أيادي المعجزة، مخطوطات من كل القارة خالطها المكتوب

في رحاب زاكورة، والزاوية الناصرية :حين كانت تامكروت محطة في الطريق إلى الله!

 

وجدت زاكورة كما كانت تقيم في ذاكرتي، وجه خوخة، ينضح وسط التماع سراب القيلولة والسحر الصحراوي.. وقد تغذت كثيرا من العاطفة ووجوه الذين أحببتهم. على تخوم الصحراء، كان التراب والشمس والهواء والمخيال يتقاسمون مشاعري، ما بين حرارة تلفح الجسد، وسعف النخيل الذي يلوح كظاهر اليد، بالوعود المنعشة.
وصلنا المطار الصغير، نزلنا أدراج الطائرة التي كانت تقل سياحا أغلبهم فرنسيون بأطفالهم، مما لم اعتده في الوفود السياحية في مطارات أخرى للمملكة. كان الجو حارا، والنسيم عليلا، لعله في الطريق إلينا عرج على واحة ما زالت تغالب الجفاف بقدرتها الخاصة ! في تركيبة موسمية. كان شهر ماي، يفرش الصيف للقادمين. وصلنا الفندق المبني بالمواد الأرضية للمدينة يحافظ على مسحة الطين في تركيب الهندسة. الطين، وحده يستطيع أن يبقي لمدينة زاكورة على مشهديتها اللامعة..التقيت صباحي، هنا في زاكورة، كان علينا أن نتناول فطورنا ونستكمل النعاس، الذي تركناه من حيث جذبنا فجر السفر…في الفندق سياح من كل الأعمار، من الأطفال. الرضع إلى الشيوخ الذين جروا سنوات العمر هنا إلى تخوم درعة …ارتحنا بعد الفطور، ونمنا لاسترجاع ما فاتنا. في الطريق إلى المسجد، في منتصف الجمعة الحارق، كانت تبدو المدينة قريبة من صورة الصحراء، بالرغم من السيارات الفارهة التي تمرق بين الفينة والأخرى، والشباب على آخر دراجات التجوال الصحراوي، كما لو أنني أذهب إلى مسجد قباء الأول. في المسجد ظل وملابس تعود بالتاريخ العتيق إلى مايو القرن الواحد والعشرين. شعرت بالفعل، في المسجد الذي يدخل إليه النساء والرجال من الباب نفسه، ببساطة البدايات. عبرت لأحمد شهيد عن هذا الإحساس من بعد ونحن على مائدة الغذاء: قلت شعرت كما لو أنني أصلي مع المؤمنين الأوائل، وشعرت كما لو أن الإيمان مجسد في لون اللباس وحركات الناس.
سنكتشف من بعد أنه، غير بعيد عن المسجد، يوجد حي الملاح الذي غادره أهله اليهود من زمان، بقيت نوافذ صغيرة، تكاد تكون بحجم العين، على أسوار من طين عالية نوعا ما.تذكرك بعمارات الطين في أفلام السيرة. النبوية الأولى….
كان لنا في الأصيل موعد مع زيارة الزاوية الناصرية: هنا في زاكورة تعد الناصرية مرتع الروحانيات العلوي، التي صهرت وجدانا عاما شاع في العديد من الأمصار، لكنه ظل مرتبطا بأرضه الأولى حيث نما وانتمى..
قطعنا الطريق من زاكورة إلى تامكروت حيث اختار لها الشيوخ الناصريون، وكانوا في الأصل شيوخا أنصاريين، أن تصير مقاما عليا يحتضن رحلتهم الصوفية. في الطريق إلى تامكروت، حضرت محاميد الغزلان. راعية لوطنية المحاربين البدائية، الفطرية أكاد أقول، حيث لا تكون التواريخ الخالدة وحدها تحيل على خطوط الطول وخطوط العرض التي تحد المكان في جغرافيا البلاد، ولا الزيارات الميمونة، كما تقتضي البلاغة الوطنية المهيبة في وصف زيارة محمد الخامس، وإطلاق نداء الوحدة الوطنية..
وجدنا الرجل البسيط مريد الزاوية وسادتها الذي حدثنا عنه إدريس لشكر قبل اللقاء به، حيث سبق له أن التقاه في مناسبة ماضية. وكان كما كان بالفعل رجلا يسرد شفهيا سيرة متعددة الشخوص والتواريخ، لا يضيع كما يحدث لمستعمليه وهم يحاولون التركيز معه في أسماء الأسياد الذين يحكمون التراب والأماني ويسهرون على تلطيف النوائب التي صادفت كل شيخ من شيوخ الناصرية.
قال إن شيوخها الأوائل من الأنصار رضي الله عنهم. وكفى، لم يحدثنا بالتفصيل عن سيرتهم البرية من أقاصي الحجاز إلى الصحراء الجنوبية الشرقية في مغرب الإسلام الأقصى. ولا حدثنا عن مسيرتهم في الزمن منذ احتضنوا نبي الإسلام في المدينة إلى أن حطت بهم رحالها فوقها وجمالهم في بغداد زاكورة…
والواضح من السيرة أن الزاوية الناصرية سبقت حاملة اسمها،محمد ابن محمد بن احمد ابن محمد بن الحسين، إذ كانت في الأصل زاوية أنصارية، تحولت بعد أن تولى قدرها هو إلى زاوية ناصرية. وتقول سيرته إنه من مواليد رمضان في 1602 بقصر الآن، بخميس تراناتة من وادي درعة المتوسط. وتشاء سيرته المقدسة أن ترفع نسبه إلى جعفر بن أبي طالب.وقد عاش وسط عائلة متدينة، في زمن حكم السملاليين، المخزن وقتها.
ولما »تاقت نفس محمد ابن ناصر الدخول إلى طريق القوم انطلق باحثا عن شيخ للتربية. وكما تقول الصوفية » من لا شيخ له شيخه الشيطان«، كما كان الراحل باداوود يرددها على مسامعنا في الجريدة. وكان الراحل الزرقاوي يردده على مسامع رفاقه ممن يبيتون في الزاوية بالدار البيضاء.
أيامها، وعمره 27 سنة فقط، كان البحث عن الطريق إلى الله يمر حتما.. بتامكروت!..
ومنها كانت إقامته في الزاوية. التي سندخلها بعد قليل!

