أنيس الرافعي.. هادم الأوثان القصصية

فاز الكاتب المغربي أنيس الرافعي، بداية شهر فبراير، بجائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية في دورتها الخامسة، و التي تعد من أبرز الجوائز المقدمة في هذا الجنس الأدبي بالمنطقة العربية،عن مجموعته القصصية «سيرك الحيوانات المتوهمة» التي صدرت عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع.
وأنيس الرافعي قاص يشتغل في كل أعماله على جماليات التجريب، وفيا لنموذجه الكتابي الذي يصفه بأنه نموذج سردي مغامر وغير مطمئن لا يُكتب بمعيارية، لأن الكتابة لديه حالة طوارئ ولحظة قلق دائمة لا اطمئنان فيها . هو الذي يتجاوز بنموذجه الكتابي، مفهوم الصنعة ليرفعه الى عقيدة روحية تمنحه الشعور بالاطمئنان، إذ القصة القصيرة بهذا التجلي الروحاني تساعده على عبور الوجود بخفة للوصول الى لحظة شفاء من الحياة.
احتفاء بفوزه بالجائزة وتقديرا لمنجزه السردي الموسوم بميسم التجاوز والمغايرة والتجديد، يحتفي الملحق الثقافي بهذه التجربة، مسلطا الضوء على أهم ملامحها من خلال الأوراق النقدية التالية.

 

الرف والرفرفة
فيروس في كعب أشيل السرد

 


محمد علوط

تصل معاني «الرف» إلى ما فوق المائة.
سنأخذ منها معنى أول (وهو الشائع)»وضع الكتاب على الرف» والمقصود «وضعه جانبا»، وهو كناية بلاغية إحدى دلالاتها ( أخرجه من دائرة الاهتمام). وبما أن «على» في كتاب «معاني الحروف» للزجاجي من بين معانيها الظرفية المكانية، فإن التأويل الكنائي يفهم منه «أن نضع الكتاب على الرف، ليس لكي نراه، بل لكي لا نراه)، فـ»عدم الرؤية» هو «أثر نسيان» كما يشير الى ذلك رولان بارت فيS/Z.
لا يكتب أنيس الرافعي قصصا لتوضع على الرف بل لـ»ترفرف» وهذا تعبير يفيض عن معناه:( من الأثر المحسوس إلى اللامرئي) كما يشهد هو بذلك في رقيم يحمل اسم» مقبرة الخرداوات» سيرة قصصية، ط 1، 2023 ،عن دار خطوط وظلال.
في «رفائف» هذا الرقيم يقول:» إن الطريقة المتسكعة التي أكتب بها تجعلني لائذا ولاجئا في صحاري الأجناس الأدبية وفيافي الأشكال العابرة للأنواع والأصناف، موزع الدماء والأطراف والأشلاء بين قبائلها ومواقدها. أتمادى في ضلالي حد التيه ولست مستعدا للاهتداء إلى وجهة معينة أو نهائية» ص93.
من فيض المعنى ذاته، سأقصد كناية أخرى:
(الرف) هو حطام التبن (القاموس المحيط للفيروز باذي).
أنيس الرافعي هو القاص الذي يستطيع أن ينشئ من حطام التبن سنبلة (وهذه استعارة لا علاقة لها بمتخيل العالم الزراعي والرعوي)، أتحدث عن السنبلة وليس القمح (القمع)، درءا لمساوئ الإحالة على نظام الرق السائد بين النمل- القطيع و(قبة) القمح.
السنبلة/القصة: كـ «ظفيرة أريانية» تتشكل من الأثر اللامرئي لانعكاس لا شكل الماء على زجاج مرايا التكوين.
السنبلة/ القصة: كـ(سبيكة من ذهب) تتمعدن في اختمار الفراغ غير القابل للاحتمال، الفراغ اللا متحيز بين ضوء تبر اللغة وعتمة طمي الصدأ المؤكسد لألخيمياء المتخيلات التي فقدت وهج ورنين مادتها الجوهر قبل أن يعتريها كآبة «فساد الأمكنة».
يقول حارس «مقبرة الخرداوات»: « الرغبة في كتابة القصة ، القصة لوحدها، يأتي عليها حين من ذبول ويباس، وتصير مثل المعادن تماما، تتعب وتفشل وتضعف وترهق وتتشقق وتجهد وتنكسر في خاتمة دورة التأليف. ومن أجل التدارك السريع لهذا التخاذل الطبيعي القاتل الذي يمكن أن يمر أحيانا دون أن ينتبه إليه أي كان، أو ربما بعد فوات الأوان، لا مفر من معالجة تعب الكتابة، المعادل تماما لتعب المعادن، وذلك بتخفيف الأحمال المتغيرة والمتكررة للمشاريع، وتجبير كسور الذائقة بضمادات السفر وصفائح المتع، أو ربما بالغياب والصمت النزيهين فقط».
(الرفائف) في ذات قاموس الفيروزباذي تعني( الطيات والثنيات وتعاريج القماش وأطيافه). هذه مجازات تخييلية دسمة لمخيلة نهمة في حوك ونسج القصص.
أنيس الرافعي، الضليع في اختبار (أشكال رفات جفون القصة) أدان أكثر من مرة الكتابة التي في عماها تتوكأ على عكازة(أفق الانتظار المتسول) وهو القائل ذات سياق: (تبا، إنهم يريدون قصة بسيطة، بلا طيات).
لذلك فهو في «خياط الهيئات» إذ يحوك «نسيلة» قماش السرد، فإنما يفعل ذلك من خلال نسج قائم على تشبيك وتعشيق يقوم على التكافؤ والترابط بين منطق الحكاية-الإطار (النص –الأم) وحكاية /حكايات موازية جديدة (ذات طيات وثنيات) كما يقول هو نفسه بإبرة لسانه، حيث تلك الطيات والثنيات هي (النص- الحبل السري) للسرد ص16-17 من خياط الهيئات».
رف الكتابة له ارتباط ب»رف العين» (وهما كترفيف النسيلة والفتيلة) معبر ملكي يفضي بنا الى الحديث عن «وهم الانعكاس».. وهو الفضاء الرمزي الخصب لدى أنيس الرافعي لتمثلات لاحدودية لتصادم فيزياء اللغة بفيزياء مرايا التخييل.
من أرسطو الى النمذجات الصورية لنقاد الواقعية، ظل الوعي الأدبي حبيس ادراكات منحصرة في تمثل (ما هوية الانعكاس).
أنيس يقلب المعادلة (مثل من يحفر بئرا في السماء) يصوب عينه الثالثة نحو تمثلات المنعكس في ذاته ولذاته.
ذلك المنعكس(بلا رصيد بنكي) في سيولة الصور.
إنه مثل الطائر الذي يدل على المسافة بفقدان ريشه كلما سبحت مخيلته القصصية في مرايا العبور البرزخي بين ضفاف وأطياف الوجود الحقيقي والخيالي واللامتخيل واللاموجود واللاواقعي.
أشبه ما يكون بقرين (هويته) الغرابة المقلقة، قرين يمكن تشبيهه بالنسيخ الطيفي المارق بين الأصل والشبيه، الصورة والنسخة، الحقيقة والخطأ، الواقعي واللامحتمل، وغير ذلك من التناظرات المرآوية.
ذلك ما يفعله الرافعي في «خياط الهيئات» الذي نجده في «قماشة الأطياف السردية» وهو الذي يصف نفسه بالمساعد الاحتياطي الثالث لخياط الهيئات، يختلق (قرينا) من غوريات الشخصيات اللامتوقعة بين الحقيقي والخيالي واللامتخيل واللاموجود واللاواقعي.
قرين هويته: الغرابة المقلقة.
قرين : « مثل كتاب على شاكلة فيروس ميكروسكوبي فتاك يصيب بالعدوى كعوب إيشيل الكتب القريبة منه على رف مكتبة «.»خياط الهيئات» ص 25.

