أُنطولوجيا الجسد (29) : مفهوم الجسد عند هايدغر 3

 

يكون الإشكال أقدم من ذلك إذ تتطرق الأساطير اليونانية الأولى (قبل القرن السادس قبل الميلاد) إلى علاقة الآلهة الخيرة بالعمالقة الشريرين، ومن هذه العلاقة ولد الإنسان. وقد تتحدى قوة هذه العلاقة حتى الموت الذي لا يستطيع أن يُفرق بين الطرفين، لذى تنصح «أرفي» (Orphée) بالزهد المتشدد لتحرير الخير من قبضة الشر أي تحرير الروح من الجسد. ولم يختلف رأي فيتاغورس (Pythagore) وأمبادوقليدس (Empédocle) عن ذلك في الخطوط العريضة[13]. نلاحظ في هذه الأسطورة وجود كل المكونات الأساسية لبناء نظرية أو نظريات حول علاقة الروح بالجسد وما يميز بينهما.
في كل الحالات يتمثل المشكل الأساسي في الاتفاق أو الاختلاف بين الجسد والروح وفي إمكانية فناء الأول وبقاء الثانية. إلا أن هذا إشكال قد يكون في الحقيقة غير صحيح منهجيا، فالمصادقة على الاتحاد في مسألة الأصل تستلزم أن يتّحدا في مصيرهما أيضا. ولو أن الميتافيزيقا تنادي ببقاء الروح وفناء الجسد بعد موت الشخص، إلا أن الآراء تختلف في لحظة الانطلاقة: هل يولدان معا أو في وقت واحد في حيزين مختلفين، أم أن الروح توجد قبل الجسد بأزمنة متفاوتة، أو أنها لم تولد ولن تفنى بل هي أزلية أبدية؟ يؤكد أفلاطون أنها كانت موجودة قبله، بينما لا يفصح ابن سينا عن أصلها لكن يجعل هذه العلاقة تمر بمراحل فيبدأ قصيدة «النفس» بلحظة نزولها أو هبوطها عن كره إلى الجسد، ثم المعاشرة والألفة فتتعود عليه وتتعلق به، وأخيرا تضطر إلى فراقه بعد أن تدرك حبها له.تتساءل النصوص اليهودية عن بداية الخلق فتقول: «لما أخذ الله شيئاً من الطين وصنع به الإنسان، ثم نفخ في أنفه سمة الحياة، فصار الإنسان»[14]. الكلام نفسه نجده في المسيحية والإسلام، فيفسر «تريمونتان» (Tresmontant[15]) أنهما لا يختلفان أنطولوجياً بل هما قد خُلِقا في وقت واحد ويمكن أن يكونا قد خلقاً واحداً، فالروح لا يمكن أن تأتي قبل الجسد، وعبارة الجسد (بازار) في اللغة العبرية لا توحي بمعنى «التضاد» كما نجد ذلك في الفكر الديكارتي أو الأفلاطوني، بل تعني التعبير الملموس لما هو غير ملموس أي الحياة والحيوية أو الروح والروحية في كيان الإنسان ككل[16]. يكمن دليل هذا الالتحام في الوظائف المعرفية العليا التي يقوم بها الجسد كالصلوات وحب العلم.
إن للغة الدينية أو الكلام الديني أيضاً مكانة أساسية أو تأسيسية في تحديد العلاقة الإشكالية بين الروح والجسد لأنها تلعب دورا رمزيا هاما في بناء معنى الجسد. فتعبر المسيحية عن ذلك في النص القائل «صار الكلام جسما ـ أو جسدا ـ »[17] حتى تفسر كيف خلق الإنسان كجسد من روح الله التي يمثلها الكلام، ويبين النص الإسلامي كيف أن الكلام اللامادي يُحدِث الأشياء المادية «يقول للشيء كن فيكون[18]». إلا أن بهذا المنظور وفي كل هذه الحالات لا يمكن للروح أن تسبق الجسدَ لأنها قبل أن تلتقي بالمادة وتلتحم بها حتى يكون الجسد والإنسان كانت نَفَسا إلهيا لا روحا إنسانية. عموما تبقى الروح من الأمور المسكوت عنها في الديانات السماوية ويُعبر عنها بمفهوم «السر» أو «الحكمة» «أو القدرة الالهية». جاء في القرآن الكريم: « يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً»[19].
في العصر الحديث بقي الفصل بين طرفي الإنسان مستمرا وإن حاول بعض المفكرين التوفيق بينهما. والأمر يتجاوز حدود الفلسفة إذ ما زال علماء الفلك آنذاك يعتقدون أن الأرض مركز الكون والإنسان خير الكائنات وسيدها، لكنه سيدها بروحه لأن هذا الجسد الذي يعيش فيه وبه شيء ثانوي لا قيمة له، وهو مجرد وسيلة تسمح للروح بالتقرّب من الله.
أما في الفلسفة فمن أهم من تطرقوا إلى قضية الجسد وعلاقته بالروح هو «ريني ديكارت» الذي صرح في بداية القرن السابع عشر أن الحديث عن الروح أسهل من علاج مسألة الجسد. وإن أراد الفكر الديكارتي أن يكون علميا إلا أنه بقي نظريا لأن الثقافة الدينية المسيحية ما زالت تمنع دراسة الجسد من الداخل، تمنع التشريح والتعامل مع الأعضاء والأحشاء والدم. فالجسد وعاء الروح والروح هي الشعلة الإلهية التي تعطي الحيوية للجسد، حتى قال ديكارت أن الروح تسكن في «الغدة الصنوبرية» (glande pinéale). وقد أفصح في (Méditations métaphysiques) بالتحديد عن نوعية العلاقة التي تربط بين الجسد والروح وفسر بكل وضوح الثنائية التي تفصل بين (res extensa) وهي المادة والامتداد وكل ما هو ملموس، و(res cogitans) وهي الفكر أو النفس أو الروح التي تقرب الإنسان من الله وتؤكد وجوده. كما أكد هذا الكلام في كتب أخرى كذلك.
ثم جاء سبينوزا مباشرة بعد ديكارت ليطالب بضرورة الوحدة بين الروح والجسد عند الإنسان وإمكانية وجود قوة خاصة بالجسد مستقلة عن كل شيء حتى عن الروح. «أن يُسمح للجسد أن ينفرد بقواه مؤكدا تأثيراته، هذا إشكال جديد يؤدي إلى أطروحتين أساسيتين: إما أن يؤسس التمثيل المعرفي لهوية الإنسان كفرضية تؤيد العلاقة بين الجسد والروح ككل متكامل، وإما أن يكون التمثيل سبباً لوجود الجسد لوحده بناء على قوانين الطبيعة والحركة والسكون». هذا قياس يشبه نوعاً من الرجعة إلى الفكر اليوناني لكن على أمثال فكر لوقريطوس وديمقريطس القائلين بإمكانية التفكير في الإنسان على أساس الجسد أي المادة. هكذا بدأ الإبتعاد أخيرا عن الفكر الأفلاطوني الذي لم ينهزم لمدة عشرين قرنا.


الكاتب : ويزة غالاز

  

بتاريخ : 14/08/2021