المكتبة الناصرية:صيد النسر الكاسر

في الطريق إلى الزاوية الناصرية، بنايات تحمل روح التربة والهندسة العتيقة، وفي وسط أجود اختار الناصري الأول مقاما له لتولد أكبر زاوية في القرون الأخيرة بتامكورت.
في المكتبة التي دخلناها في الجناح الأيسر للزاوية ما يقارب 4 آلاف مجلد، ومخطوط قد جمعها نسر الكتب الكاسر، كما يكنَّي الولي الصوفي وهي كناية عن اصطياده نفائس المخطوطات كما هي نسخة قرطبة لآيات من المصحف الكريم. وبجواره موطأ الإمام مالك. وقد كتبت بخط بهي، تقر له العين التي اعتلتها نظارات ضعف البصر، بعد قرون من ذلك. هكذا حدثت نفسي: مخطوط بخط اليد، بحروف دقيقة، قابلة للقراءة من عينين فتحتهما منذ 62 سنة وقد أصابهما الوهن اليوم.. ومن حظي أنه انتظرنا حتى جئت لقراءته، يا للحظ، ويا للحظ الذي يصحبه!
في رحاب المكتبة الناصرية، يهْجع العلم، الذي جمعه الشيخ الناصري من أصقاع الضاد، من تومبوكتو إلى القاهرة. وأول ما بادرتنا به المكتبة، ولها روح ولا شك في ذلك، هو نسخ من القرآن الكريم لها تاريخ. ومنها نسخة وحيدة نوعها من القرآن الكريم (انظر الصورة)، كتبت على جلد الغزال، عمرها أربعة مائة سنة (1063 هجرية) كتبت بالسمخ، والصوف المحروقة، والأزرق النيلي ومخطوط الفيرز آبادي.قال لي إدريس لشكر إن له نسخة مثلها توصل بها من ناصري معروف. غبطته عليها والحق أقول. كانت العين تشهد وتشاهد، والشاب الذي يتولي الشرح، يستجيب لندائها الخفي، ولا يترك من علمه شيء يطلعنا عليه: تواريخ ومواد تصنيع الرقوق، ومسارات كل مخطوط .. تمعن النظر في نسخة القرآن، هيبة وإجلالا، فتقفز إلى أعماقك وعود الجمالية التي نقشت بها الكلمات. يقفز الغزال نفسه الذي وهب جلده كي تكتب به السماء المباركة والكلمات النورانية. هكذا يخيل إليك ، بغير تجن ولا خبل!
كما لو أن الكلمة قطرت من مدونة من ذهب، كل حرف قطرة من معدن شفاف وبراق: كل كلمة ، تستطيع أن تقرأ نفسها…ااااه نعم، هنا تهمس المخطوطة بصوت الكلمة وهي تقرأ نفسها كما دارت في خلد كاتبها، بتكوينها وتلحينها ونحلتها .. وخشوعه!.
ما تعلمته الأيادي، احتفظ به الورق، جلد الغزال، أو البردي، ولا أحد يعرف ما كان يدور في الذهن. كيف فكرت الرؤوس و لكن الأيادي تُرى، هنا، في الجلد والورق . هي نظرة في القرن 6 مازالت تحتفظ بطراوتها : قطعة من الروح على قطعة من الغزالة .. من أي قارة جاء الغزال: هي ليست إفريقيا ولا آسيا، إنها قارة صارت مكتبة.
والحميمية التي وضعها الخطاط بين الحرف المقدس وجلد الغزال والمخطوط ، ليست صناعةً يدوية بل هي نحت للروحيِّ، ليست مخطوطآ أمامنا، بل هي عمل فني يستدرج السماويَّ إلى الكتابيِّ.
ماهو جمالي الآن في ماي 2024، تشكَّل أولا ، كعقيدة، ثم كتشكَّلٍ للروح في تلقي المقدس، باعتباره مادة صوف وصوفية..
ربما لم تكن حركة اليد، في تصور صاحبها الخطاط، لتخْلُق ردة فعلٍ شعريٍّ.: تتجسد اللغة فتغيب الصورة. .. ومع ذلك هذا ما حصل، وينظر إليه اليوم طريا كما لو أنه نزل للتو من طبقات المقدس!