 

الـوجوه السبعة لـ «براكسيس» القاص أنيس الرافعي

سعيد منتسب

لن أبالغ إذا قلت إن «البراكسيس» هو التعبير الأقصى عن تجربة أنيس الرافعي القصصية، لغة وبناء. والمقصود بالبراكسيس، هنا، هو ذلك النشاط المستمر الذي توضع من خلاله مبادئ القص موضع التطبيق، من خلال المداومة على تحويل «النشاط القرائي» إلى قوة محركة لتغيير الشكل الأساس للقصة. إنه بتعبير أدق، الخبرة التي تقفز على ما يسمى «الحاجات الضرورية للقصة»، بالبرهنة على أن الشكل ليس عقيدة ثابتة، وأن «نظريات القصة» قابلة للاختراق العملي الممنهج.
لقد قال أنيس دون مواربة، وفي أكثر من مناسبة، إنه مدين لآراء خوليو كورتاثار النظرية في هندسة النص القصصي؛ وهي آراء «غائرة الأهمية حول البناء البلوري للحبكة، وطرائق تشكيل مفتتح السرد ومختتمه، ورسم الشخصيات، وتوظيف الفانطازي، واللعب بأبعاد الزمن عبر الضمائر، وتكثيف اللغة بطريقة مينيمالية، وبناء الشكل وفق نظام الأوعية المتواصلة، وتمرين النفس ومجاهدتها على الكتابة بصلافة، وبلا أدنى وفاء ضد الأسلوب».
فما معنى هذا القول؟ ولماذا هذا «الاعتراف» المخاتل، والحال أن أنيس «قارئ كبير» لن يرضيه أن يستبضع من سوق واحدة، كما أنه لن يكتفي إلا بما يجعل قراءه الافتراضيين بلا زاد ولا سقاء؟
إنها خدعة «النور في أول الممر»، وليس في آخره؛ ذلك أن أنيس كما يعرف نفسه لا ينشعل بالكشف، بل بالإضمار والحجب والطمس والتغبيش والتسخيم وإنتاج التأثيرات المضببة وتكدير الرؤية. ولهذا أدعي أنه كاتب «يُكثر» من وضع «علامات التشوير» وإنتاج «الأذكار» و»الإحالات» و»المرجعيات» و»رموز شد الانتباه»، ليس ليدعونا إلى ما يسميه هو «اقتفاء إرشادات الأعماق»، بل ليجردنا من خيط «أريان»، ومن قياس الاتجاهات والأبعاد، في قلب المتاهة الهائلة التي دأب على صنعها في كل أعماله القصصية، بدءا من صرخته الأولى في «فضائح فوق كل الشبهات» وبيان «الغاضبون الجدد»، مرورا بـ «أشياء تمر دون أن تحدث فعلا»، و»السيد ريباخا» و»البرشمان» و»ثقل الفراشة فوق سطح الجرس» و»اعتقال الغابة في زجاجة» و»الشركة المغربية لنقل الأموات» و»أريج البستان في تصاريف العميان» و»مصحة الدمى» و»متحف العاهات» و»خياط الهيئات» و»مستودع الأرواح البديلة» و»أرخبيل الفزع»؛ وصولا إلى «سيرك الحيوانات المتوهمة».
إن «متاهة أنيس» تشبه إلى حد بعيد «جراب إسماعيل»، مهما وضعت فيه لا يمتلئ، ومهما أخذت منه لا ينتقص؛ فـ»الشيء القصصي» في العمق السائل لهذا الجراب، كان (ولايزال) من الأشكال اللافتة التي تعبر عن محتوى خاص غير مطروق، وهو ما يحدد، في نظري، «العلامة التجارية» لما يكتبه.
أنيس ليس حكَّاء بالمعنى المتداول. إنه جامع تحف. ألم يقل عن نفسه إنه «كاتب إضبارات»، وأنه يضم «الشيء» بعضه إلى بعض حتى يختمر، فيختلي به ويدقه دقا شديدا، ويمزجه مزجا لطيفا بأرواحه الكثيرة، ليصل به إلى الكمال. وتبعا لذلك، يمكن القول إن أنيس الرافعي «خيميائي أصيل» يعمل، في ورشته السرية والسحرية، على تنقية «الشيء» وإنضاجه في نوع من الـ»الكريسوبويا’، أي تحويل «الفلزات الوضيعة» إلى «فلزات نبيلة»، أو إذا شئنا الدقة إخضاع المتلاشي والمهمل والمحقَّر، لهندسة أخرى لا يملك سرها إلا هو. لا تمييز بين الأشياء. كل الأشياء لها قدرة غريبة على أن تكون «جميلة» أو «جليلة»، وكل «الأشياء» بوسعها أن تتحول إلى «موتيف سردي» تبنى حوله جغرافيات وأكوان شاملة.
إن أنيس الرافعي الذي أثبت أنه يمتلك وعيا قصصيا حادا قل نظيره، في نصوصه كما في تأملاته أو قراءاته أو حواراته- وعلينا أن نعترف له بذلك- ظل يحفر بحثا عن كنزه «المدفون» في أماكن متفرقة وبأدوات سبر وحفر مختلفة. سافر كثيرا في النصوص العالمية، وزار بلادا قصصية كثيرة، واكتسب خبرة سردية بعرقه واجتهاده ودأبه، وفوق كل ذلك لا يأكل إلا من صيده. يصطاد كل شيء ويدخله في الصورة التي يشاء بالشكل الذي يشاء. بيد أن الملاحظات الأبرز التي لا يمكن لأي قارئ أن يتجاهلها وهو غارق في مياه أنيس السحرية تبقى:
أولا: «الجملة القصصية» المتفردة التي سجلها أنيس باسمه في المحافظة العقارية. جملته لا تضاهى ولا تقتفى. لا مثيل لها. جملة أكروباتية تعيش فيها تراكيب كتب التراث والسير والمغازي والأحاجي والأساطير وجداول السحر وألاعيب الصحون الطائرة وأزرار الأبطال الخارقين والفيزياء والذكاء الصناعي والمتاحف والسيرك والموسوعات والمسرح والسينما والرواية وبوينوس آيرس والقاهرة وعمان وبرشلونة وسوكري وليما وبوغوتا ومونتفيدو وسانتياغو وكركاس وقيسارية الحفاري وساحة السراغنة وجوطية درب غلف وجامع الفنا.. إلخ.
ثانيا: «القاموس»: فبالإضافة إلى إعمال تقنية التوليد والاستخراج التي يتقنها أنيس، والتي يمكن اعتبارها إنجازا تفاعليا إيقاعيا شخصيا يستدعيه اللقاء المباشر واليومي مع الكلمات، هناك شغف آخر لا يقل أهمية، وهو «الوقوع» في تأصيل «المصطلح الأجنبي» الذي يتمتع ببريق نقدي وفلسفي خاص، مثل «السيمولاكر» أو المينيماليزم أو الأطلنتيس.. وغيره، واستنباته في أرضه الخاصة، للإشارة إلى انتمائه الواسع للقصة، أي لخوليو كورتثار وأندرياس نيومان ورايموند كارفر وإدغار بو وتوماس كارليل وكارلوس فوينتس وإيطالو كالفينو وإيمانويل سكورزا وكارل كرواس. بل إن الشساعة تمتد إلى الفلاسفة والشعراء والأطباء والطوبوغرافيين والخرائطيين والإحيائيين والسينمائيين والتشكيليين.. إلخ. هناك سحر خاص تفرضه عليه بعض الكلمات أو العبارات من حقول معرفية مختلفة، فيحولها إلى بذور يزرعها في أرضه ويسقيها من لغته وفنه.
ثالثا: لا يرتاح النص الأنيسي لملمح «واقعيّته» أو «سحريته» أو «علميته» أو «تاريخيته»، بل يُسجل انفتاحه اللامشروط على كل شيء: الحُلم والتساؤل والتذكُّر واستدعاء السحري والعجائبي والتاريخي والعلمي والسينمائي.. إلخ.
رابعا: «القص» ليس معطى حكائيا، بل «استراتيجية سردية عامة» تنفجر من خلالها المواقف والطفرات الحكائية، كما تقفز اللغات والحبكات على الإطارات النظرية والنقدية المؤطرة لهذا الجنس. وبمعنى من المعاني، يتحول القص إلى «شكل مضاد للقصة» دون أن يبطلها.
خامسا: التحيز إلى تقنية التحويل «الخيميائي» التي يوجهها إلى سمات النص التكوينية، وإلى الشكل الذي ينهض عليه، على نحو يعمل على «تنسيل» الوقائع والأحداث، بل يميل أيضا إلى إظهار المعرفة النقدية بالنص وبطرق تشكله وتلقيه. إنه إذا شئنا «نص توقعي» دائم الحَفْر والالتفات في البنيات والمكوّنات والعلاقات والدلالات..
سادسا: توسيع القص ليشمل الكتابة نفسها وأشكالها، بل أيضا القراءة أيضا، ما دمنا نلاحظ أن كثيرا من كتب أنيس القصصية تتعمَّد إدخال القارئ في متاهات تخييلية.
سابعا: تشكيل التخيلات التي لا يمكنها أن تتحقق في الواقع، ما دامت تتحدد بخرق الحدود والأماكن والأزمنة، على مستوى الحلم وتقطيع النص وإبراز ما يمكن أن نسميه «السرد البصري».
إن قصة أنيس الرافعي نموذج لـ»النص الفائق». خيال على الأخيلة والوقائع والتعاقبات والاشتراطات. النص الذي يمشي جنبا إلى جنب مع الكفاءة. النص التوليفة الذي يمضي بكل ثقة إلى خلق سلسلة من النصوص المتراكبة. النص الثقافة الذي «يطحن» كل ما وجده في طريقه من أشياء.
لا يكتب أنيس نصا ارتيابيا لا يثق في نفسه، بل نصا ممتلئا عن آخره بالمضادات الحيوية والدفاعات الذاتية، يُركز على الفكرة ويجعلها تَمثل إليه عبر جرعات مستفيضة من الالتفات والتفخيخ والتطريس. وتبعا لذلك، فالانشطار المرآوى، على مستوى المادة الحكاية والأشكال السردية، الذي نلاحظه في كل نصوصه تقريبا بما فيها نصوص البدايات، يتأسس على»اللا اتساق»، وعلى تقاطع الإطارات، وانقطاع الخيوط بين المنجز النصي والجنس المعيار.
خلاصة القول: «إن أنيس قاصٌ يبحث في كل عمل عن تحد جديد يواجهه، لأنه مهووس، حد العقيدة، بتدمير الأسلوب القديم، وتعويضه بـ»استراتيجية الابتكار الذي لا ينقطع».

