أولياء مغاربة في مصر 3 : الإمام أبو الحسن الشاذلي حارس الجبال وقطب الصعيد

العلاقة التي تربط المصريين والمغاربة ،علاقة تمتد في الزمن منذ قرون،فقد تعددت أوجه هذه العلاقة كما تشهد بذلك كتب التاريخ .
ووفق المؤرخين، فقد هاجر العديد من المغاربة إلى الديار المصرية في عهد مولى إسماعيل، خاصة من فاس ومراكش، حيث استوطن أهل فاس في القاهرة، في حين استوطن أهل مراكش في الإسكندرية.
وتؤكد المصادر التاريخية، أن المغاربة الذين اختاروا مصر مقاما جديدا لهم، يعتبرون من التجار الكبار، وهناك تأقلموا مع أهل هذا البلد، فنمت تجارتهم، بل استطاعوا أن تكون لهم اليد العليا على المستوى التجاري والاقتصادي، فأصبحوا فعلا يشكلون النخبة هناك، ولهم تأثير واضح على مستوى الحكم.
تمكن المغاربة الذين اندمجوا بسرعة في المجتمع المصري،من توسيع تجارتهم، لتمتد إلى خارج مصر، وتصل إلى مكة والشام، بل بنوا حارات جديدة مازالت قائمة في مصر إلى اليوم، شاهدة على ما قدمه المغاربة من إضافة إلى وطنهم الجديد.
لم تقتصر الأيادي البيضاء للمغاربة على مصر في هذا الباب، بل ظهرت جليا على مستوى العلم والتصوف.
وكما يقال، إن كان الإسلام دخل إلى المغرب من الشرق، فإن تأثير المغاربة في المشرق جاء عن طريق علماء الصوفية.
في هذه الرحلة، نستعرض أهم أشهر المتصوفين المغاربة المدفونين في المشرق خاصة في مصر ،الذين تركوا بصمات وأتباع لمدارسهم الصوفية إلى اليوم ،حيث يستقطب هؤلاء المتصوفة المغاربة، الملايين من المريدين المصريين كل موسم.

 