في المصنفات السيرية الذي محضنا إياها السادة أهل الزاوية ما يكشف بعضا من علاقة الزاوية وشيخها بالكتاب.
وفيها أن في »مشيخة سيدي محمد بن ناصر شهدت تامكروت النواة الأولى لخزانة الكتب، حيث ينقل صاحب الدرر المرصعة على لسان الشيخ أحمد الهشتوكي، أنه “جمع الكتب نسخا وشراءً، فنسخ بخط يده الكريمة عدة كتب منها القاموس المحيط والقاموس الوسيط والمرادي على التسهيل، وأمالي أبي علي القالي، وبعض العقد الفريد، لابن عبد ربه، وفي تصحيح الكتب ومقابلتها، وكتب الفوائد على حواشيها وطررها، وخصوصا نسخ الصحيحين، وقد رأيت كراريس عديدة لدى ولده وخليفته الشيخ مولانا أبي العباس … على صحيح البخاري، نافعة جدا لو أتمها…«.
وقد احتلت تلك الكتب مكانة رفيعة لديه، حتى آثرها بالحصير الذي أهداه إليه تلميذه، المدعو منصور بن أحمد التايرسوتي، ليقيها من التلف، فقدمها على نفسه وحشمه الذين ظلوا يفترشون جريد النخل.
واعتنى الشيخ باستنساخ الكتب لصالح خزانة تامكروت، فكان يبذل في سبيلها البيضاء والصفراء. فقد بذل لمحمد المهدي الفاسي (ت. 1109) مقابل نسخ كتاب الحلية، لأبي نعيم، ثمانمائة مثقال. وقد علق الأستاذ محمد المنوني على ذلك فقال: “وهذه القصة تعطينا مثالا كبيرا عن اهتمام الشيخ ابن ناصر بتصحيح الكتب التي يدخلها لمكتبته، واعتنائه بغرائبها، ومغالاته في تحصيلها، فرحم الله تلك الروح الطيبة وروحها في أعالي الجنان”. فقد أفادتنا الملخصات بأن تلاميذ الشيخ كانوا يتنافسون في نسخ الكتب له “اعترافا منهم بالجميل، واستدرارا لدعواته الصالحة”. منهم عبد الرحمن السويدي المكناسي الذي أهداه نسخة عتيقة رباعية من الجامع الصحيح، رواية أبي ذر الهروي، من ثمانية عشر جزءاً، ومنهم “أبو علي اليوسي وعبد الملك التاجموعتي وأبو سالم العياشي وأبو الحسن المراكشي، فجاء كل واحد للشيخ بنسخة جيدة مقروءة”.
ولم يقف شغف الشيخ سيدي محمد بن ناصر واهتباله بالكتب عند هذا الحد، بل لقد سعى بوسائل أخرى، فضلا عما ذكر، فعمد إلى الاستعارة. ومما يذكر، في هذا المقام، أنه كتب إلى ابن العالم أحمد آدفال يطلب منه أن يعيره السفرين الأولين من شرح المرادي على التسهيل، وشرح الثمني على مغني اللبيب لابن هشام.
ولا يزال الناصريون، إلى عهد قريب، يتداولون رواية مفادها أن الشيخ سيدي محمد بن ناصر، قد اصطحب معه في أثناء رحلتين اثنتين له، عددا من التلاميذ، اعتاد على تكليفهم بنسخ ما كان يعثر عليه من كتب نفيسة، عند نزول الركب ببعض البلدان، مثل القاهرة. فقد كان يعمد إلى تقسيم الكتاب إلى كراريس فيوزعها على أولئك التلاميذ لينسخوها بسرعة فائقة. وعن طريق تلك الوسيلة استطاع أن يزود خزانة تامكروت، أو دار الكتب، كما كان يحلو للناصريين أن يسموها، بعدد من النفائس.


الكاتب : عبد الحميد جماهري

  

بتاريخ : 25/05/2024