 

القصة ونظرية الألعاب في مجموعة «صانع الاختفاءات»

عمر العسري

إن التجديد في الكتابة القصصية منطلقه الأساس الكتابة ذاتها، وكيفية النظر إليها ليس كقاعدة ثابتة أو بنية قارة، وإنما كمشروع مفتوح، ونص مقيم على التخوم. وقد وجدنا في مجموعة «صانع الاختفاءات» للقاص أنيس الرافعي بعض هذه التحديدات. وهي عمل ينقل الكتابة السردية إلى فضاء الحياة المعاصرة عبر لعبة ميتا-سردية تحاكي منطق (مكعب روبيك) هندسيا ووظيفيا، وتتمثل فن الرسم الساخر. ليظل السؤال مطروحا، كيف اخترق نظام اللعب هذا الكتابة السردية؟ وكيف تعايش السرد واللعب والرسم؟ هل ثمة حركة إحلال وإزاحة بين هذه الأسناد الثلاثة المتجاورة؟

المتعدد السردي

إن كل اختيارات أنيس الرافعي في أضاميمه القصصية كانت تنطلق من أسناد مختلفة، تصرح بها، ثم تعمل على تجريب انصهارها في صلب النص القصصي. غير أن تجربة «صانع الاختفاءات» تعلي من شأن سندين أساسين لم يتطرق إليهما من قبل في تجربته المغامرة، هما: مكعب روبيك وفن الرسم الساخر. ومن خلالهما سنتوغل في تفاصيل اللحظة القلقة، التي تشكل نسيج الحياة في القصة، وذلك باعتماد شخصيات فردية، وانتهاج صيغة وصفية أساسها البورتريه تستمد مشروعيتها من المحاكاة الساخرة أحيانا، ومن التعدد الوظيفي لبنيات السرد القصصي.
تتوزع المجموعة على امتداد حيزين مهمين، الأول بصري متمثل في الأيقونات البصرية الساخرة التي أبدعها الرسام العراقي برهان المفتي. والثاني نصيّ مكون من ثماني قصص مجزأة إلى مجموعتين بينهما علامة شارحة موسومة ب (وقت مستقطع). موقعهما التأليفي مسبوق بثلاثة نصوص هي: (دليل اللعبة، تشغيل اللعبة، نظام اللعبة). وقد ذيلت المجموعة بطرس رابع معنون ب (ملاحق اللعبة).
إن كل هذه المكونات الداخلة في صلب معمارية المجموعة تحيل على الحس التأليفي الذي ارتضاه الكاتب، وذلك بفتح الكتابة القصصية على متعدد سردي، لا يكتفي بحكي الأحداث فحسب، وإنما باعتماد السند البصري، والمقصدية الكتابية التوزيعية للنصوص. ولعل العلاقات البنائية التي تنشئها المجموعة بين مكوناتها من أشخاص وأحداث وأمكنة لا يمكن أن ينطبق عليها التفكير وفق القوانين العادية والمألوفة للكتابة القصصية. بل هي متوترة إلى حد التعدد الذي أبانت عليه، والمنطلق الذي أرسته بخلفية معرفية تعمق الوعي بالموضوع والفكر القصصين.
هكذا نتوقف عند كتابة متشعبة في سبيكة واحدة، ويمكن تحديدها من خلال:
سرد الرسم الساخر.
سرد النص الشارح،
محكي القصة.
السرد الأول هو قراءة بصرية للنصوص القصصية، وقد عمد الكاتب والرسام العراقي برهان المفتي إلى تمثل شخصية أبطال القصص، وقد ارتهن السرد بشخصية واحدة يجسد ملامحها الرسم المرفق على نحو ساخر، متوقفا عند خصوصياتها ووظيفتها الحياتية التي ارتضاها السرد. وجاءت على شكل قراءة كلية لعنوان كل قصة. (رجل العلبة، رجل الأكياس، رجل البانتوميم، رجل الأعداد، رجل الأوركسترا، رجل الفنار، سيدة المكواة، رجل العصافير). لنسجل كون النصوص أسبق من الرسم أو الأيقونة الساخرة.
السرد الثاني وقد تمثل في النصوص الموازية الشارحة لمنطق اللعبة السردية المستوحاة من (مكعب روبيك) الشهير. مع العلم أن الكتاب بني بشكل تقابلي وتناظري بين كتلتين، كل واحدة منهما مكونة من أربعة نصوص، قبلهما (دليل ونظام تشغيل اللعبة)، وبينهما (وقت مستقطع)، وفي النهاية ملحق عبارة عن نص (مرشد بعدي).
المحكي الثالث هو ما ترجمته النصوص، التي اعتمدت رسم بورتريهات لشخصيات غريبة مستوحاة من حياة أشّر عليها السرد وتدخلات الكاتب في مرجعيتها الواقعية، سواء بذكر أمكنة محددة، أو استدعاء أسماء شخصيات من صميم الحياة الصاخبة، التي تعيشها أشهر ساحة شعبية في مدينة الدار البيضاء. حتى وإن كانت هذه الساحة وقد تحولت إلى فضاء متخيل في المجموعة.
لقد تكون لدينا الاقتناع بأن كل القلق، ومحاولة التجريب كان الكاتب يعنى بها مباشرة، وهو يستدعي معارف غير سردية مقترنة بلعبة (مكعب روبيك)، وبأساسيات الرسم الكارتوني الساخر. سنادان أسْهما في خلق تعددية سردية لا تعلي من شأن السرد القصصي، وإنما تواريه بإعلاء الخطاب الواصف والمعارف الغزيرة المرتبطة بالتشكيل، والسينما، والأدب، والمسرح، والفكر، وغيرها.

محاكاة اللعب

من المؤكد أن مجموعة «صانع الاختفاءات» تحاكي لعبة (مكعب روبيك)، وهي لعبة أحجية ملونة عبارة عن مكعب رياضي ذهني. غير أن الكاتب قد سعى إلى محاكاتها بحس تغيير مفاصلها، واعتماد نظام موجه يسمح بقراءة النصوص من كل الجهات، كما هو الشأن في نظام (مكعب روبيك). فالرؤية تتحقق من جميع الزوايا، وقد تختلف الألوان بحسب جهة النظر.وهو النظام ذاته، الذي يحاكي الكتب النظرية للألعاب الذهنية الرياضية، وذلك اقتصاره على ثمانية نصوص منتسبة إلى المربع الثماني الأوجه أو الأضلع. والغاية متمثلة في تبدل منظور السارد، لأن بناء اللعبة السردية يقتضي تغير الحركة والمنظور، وهو ما تبدى من خلال النصوص الثمانية التي احتفت بشخصيات مسحوقة تنتمي إلى أهل القاع.
وبالتزامن مع حركة السرد التي كانت تقتصر على الوصف في أبعد مداه، فإن الكاتب ارتأى أن يحاكي المكعب اللوني بتخصيص كل قصة بلون يميزها، ويتم اعتماده واستنبات دلالته الموجهة. نذكر أن قصة «رجل اللعبة» اقترنت باللون أخضر. «وكذا معطفه الصوفي الرث أخضر اللون، الشبيه بمعطف جندي طيار ميت منذ حرب قديمة»، كما أن قصة «رجل الأكياس» اقترنت باللون الأبيض.
إن هذا المسار السردي الذي عكسته نصوص «صانع الاختفاءات» تبتغي إبراز حدود التأثير الكبير عن العمق التجاوري غير الاعتباطي بين القصص، وكأنها تبدي مرونة معينة أثناء السرد وتحقق لذاتها ما يسمى بالتفسير التطوري الممكن لنظرية الألعاب التوازنية عند ناش. إن عملية التوافق في نظام الألعاب التي ترتكز عليها المجموعة تميل إلى استبعاد منطق التوازن الرياضي إلى الفوضى اللونية، التي وجدت لها امتداد في الأيقونات الساخرة التي افتتحت بها النصوص.
قد تحقق السرد ولكن ارتبط باللعب كمؤشر تقني وأمر أساسي للنشاط الاجتماعي الذي اضطلعت به الشخصيات الموصوفة. ولذلك تماشت النصوص مع مفاصل مكعب روبيك ليس من زاوية هندسته فحسب، وإنما أيضا بمحاكاة لونية تروم تخصيص كل ضلع سردي بميسم لوني يميزه. كما يقوم التنظيم الأيقوني للنصوص على إكسابها امتدادا بصريا، وشحنة رمزية، فلا يمكن قراءة القصة دون الإمعان في عتبتها البصرية الساخرة، وهذ جانب آخر اعتمده الكاتب لخلق مفارقة تأليفية، وتوليفة كتابية تستنبت البصري في المكتوب وتقرنهما معا.
كل هذه المحاولة الباهرة لتوفير رؤية مباشرة وشاملة عن اللعب من كنه القصة قد لا تفي بالغرض، بحسب المعطيات التي يحفل بها الكتاب القصصي، وإنما تحاول أن تتلبس اللعب وتعالجه باعتبار أنه نشاط له صفة جوهرية عامة، كما أن له خصائص تميزه عن سائر الأنشطة الأخرى. والواقع أن التجاور المتحقق قد أربك المسار القرائي للنصوص بخلق جغرافية جديدة لللتلقي والتأويل، بحيث يمكن قراءة النصوص من كل الجهات كما صرح الكاتب نفسه.

