرعون رأوها وامتدحوها لدى سيدهم، فأمر أن يؤتى بها وضمّها إلى حريمه، وصنع لإبراهيم خيراً بسببها وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وجمال. ولكن الرب ضرب فرعون وبيته ضربات عظيمة بسبب ساراي، فدعا فرعون إبراهيم وقال له: «لماذا لم تخبرني أنها امرأتك؟ لماذا قلت هي أختي حتى أخذتها لتكون زوجتي ؟ والآن هو ذا امرأتك خذها واذهب». وأوصى عليه فرعون رجالاً فشيعوه وامرأته وكل ما كان له (التكوين 12: 10-20).
عاد إبراهيم إلى جنوب بلاد كنعان، وكانت مواشيه ومواشي ابن أخيه لوط كثيرة، فاختصم رعاتهما، وقرر الاثنان الافتراق حتى لا تصير بينهما خصومة. فارتحل لوط شرقاً وسكن في عبر نهر الأردن، وكانت هناك مدينتين مزدهرتين هما سدوم وعمورة. فخيم لوط على أطراف مدينة سدوم (2)، أما إبراهيم فسكن على أطراف مدينة حبرون (=الخليل) في الجنوب الفلسطيني. وقال الرب لإبراهيم بعد اعتزال لوط عنه: «ارفع عينيك وانظر من الموضع الذي أنت فيه شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً ، لأن جميع الأرض التي ترى لك أعطيها ولنسلك إلى الأبد». (التكوين: 13).
قصة إبراهيم في سفر التكوين طويلة ومليئة بالتفاصيل، والقرآن الكريم لم يورد من أحداثها إلا عدداً من المفاصل الرئيسية التي من شأنها إلقاء الضوء على أصول عقيدة التوحيد الصافي التي بشر بها الإسلام. فإبراهيم لم يكن أباً للشعب العبراني وإنما أباً للأنبياء: «ووهبنا له إسحاق ويعقوب، وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب، وآتيناه أجره في الدنيا، وإنه في الآخرة لمن الصالحين «. (29 العنكبوت: 27). «يا أهل الكتاب لمَ تحاجوّن في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده. ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين». (3 آل عمران : 65-67).
القصة في القرآن موزعة بين عدد من السور، وهي تبتدئ بإبراهيم الشاب وقد اهتدى إلى فكرة التوحيد وعزف عن دين قومه.

شباب إبراهيم في موطنه، وهدايته:

«وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر: أتتخذ أصناماً آلهة؟ إني أراك وقومك في ضلال مبين». (6 الأنعام: 74 ).
«واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صدّيقاً نبياً. إذ قال لأبيه: لمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً. يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتَّبعني أهدك صراطاً سوياً… قال: أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم؟ لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني ملياً. قال: سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفِياً، واعتزلكم وما تدعون من دون الله، وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقياً». (19 مريم: 41-48).
«واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه: ما تعبدون؟ قالوا نعبد أصناماً نظل لها عاكفين. قال: هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون؟» (26 الشعراء : 69-74).
«وإبراهيم إذ قال لقومه … إنما تعبدون من دون الله أوثاناً وتخلقون إفكاً. إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً، فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له، إليه تُرجعون.» (29 العنكبوت: 16-7).
«قال: أتعبدون ما تنحتون، والله خلقكم وما تعملون؟» (37 الصافات: 95-96).

لم يذكر سفر التكوين شيئاً عن أيام إبراهيم في موطنه أور الكلدان، ولا عن قصته مع أبيه الذي يدعى في التوراة تارح ويدعى في القرآن آزر. ولكن هذه القصة وردت في أحد الأسفار غير القانونية وهو المعروف بكتاب اليوبيليات. فهنا نجد أبرام بعد أن اعتزل أهله وملته، يوجه لأبيه خطاباً يتطابق مع خطاب إبراهيم في الرواية القرآنية، حيث يقول له :
«ما نفع هذه الأصنام التي نسجد لها ونطلب عونها؟ إنها خرساء ولا روح فيها، إنها ضلالة للقلب فلا تعبدها، بل اعبد رب السماء الذي يرسل المطر والندى، الذي صنع كل شيء على الأرض، وخلق كل شيء بكلمته، ومنه تُستمد كل حياة. لماذا تعبد هذه الأصنام التي يصنعها الناس بأيديهم وتحملها على كتفك، وليس فيها نفع لأحد. سوف يخزى من صنعها ويضل قلب من يعبدها. فقال له أبوه : أعرف ذلك يا ولدي، ولكن ماذا أفعل وقد أوكل إلي القوم أمر سدانتها؟ لو كلمتهم بالبر لقتلوني لأن قلوبهم متعلقة بها. إلزم الصمت يا بني لكي لا يصيبك أذى منهم . ثم إن أبرام حدّث أخويه بما حدث به أباه فاستعر غضبهما عليه» (3).
ولكن إبراهيم بقي مصراً على موقفه. وقد دفعته جرأة الشباب وتهوره إلى اقتحام المعبد وتحطيم تماثيل الآلهة فيه.


الكاتب : فراس السواح

  

بتاريخ : 29/04/2021