أولياء مغاربة في مصر الإمام أبو الحسن الشاذلي حارس الجبال وقطب الصعيد 05

العلاقة التي تربط المصريين والمغاربة ،علاقة تمتد في الزمن منذ قرون،فقد تعددت أوجه هذه العلاقة كما تشهد بذلك كتب التاريخ .
ووفق المؤرخين، فقد هاجر العديد من المغاربة إلى الديار المصرية في عهد مولى إسماعيل، خاصة من فاس ومراكش، حيث استوطن أهل فاس في القاهرة، في حين استوطن أهل مراكش في الإسكندرية.
وتؤكد المصادر التاريخية، أن المغاربة الذين اختاروا مصر مقاما جديدا لهم، يعتبرون من التجار الكبار، وهناك تأقلموا مع أهل هذا البلد، فنمت تجارتهم، بل استطاعوا أن تكون لهم اليد العليا على المستوى التجاري والاقتصادي، فأصبحوا فعلا يشكلون النخبة هناك، ولهم تأثير واضح على مستوى الحكم.
تمكن المغاربة الذين اندمجوا بسرعة في المجتمع المصري،من توسيع تجارتهم، لتمتد إلى خارج مصر، وتصل إلى مكة والشام، بل بنوا حارات جديدة مازالت قائمة في مصر إلى اليوم، شاهدة على ما قدمه المغاربة من إضافة إلى وطنهم الجديد.
لم تقتصر الأيادي البيضاء للمغاربة على مصر في هذا الباب، بل ظهرت جليا على مستوى العلم والتصوف.
وكما يقال، إن كان الإسلام دخل إلى المغرب من الشرق، فإن تأثير المغاربة في المشرق جاء عن طريق علماء الصوفية.
في هذه الرحلة، نستعرض أهم أشهر المتصوفين المغاربة المدفونين في المشرق خاصة في مصر ،الذين تركوا بصمات وأتباع لمدارسهم الصوفية إلى اليوم ،حيث يستقطب هؤلاء المتصوفة المغاربة، الملايين من المريدين المصريين كل موسم.

 