العتبة الساخرة

يمثل الرسم الساخر لقصص المجموعة أبعادا رمزية كثيرة، ولا مناص من استدعاء أسبقية النص عن الأيقونة الساخرة، وهذا الجانب عمق الدلالة الإيحائية في الرسم والنص معا. ولذلك قد نقرأ الرسم من خلال تفكيك القصة وردها إلى منابتها اللغوية حتى نقف على ممكنات قراءة العتبة البصرية.
وبالعودة إلى قصة «رجل الأكياس» فإن الرسام برهان المفتي قدم رسمة ساخرة تحاكي التشكيل الكارتوني وتمثل: رجلا كهلا أصلع الرأس، أزرق البشرة، يحمل أكياسا.. إلخ. بهذه الصفات والملامح التي تمثلها الخطاب البصري الذي لم يخرج عن حدود المرجع النصي القصصي.
الحاصل أن الرسم يمتص من النصوص معطياته اللغوية التي تمثل خطابا ساخرا لشخصية رجل الأكياس، ولعل الصفات ذاتها كانت ممتدة في الرسم بخلفية نصية، وكامنة في موقف السارد الساخر من قضية وجودية لا يمكن أن نفهم سخريته إلا بالمراوحة بين النص وعتباته؛ أي بين الداخل والخارج. وأيضا كون التعالق بين النص والرسم قد أرسى مقصدية سخرية كلية، لأنها تهاجم أساسا مجموع أبنية الأثر الوجودي لبطل القصة، والشيء نفسه نجده في نص «رجل العصافير».
يبدو أن الكاتب لا يقدم بورتريها ساخرا لرجل العصافير فحسب، ولكن يسخر حتى من طريقة الكتابة القصصية التي لا نجد لها امتدادا سرديا لأحداثها، وإنما السرد يتحايل على مساره وموضوعه وفكرته بأسلوب أكروباتي غير مستقر..
نجد في المجموعة ككل انشغالا متقدما بالعتبة البصرية الساخرة وهي تحاكي المخيال الكارتوني، وتتمثل البعد الكتابي للقصة، وأيضا في ما تفتحه من كوات لا ترهن القصة بحدث، وإنما تخلق مفارقتها من التباس الأصوات والأحداث حول بطل مستأصل من واقع ومن مرجع فضائي (ساحة السراغنة). فالكاتب ينازع واقعه ويعترض عليه بهذه الشخصيات، ويعلن ساخرا من كل شيء.
لعلامة البصرية في شكل رسم كارتوني ساخر، وقد أقامت علاقة جوار وتماس مع مرجعها النصي، وأبدت قابلية للانخراط في قالب سردي جامع مانع.

 