فمن أمثلة النوع الأول الخليفة الموحدي أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، وكان رجلا واسع الفكر محبا للعلم صديقا للعلماء، وللفلاسفة منهم بوجه خاص، فقرب إليه عددا كبيرا منه، وفي بلاطه عاش الفيلسوف المغربي ابن طفيل وهو أحد ممن حاولوا المزج بين الفلسفة والتصوف،وهو مؤلف قصة حي بن يقظان التي حاول فيها أن يثبت أن العقل والشرع يؤديان إلى نتائج واحدة.
وابن طفيل هو الذي قدم للخليفة يعقوب صديقه الفيلسوف ابن رشد فرحب به وقربه إليه وولاه قضاء اشبيلية.
ولكن المجتمع الإسلامي في المغرب وقتذاك لم يرض عن سياسة الخليفة الموحدي يعقوب، فقد كان رد الفعل السني ذا أثر قوي عليه، لهذا كان المجتمع سنيا متزمتا ينكر المشتغلين بها وقد استجاب الخليفة أبو يوسف يعقوب بن الخليفة السابق لرغبات المجتمع، فاضطهد العلماء والفلاسفة ورجال الفكر، وأصابتهم في عهده محن شديدة. فاتهم ابن رشد في عهده بالزندقة وحوكم في سنة 591.
واضطهد الصوفي الكبير أبو مدين وأرسل الخليفة يستدعيه من بجاية لمحاكمته، فأتى به مكيلا بالحديد، حتى إذا وصل تلمسان مرض ومات سنة 594.
هذا الجو الذي كان يشيع فيه ضيق الفكر، ويسود فيه الكبت و الاضطهاد والمحاكمة دفع الكثيرين من رجال الفكر والفلسفة والتصرف إلى الرجل عن المغرب الأقصى،وفي مقدمتهم محي الذين بن عربي، فقد رحل عن الأندلس والمغرب في سنة 598 بعد أن شهد محنه أستاذه ابن رشد وأستاذه في التصوف ابى مدين.
لم يكن غريبا أن يشيح الشاذلي بوجهه عن مدن المغرب الأقصى الكبيرة ويرحل إلى تونس ليستكمل علومه بها. فإنه يبدو أن الجو في تونس كان أصلح منه في المغرب الأقصى وحرية الفكر والدراسة مكفولة هناك إلى حد ما، وفيها على ذلك الوقت كان يقيم عدد كبير من أعلام المتصوفة من أمثال الشيخ محمد صالح بن بنصار والشيخ أبى محمد المهدوي والشيخ أبى سعيد الباجي وهم من تلاميذ الغوث، وقد عاصر الشاذلي تقول مجلة دعوة الحق، أثناء تلقيه العلم في تونس هؤلاء العلماء الأعلام ولا شك أنه اتصل بهم وتتلمذ عليهم وأخذ عنهم. وكان الجو في تونس يضوع منه شذى تعاليم أبي مدين وروحانيته، وقد تأثر الشاذلي بهذا الجو تأثرا شديدا وعشق التصوف وحياة المتصوفة منذ ذلك الحين وبدأ فتلقى الطريقة على أبى عبد الله بن حرازم أحد تلامذة أبي مدين ولبس على يديه خرقة التصوف.
تقول المصادر التاريخية، إن أبي أبو الحسن الشاذلي،رحل من قريته غمارة إلى تونس حوالي سنة 602 وهو بعد حدث صغير السن في نحو العاشرة من عمره، وبدأ هناك فتلقى على علمائها الفقه على مذهب مالك، وعلوم اللغة من أدب ونحو وصرف وعلوم الدين من تفسير وحديث وكلام وتوحيد. ولازم حلقات الدرس حتى نبغ في هذه العلوم جميعها، ليتصل بشيوخه ولبس الحرقة أول ما لبس على يد أبى عبد الله محمد بن حرازم.
والكتب التي ترجمت لابن الحسن الشاذلي تروي قصة طريفة حدثت له عند دخوله مدينة تونس، والقصة تبدو غريبة بعيدة عن المنطق ولكنها تدخل في نطاق ما يسميه القوم بالكرامات، وأغلب الظن أن مؤرخي أبي الحسن واتباعه يرونها للبرهنة على أنه كان منذ شبابه الأول ذا نفس طاهرة نقية صافية، وأنه كان ذا استعداد طيب للولاية منذ هذه السن المبكرة.
روى هذه القصة صاحب كتاب المفاخر العلية في المآثر الشاذلية. قال رواية عن الشيخ جمال الدين القرآني إن الشيخ أبى الحسن الشاذلي قال:
« دخلت مدينة تونس وأنا شاب صغير، فوجدت فيها مجاعة شديدة، ووجدت الناس يموتون جوعا في الأسواق، فقلت في نفسي: لو كان عندي ما اشتري به خبزا لهؤلاء الجياع لفعلت، فألقى في سري : خذ ما في جيبك، فحركت جيبي فإذا فيه نقوذ، فأتيت إلى خباز بباب المنارة، فقلت له : عد خبزك، فعده، فناولته للناس فتناهبوه، ثم أخرجت الدراهم فناولتها الخباز، فقال لي : هذه مفارقة وأنتم معاشر المغاربة تستعملون الكيمياء، فأعطيته برنسي وكرزيتي من على رأسي رهنا في ثمن الخبز، وتوجهت إلى جهة الباب فإذا رجل واقف عنده فقال لي : يا علي أين الدراهم ؟ فأعطيتها له فهزها في يده وردها إلي، وقال ادفعها للخباز فإنها طيبة، فرجعت إلى الخباز فأعطيتها له فقال: نعم هذه طيبة وأعطاني برنسي وكرزيتي، ثم طلبت الرجل فلم أجده، فبقيت متحيرا في نفسي إلى أن دخلت الجامع يوم الجمعة، فجلست عند المقصورة عند الركن الشرقي فركعت تحية المسجد وسلمت وإذا بالرجل عن يميني فسلمت عليه فتبسم وقال: يا علي أنت تقول لو كان عندك ما تطعم به هؤلاء الجياع لفعلت ؟ أتتكرم على الله في خلقه ولو شاء لأطعمهم وهو أعلم بمصالحهم ؟ فقلت يا سيدي من أنت ؟ قال أنا أحمد الخضر كنت ببلاد الصين فقيل لي أدرك بتونس فأتيت مبادرا إليك، فلما صليت الجمعة نظرت إليه فلم أجده».
وفي تونس قضى أبو الحسن سنوات الصبى والشباب الأول تتلمذ فيها على كبار علمائها وشيوخها ومتصوفيها، فبدأ بأبي عبد الله بن حرازم الذي لبس خرقة التصوف على يديه لأول مرة، ثم سمع بالشيخ أبي سعيد الباجي أحد تلامذة أبي مدين وممن أخذوا الطريق عته فسعى إليه وانتفع بعلمه. يصف الشاذلي مقابلته الأولى لأبى سعيد يقول:
« لما دخلت تونس في ابتداء أمري قصدت بها جملة من المشايخ، وكان عندي شيء أحب أن أطلع عليه ويبين لي منه خبر، فما فيهم من شرح حالي، حتى دخلت على الشيخ أبى سعيد الباجي – رحمه الله- فأخبرني بحلي قبل أن أبديه إليه، تكلم عن سري، فعلمت أنه ولي الله، فلازمته وانتفعت به كثيرا وسمعت منه».
في هذا الجو الذي كانت تتجاوب في جنباته آراء الفلاسفة من أمثال ابن رشد وابن طفيل وابن عربي وتنتشر في نواحيه وروحانيات المتصوفة من أمثال القطب الغوث أبي مدين وأبي عبد الله بن حرازم وأبي سعيد الباجي. في هذا الجو الذي كانت تصطرع فيه قوى العلم والفكر الحر مع قوى الرجعية والتزمت السني. في هذا الجو نشأ أبو الحسن الشاذلي نشأته الأولى، وتلقي علومه الأولى، ولكنه لم يكد يبلغ سن الشباب حتى أحس أن غلته لم تشف وأن ظمأه للعلم والمعرفة لم يشبع، فاعتزم الرحلة إلى الشرق، لأداء فريضة الحج وزيارة الأرض الطيبة المقدسة والقبر الطاهر أولا ثم لإتمام علومه واستكمال دراسته على أيدي شيوخ الشرق ثانيا.

 

 


الكاتب : إعداد وتقديم: جلال كندالي

  

بتاريخ : 14/03/2024