« أنظر ببصر الإيمان تجد لله في كل شيء، وعند كل شيء، ومع كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، وفوق كل شيء، وتحت كل شيء، وقريبا من كل شيء، ومحيطا بكل شيء، وبقرب هو وصفه، وبحيطة هي نعته، وعد عن الظرفية والحد، وعن الأماكن، وعن الصحبة والقرب والمسافات، وعن الدور بالمخلوقات، وأمح الكل بوصفه الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو هو هو، كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان».
وكان الشاذلي قد مر بالديار المصرية مرارا أثناء روحاته السابقة إلى الحج وغدواته منه، وقد أعجب ولاشك أثناء زياراته هذه بمدينة الإسكندرية، ولهذا أثر أن يحط رحاله بها، وكان في صحبته عند رحيله عدد كبير من تلاميذه ومريديه الذين أثروا صحبته على البقاء في أوطانهم، وكان في مقدمتهم تلميذه الأثير أبو العباس المرسي، وخادمه الأمين أبو العزائم ماضي بن سلطان، والحاج محمد القرطبي، وأبو عبد الله البجائي، وأبو الحسن البجائي، والخراز، وغيرهم كثيرون. وكان الركب وهو في طريقة إلى الإسكندرية بتزايد عدد كلما مر بمدينة من المدن، فيضم إليه الأتباع والمريدون يوثرون الرحلة مع الشيخ على البقاء في أوطانهم، يلتمسون في صحبته البركة، وكانوا أثناء السير يستبقون على القرب من دابته، ويقضون الوقت في السمر والحديث اللطيف، وهين الشيخ ترقبهم من السمر والحديث اللطيف، وعين الشيخ ترقبهم من بعيد وأذنه تستمع إلى حديثهم فيشاركهم مرة ويعلن إعجابه بما يسمع مرة أخرى.
روى صاحب المفاخر الملية أن رجلين كانا يمشيان قريبا من دابة الشيخ يستظلان برجله، فقال أحدهما للآخر يعاتبه: « يافلان، رأيت فلانا يسئ معك العشرة وأنت له محسن ؟ فقال صاحبه فلانا هذا من بلدي؟ وأنا أتمثل في معاملتي له بقول مجنون ليلي :
رأى المجنون في البيداء كلبا فجر له من الاحان ذيلا
فلاموه على ما كان منه وقالوا كم أنلت الكلب نيلا
فقال دعوا الملامة أن عيني رأته مرة في حي ليلي
وسمع الشيخ – رضي الله عنه – حديث الرجلين فأعجبه، وأخرج رأسه من المحارة وقال للرجال: « أعد يا بني ما قلت».
فأعاد الرجل مقالته، فاهتزت نفس الشيخ طربا وأخذ يتماثل في مكانه وهو يردد البيت الأخير:
دعوا الملامة أن عيني رأته مرة في حي ليلا
« خذها يا بني والبسها فأنت أولى بها مني، كان ذا ذوق أدبي رفيع يطرب للقول الجميل وللمعنى السامي، كما تدل على الأسلوب الذي كان يصطنعه لتأديب مريديه وأتباعه فهو يترك فرصة – وأن كانت عارضة ألا انتهزت للمكافأة غلى الخلق الكريم ليتسابق الكل في التحلي به والإقتداء بصاحب المكافأة.
وقد وصل الشيخ أبو الحسن وركبه وصحبه إلى عمود السواري ودخلوا الإسكندرية من باب صدرة المقابل لهذا البابو واتخذ الشيخ له دارا يقيم فيها بالقرب من كوم الديماس – كوم الدكة الحالي-
وبدأ الشيخ يلقي دروسه ويعقد الحلقات يعظ الناس ويدعو إلى طريقته ومبادئه، وجدبت إليه هذه الدروس والمواعظ الجلة من علماء المدينة وفقهائها وفضائلها فلازموه ملازمة تامة، وسيكون هؤلاء التلاميذ فيما بعد قادة الحياة الفكرية والروحية في المدينة، منهم تلميذه الأثير أبا العباس المرسي، والشيخ مكية الدين الأسمر، والشيخ عبد الحكيم بن أبي الحوافر والشيخ أبا القاسم القباري، والشيخ أمين الدين جبريل، والشيخ أبى المنبر والشيخ شرف الدين البوني وكثرين غيرهم.
وكان الشيخ يعقد حلقات درسه في مسجد العطارين، وهو أقرب المساجد إلى دارة، وروى صاحب الفاخر العلية أن الشيخ كان يعقد كل ليلة في داره مجلسا يأتي الناس إليه من البلد يسمعون كلامه.
وقد أخذ الشيخ أبو الحسن الشاذلي تلاميذه ومريديه بالمبادئ المثلى في التصوف فهو لم يكن يفهم التصوف كما كان يفهمه بعض معاصريه وبعض المتدروشين حتى اليوم على أنه بطالة تامة بحجة الزهد والتفرغ للعبادة، بل كان يفهمه على أنه صفاء تام في النفس وتقوى خالصة لله وحب لله تعالى وتعلق به وارتفاع بالروح وبالعمل وبالقول عن الدنايا.
وهذا كله لا يمكن أن يقعد الإنسان عن السعي والعمل وطلب الرزق، وكان يكره من المتصوفة التظاهر بالفقر فهو نوع من الادعاء، ولكي يضرب لأتباعه المثل والقدرة كان يحيا هو حياة نظيفة منعمة فكان يلبس فاخر الثياب، ويركب فاره الدواب، يتخذ الخيل الجياد، وكان يكره أن يلبس الصوفية الملابس المرقعة التي اصطلح الفقراء وأهل الطريق على لبسها، لأنه كان يرى أن هذا اللباس ينادي على صاحبه: أنا الفقير فأعطوني شيئا، وينادي على سره بالإفشاء ومن لبس الزي واتخذ المرفقة في دابه.


الكاتب : إعداد وتقديم: جلال كندالي

  

بتاريخ : 16/03/2024