القصة والتجريب في «قصص» أنيس الرافعي

أحمد زنيبر

يمثل الكاتب أنيس الرافعي أحد الأصوات الإبداعية المغربية، التي انتصرت لجنس القصة القصيرة، دون سواها، معتبرة إياها مختبرا ملازما للإبداع وورشا مفتوحا على التجديد والتجريب. ولعله، منذ القراءة الأولى لمجاميعه القصصية: «أشياء تمر دون أن تحدث فعلا / « «السيد ريباخا» / «البرشمان / « «ثقل الفراشة فوق سطح الجرس» / «اعتقال الغابة في زجاجة»، يتبدى شغب الرافعي بالكتابة، حيث الحرصُ على توظيف تقنيات لا تكتب القصة، وإنما تسافر إليها.
قصد استجلاء بعض الخصائص الفنية التي تميز تجربة الرافعي، يمكن الاستئناس بمجموعته القصصية السابعة: «الشركة المغربية لنقل الأموات» حيث للرقم (7) دلالته التي تنم عن سيرورة وصيرورة في آن، تمس درجة الوعي بالكتابة. أُطر هذا العمل أجناسيا بالتوسيم التالي: (طقس قصصي في أربع عادات وسبع محلات.) وأولى العتبات، التي المجموعة عنوانها المثير بما يومئ إليه من إشارات ودلالات عميقة تجمع بين عناصر عدة، منها الموضوع والمكان والزمان والوظيفة والهوية، (إنشاء شركة خاصة من جنسية مغربية تعنى بنقل الأفراد بعد أن يموتوا) وبما يزخر به كذلك، من إمكانيات للتأويل انطلاقا من لفظ الأموات. فالموت مفهوم متعدد الدلالات. هو فكرة مانوية، أي لحظة في الزمن يرتبط معناها ضرورة بمعنى الحياة، ومن ثمة يحضر الصراع الطبعي بين القيمتين، مدا وجزرا.
والواضح أن الرافعي بعد سلسلة من المقاربات الموضوعاتية في مجاميعه القصصية السابقة، يغير وجهته هذه المرة، نحو موضوعة الموت لما يزخر به من إمكانيات للتأمل والرصد والمتابعة، سواء في بعده الواقعي الحقيقي أم في بعده الرمزي. ولعلّ المقتبسات التي تصدرت المجموعة تحيل رأسا إلى تخصيص هذه المجموعة بكاملها لموضوع الموت، منها استدعاء قول الكاتب المغربي الراحل محمد خير الدين: «قلت لنفسي، إنني سأموت هذا المساء، فوجدتني أقف وسط حقل من الضوء، ثم رأيت عند قدمي ما يشبه الجثة، كانت ولا ريب، جثتي…»، وقول الكاتب العراقي عبد الستار ناصر: « أستطيع اختيار ساعة موتي متى أشاء، تأكدوا من ذلك «، وقول الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلات: « الموت/ فن مثل أي فن آخر/ وأنا أمارسه بأقصى حدود الجودة».
أ / لعبة الرقائق المزدوجة والمرايا الخادعة تشتمل المجموعة على تسع قصص رئيسة ذات عناوين موحية ولها ارتباط بعالم الموت: «سبع أرواح»، «زير الجثث»، «اليوم الأول بعد الموت»، «صانع الجنازات»، وغيرها، تفصل بينها مقاطع توجيهية تلعب دور وظيفة الرقائق المزدوجة بالنسبة للقصة، وذات صلة بعالم كناوة حيث يشكل الجسد واللون والموسيقى أهم المكونات، التي تستدعيها طقوسها الليلية، («كيو»، «النكشة»، «أولاد الغابة»، «البحراويين»، «سيدي حمو»، وغيرها).
ولأن عالم كناوة عالم فنتازي وميتافيزيقي مثير ومدهش، مليء بالأسرار والألغاز؛ فإن الرافعي ينوه، في (ص70) باقتفائه أثر هذه الطقوس الكناوية العجيبة، كما حضرها بزاوية « سيدي بلال» تحديدا بمدينة الصويرة (فردوس الرياح والحب والتيه) ليستوحي منها مادة حكائية تقوم بدورها على استحضار العجيب من العوالم الروحية، ويقدمها وَفق استراتيجية قصصية تزاوج بين الواقعي والمتخيل والسردي والطقوسي. وتبعا لذلك، تزخر المجموعة بكثير من الإشارات القوية لعلاقة الإنسان بالحياة والموت، وعلاقته بالذات والآخر. ولا شك أن المؤشرات اللفظية والدلالية من قبيل الألفاظ: جثث، جنازة، قبر، أرواح، قتل، سفر، انفصال، شلل، حادثة، دم، سقوط… وما سواها، تؤكد ذلك.
تأخذنا كل قصة من قصص المجموعة عبر رحلة وجودية أبطالها شخصيات حركتها دوافع متباينة للتنقل من مكان إلى مكان ومن حيز زمني نفسي إلى آخر (الرغبة في الحياة، الخوف من المستقبل، ألم الذاكرة، مشاعر القلق والضياع، تجاوز حالة الانتظار، تجريب الموت…). شخصيات قُدمت غُـفْلا من التسمية واكْـتُـفِي بالإشارة إليها عبر ضمير الغائب تارة، وضميري المتكلم والمخاطب تارة أخرى. شخصيات تختلف في الظاهر بينما تتشابه بصور متفاوتة في الباطن، حيث الهواجس والمخاوف واحدة، وحيث الذات تتبادل الأدوار والأقنعة، فيما يشبه لعبة المرايا الخادعة، مع مضاعفاتها وبدائلها.
بعبارة واحدة، شخصيات تثير الإعجاب والإشفاق في آن، بما تستبطنه من أحلام ورغبات وخواطر ومخاطر تفضي بها نحو حتفه، كما في قصة (صانع الجنازات): حيث الرغبة الملحة من السارد في إيجاد موضوع لمعرضه الفني، وما استتبعه من تتداخل أحداث بأخرى وتماهى الشخصية الرئيسة بشخصية مفارقة سرعان ما تنقلها إلى عوالم ضاربة في الدهشة والغرابة.
ب / احتمالات المعنى واستباق المصير يقودنا التلاحم والتداخل أو الحلول بالمعنى العرفاني بين الشخصيات، من خلال إواليات التخييل، إلى عالم مفتوح على قراءات متعددة تقربها من الواقع حينا، وتبعدها عنه حينا آخر. فالقارئ حين يشعر بواقعية الحدث وبصدق الحالات المعروضة يحصل التجاوب معها كما لو كانت حقيقية. ولنا في نص «الشركة المغربية لنقل الأموات» ما يكشف براعة الرافعي في خلخلة ذائقة المتلقي عبر تعقب الحالات الداخلية لبطل القصة وهو يقاوم الموت ويصارع من أجل البقاء.
يقول السارد: «كان دافعا ملحا كي أعود، اليوم بعد نهاية دوام العمل، محملا بالعتاد الضروري، وفي نيتي عندما ينشر الظلام أجنحته السميكة، إغلاق نوافذ الشقة بالألواح الخشبية والمسامير، وكذا بناء جدار فاصل بالآجر والإسمنت لطمس الشرفة التي كانت وقودي اليومي لقدح زناد التلصص على فكرة الموت.. هذه الفكرة الأشد إيلاما من الموت نفسِه. وعلى الأرجح، في انتظار أن أنجز ما عقدت العزم عليه، استسلمت للنوم.. لنوم ثقيل كما لو أنني لم أنم قط من قبل.. لنوم قاتم كانت فيه نفسي بعيدة بمقدار سحيق عن نفسي» (ص20) هكذا يحدث تخيل شركة خاصة بنقل الأموات في ذهن البطل اضطرابا نفسيا عميقا اتخذ أشكالا مختلفة من التوتر والقلق والخوف فالنفس صارت في مهب الرياح والهلوسة. رياحٍ بين الشك واليقين، وبين الحلم واليقظة وأحيانا بين التردد والمواجهة؛ غير أن البطل يصاب بالخيبة؛ لكنها مفرحة حين انكشف الغطاء وبدا كل شيء مجرد وهم وخيال قادهما كابوس ثقيل استبق فيه البطل واقعه ومصيره. وبنفس الوتيرة الفنية التي يُعرض فيها المعنى الذي يحتمل الشيء وضده ويلاحم بين الذاتي والموضوعي، والفردي والجماعي، والنفسي والاجتماعي، والواقعي والافتراضي، والأرضي والسماوي، يحرص الرافعي على جس نبض شخصياته القصصية بكامل عنفوان اللغة والسرد المتنامي عبر إيقاع الذات الحالمة، حيث تستحضر الذات ذاكرتها وتستبق مصيرها بقوة الراهن والمحتمل أيضا، كما هو الحال بالنسبة لبطل قصة «اليوم الأول بعد الموت» وما عاناه من قلق وتوتر نفسي جراء نقرات الرجل العجوز المفترض فوق سطح شقته السفلى. هذه النقرات المتتالية فوقه كانت تفتح في أرض حلمه قبرا. ولما كان الموت هاجس المجموعة؛ فإن صوره وأشكال حضوره تعددت بحسب السياق وتبعا لمواقف وحالات الشخصيات (ما قبل، أثناء، ما بعد). مثلما نجد في آخر نص من المجموعة «سبع أرواح»، حيث يشيده الكاتب فنيا على تقنية الترديد والتكرار لجملة فعلية أشبه باللازمة الموسيقية هي: «يحدث في حياة كهاته» يتبعها بالحديث عن تلك الذوات الإنسانية وهي تبوح بأسرارها وتنشد أمنها وطمأنينتها.
ج / المرجعية القصصية وسؤال المغايرة لأن القصة عند الرافعي لا تكتب من فراغ؛ فإنه يضع مرجعياته الخاصة ومقروءاته المتنوعة في المكان المناسب تنبيها وتذكيرا، تأكيدا وتفسيرا. فالفلسفة والموسيقى والتشكيل وكذا السينما وعلم النفس، كلها عناصر وأخرى حاضرة بقوة في نصوصه، لذلك سرعان ما تطفو هذه المرجعيات فوق سطح الأحداث، الواقعية والمتخيلة، وتجلو بالتالي مشاعر وأحاسيس الشخصية القصصية في علاقتها بالأشياء وبما حولها، نحو ما نجد في نصه العميق «زير الجثث» حيث يستحضر الرافعي أعمالا سينمائية وسردية في القصة والرواية من الأدب العالمي تناولت موضوعة القتل: أجاتا كريستي، إدغار ألن بو، روبيرتو بولانو، ومن حذا حذوهم. ففي هذا النص تنشط المخيلة من جديد حيث يستعيد الكاتب فكرة القاتل التسلسلي ويعطي الانطباع الأولي بحقيقة الواقعة. فالسارد في قصة «زير الجثث» يتخيل أن قاتلا يفتك به عن طريق النبش في مخطوط مصنفه (دليل القاتل السردي) وأنه كلما اقترب من عالمه صار ضحية سهلة للإطاحة به وتعويضه بدمية حين يغادر عالم الأحياء. ولعل في ذلك استعارة كبرى تبين عن فلسفة الكاتب ورؤيته لموضوع الكتابة، وبالتالي بروز وظهور ذلك التصور الذي يرى أن في أعماق كل كاتب يوجد قاتل ما، ظاهرا كان أم خفيا نشيطا أم معطلا.
وتأسيسا على ما سبق، يمكن اعتبار قصص «الشركة المغربية لنقل الأموات» مقاربة مختلفة ومغايرة للمألوف السردي السائد في طرح موضوعة الموت وصلتها بدهاليز النفس البشرية ومتاهاتها. غير أن هذه الحكايات لم تكن انعكاسا حرفيا للواقع أو لما يسكن مشاعر الشخصيات، في صراعها مع الحياة والموت؛ وإنما نسجها خيال مبدع خبر السرد واستمكن من آلياته وأدواته.
بهذه المجموعة القصصية (الشركة المغربية لنقل الأموات)، يؤكد أنيس الرافعي أنه لا يزال مخلصا لمشغله السردي، لا يبغي عنه بديلا. فالقصة، في عرفه، جنس إبداعي لا يكتب من فراغ؛ وإنما بتفكير واشتغال وتجريب مستمر. ولعمري هذا سبب وجيه لكل الإطراء الذي تناله قصصه، عربيا ووطنيا، بشهادة من قرؤوا له أو كتبوا عنه.

 

قراءة أنتروبولوجية في «أريج البستان في تصاريف العميان»

 


عبد اللطيف حباشي

يمتلك القاص المغربي أنس الرافعي في هذا العمل القصصي الجديد روح الأنتروبولوجي، باشتغاله على البعيد وعلى القريب، وانشغاله بالفنون وبالرموز وبالدلالات، بالهوامش وبالمنفلت، بالحدود وبالعتبات، الفاصلة بين الداخل والخارج، الواقع والخيال، الأثر والتأويل، دون التبرم من سلطة المتخيل الشعبي، سواء عن قصد أو عن غير قصد.
هذه الروح من جملة ما استدعاني الى التفاعل مع هذا العمل، ومحاولة الاقتراب منه انطلاقا من إضاءات وتأملات تعتمد قراءة أنتربولوجية لأهم جوانبه. قراءة تحترم علامات النص، وتربط بين الرموز والمتخيل والثقافة العامة للمجتمع، مع استحضار البعد الطقوسي والديني الذي يطبع هذه الثقافة من جهة، ومن جهة أخرى ينبغي اعتبار هذا العمل واقعة نصية ضمن نسق ثقافي معقد يتضمن تمثلات وسلوكات وممارسات اجتماعية ووظائف رمزية، مما يتطلب تعدد المقاربات وتنويع المناهج، وشبكات التحليل، وهذا أمر موكل لدراسة أكثر استفاضة.

التعارضات والدلائل

تعارضات الجسد تكمن أولا في أفق النقاش الانتروبولوجي مواجهة بين براديغم الجسد، المادة والجسد، المجاز.
تواجهنا في الأريج أسئلة الرمزية والمتخيل وهي أساسية في عملية فهم مختلف التمثلات والصورو التعابير لأن الرمزية تسائل المعنى، ومن ثمة فهي مركبة ومتشابكة العناصر شأنها في ذلك شأن جل مقومات الثقافة الشعبية، حيث إن كل محاولة للقبض على معناها تصطدم بأنظمة دلائلية مكبوتة تبدو العلاقات ما بينها جد معقدة وغامضة. وليس من السهل الإحاطة بها دون الرجوع الى المجتمع والثقافة التي أنتجتها أو احتضنتها.

أ ­- شمهروش نموذجا

كما هو الجسم الآدمي منشطر إلى قسمين: روح وجسم، طهارة ونجاسة، يمنى ويسرى، مقدس ومدنس، فإن الجن يخضع بدوره لتقسيم يتوزع بين الأعلى والأسفل، اليمين واليسار، الامام والخلف، المقدس والمدنس، تعارضات تنتمي الى الوهم اللاهوتي، وهذا ما توضحه تلك الجداول والطلاسم الفاصلة بين عوالم حكايات الأريج والتي تفصح بدورها عن تلك التعارضات، حيث نجد أن من بين اسماء الجن التي تقدمها هذه الطلاسم هناك اسم «شمهروش» الى جانب أسماء أخرى تختلط أو تتعارض مع أسماء للملائكة ميكائيل، برقان، اسرافيل، عزرائيل، جبرائيل، ميمون، الامين، الخ. وقد اخترنا اسم شمهروش باعتباره سلطان الجن حيث تقدمه كتب السحر العربية بوصفه وسيطا روحيا يسهر على فاعلية العمل السحري ونجاعته، ويميز العلم الروحاني بين سبعة ملوك للجن، ويسمون بالملوك السفلية وهم: مذهب وأبيض وأحمر وبرقان وشمهروش وزوبعة وميمون، ولهؤلاء الملوك خدم تتجلى مهمتهم ­ في نهاية المطاف ­ في تنفيذ رغبات الساحر وأوامره، وعلى هذا الأخير ان يحترم تعاقب الملوك السبعة على إمرة الجن، فكل ملك من هؤلاء الملوك يحكم خلال يوم محدد من الاسبوع، كما تشير كتب السحر الى الطقس الذي يلائم خادم ذلك اليوم، ويباشر شمهروش الحكم يوم الخميس وهو اليوم الذي يتم فيه موسم سيدي شمهروش بجنوب المغرب بالاطلس الكبير.
ويتم التحذير من أن يطلب من الملوك العلوية ما على الخدام من الجن أن ينفذوه ويرد اسما سرفاييل وشمهروش معا في عدة تعزيمات، ويحتلان العمود نفسه في عدة جداول سحرية
وفي سياق التعارضات يعتبر الجن عموما حسب الاسلام كائنات لا مرئية، ويصنفون الى نوعين الاخيار والأشرار، وأيضا حسب ديانتهم، حيث يعتبر شمهروش في المتخيل الشعبي مسلما من الاخيار، ويتم الاعتقاد بأن الجن يسكن المرتفعات والمغارات والأمكنة المظلمة، وتصف إحدى حكايات الأريج هذا الجو المقلق، يقول الكاتب إذ يحكي أنه قاده عبر سلسلة من الازقة المظللة والدروب الملتوية، التي يمكن أن تنشب وسطها في أية لحظة حرب أهلية ضروس بين الوساوس والجن.

ب ­- الحال أو الجذبة

بعيدا عن المعنى الصوفي للجذبة، فالذي يهمنا هو جذبة التملك كأحد تجليات الجسد في حكايات الأريج.
يعرف الباحث المغربي عبد الحي الديوري الجذبة بكونها عنفا ينال الجسد من دون اختيار. ويمكن تصنيف ذلك العنف الى نوعين عريضين متمايزين ومتداخلين، يمكن نعت أولهما بالعنف الدرامي، وثانيهما بالعنف القرباني يحيل العنف الدرامي على نوع الجذب الذي يتم فيها اللعب الطقوس بناء على آلية المحاكاة المعيشة للحيوانات، أما العنف القربائي فيحيل على جذبة المس أو التملك، والتي يكون فيها الجسد كبش فداء او ضحية.
تحدثنا حكاية «مينوش» ب «الأريج» عن إحدى الشخصيات ­ في هذا السياق ­ وهي شخصية الفنان عباس صلادي الذي يصفه عبد الكبير الخطيبي بأنه رجل ظل يسكنه السديم تقول الحكاية وكلما جرح الإنعكاس اهتزاز ما، أطلق عباس سراح هواجسه وكسا الحقائق بأشد الأوهام إيغالا في الجنون خطوط ودوائر ومكعبات ومساحات يضرمها زنجي وهمي في أصابعه ليحثه على ملء فراغ القماشة.
يضيف القاص ولما صار ضريرا بالكامل، بدأ يرسم وامتد حبل الود بينه وبين لوحته التي سينتقم بها لأيام طويلة، أضحت فيها الفرشاة في يده طيعة وممسوسة تشبه حركة الأفعى ذات الأجراس.
إن درجة الجنون هنا توازي أعلى مراتب طقس «الجذبة» لدى جماعات اكناوة أو عيساوة أو احمادشة.
في حكاية «سح الرمل»تقترن ضربات الفرشاة في أثناء الرسم بصوت الديدان المعششة داخل أذن الرسام، يقول الكاتب الى أن أتى يوم، لم يعد مولاي الحسن قادرا على الاحتمال أكثر، فرسم لوحة رائعة، كما لم يرسم في حياته قط لوحة بث فيها كل مكابداته وعبقريته التي تستوجب أن يموت المرء قبل هذا عدة مرات حتى يرسم بمثل تلك البراعة المعجزة، ثم أقدم على بتر مصدر الموجات الصوتية الى الابد بتر يده اليمنى ببلطة ساطور ص41.
وتعتبر حكاية «الإزار الابيض» ­ في اعتقادي ­ خير معبر عن طقس المراتب، وهي حكاية نخرج إليها من باب الحال المحمي بدوره بطلسم يؤكد قسمه على الأرواح الروحانية.
هناك طقس تلخصه حكاية»الإزار الأبيض «عندما تقف بنا في وسط جامع الفنا عند حلقة الرحالي تقول الحكاية تزمجر الموسيقى، فيرفع الرحالي الحرج عن ضيمه وحواسه وجسده، يتطوح، يترنج، يجأر، يشهق، ينهج، يلهث، تنتابه ذروة الحال».

ج ­- الوشم

كتابة على الجسد بالحبر أو المداد قد تكون لأغراض رمزية أو علاجية، استعملته المرأة للتزيين أحيانا كما عوضته بالحناء في وضعيات ومراحل أخرى، واعتبر الوشم ايضا طقسا من طقوس المرور، وعلامة من علامات تحديد هوية العبيد والمساجين أو الحيوانات. الوشم كتابة رافضة لسلطة المكتوب الذي أدانها، والوشم حسب الخطيبي هو دائما الحالة المبتذلة للصمت والعزلة.
الوشم كتابة سحرية هويتها أداتها وموضوعها أيضا الجسد، والوشم مادته الحناءا يضا وهي المصدر الثالث للصباغ الاحمر، فتلبيس الكف عبارة نجد لها امتدادا في كتب السحر، والإحالة واضحة هنا، شخصية إلياس وهو القادم من ثقافة مغايرة سيقوده فضوله الى الانخراط في أحد الطقوس، مما سيعرضه للسعة نار في باطن كفه اليمنى أثناء حشر يده في جحر عميق، تقول الحكاية «كانت كفه تلبس وشما غريبا له ثمانية أضلاع»ص88، غرابة الوشم لا تنطبق على الشكل فقط بل حتى اسماء الوشم فهي تسمى بمنطقة الجسد التي وضعت عليه يقول الكاتب طوال الوقت وبهوس شديد أغرقه في الاضطراب والقلق، كان يرنو الى الوشم، ويحاول أن يهتدي لفك طلاسيمه وأسراره المنيعة»ص88. في حكاية «الرجل الذي صدم الموت بسيارته» يقول الكاتب. وحينما زالت الغشاوة،ترجل ليكتشف مهتز الاعماق بأنه صدم فتاة فتاة بربرية زيها الأسود المسمى «أملحاف»، يقول هذا قلاة اللوبان والعملات القديمة التي ما عادت ترن في جيدها، تقول هذا الأكف المخضبة بالحناء والرموش المزججة بالكحل، تقول هذا والوشم الاخضر الذي غار في سيالة الذقن، يقول هذا. ص63. وشم نكرة يستمد تسميته ب «السيالة» من السيالة نفسها وهي موقع الذقن أسفل الشفتين تسيل لتشطر الذقن الى نصفين متوازيين.


الكاتب : إعداد: حفيظة الفارسي /محمد علوط/سعيد منتسب/عمر العسري/أحمد زنيبر/عبد اللطيف حباشي

  

بتاريخ : 24/02/2023