أُنطولوجيا الجسد (30) : مفهوم الجسد عند هايدغر 4

 

عموما مهما كانت الإنتقادات، فالثنائية كمفهوم تبقى مقبولة شكلا لأن معظم التفكير الفلسفي مبني على أشكال ثنائية كالتحليل والتركيب أو الإيجابي والسلبي أو الإستنتاج والإستقراء أو الكينونة والعدم… هذه المقابلات ليست مجرد تمرينات لغوية أو أدبية، بل هي أسس وجودية تُبنى عليها كينونة الإنسان بكل أبعاده.
وحتى الجسد في حد ذاته وإن تميز بالحسية فهو لا يخلو من التقابل والتناقض بل يجمع في سماته الأساسية صفات تتقابل كالحدود والامتداد، وصفات تتنافر كالجمود والمرونة.
الفكر المعاصر: مدخل
إلى الجسد الشاعري

لقد حاول «ديكارت» التوفيق بين طرفي الإنسان إذ مثّل الجسد كمادة تكوّن العالم الملموس أي الكون (univers) بمعنى كل ما هو كائن مقابل الروح كجوهر. لم يوافقه «سبينوزا» (Spinoza) في هذا الرأي وراح يربط جسم الإنسان بعلاقة مباشرة مع جوهر الله الذي يمده بروحه في علاقة توحيدية. ما سماه «لايبنيز» (Leibniz) الآلة الإلهية التي عرفها كآلة طبيعية تفوق كل الآلات المصنعة. ثم قسم «كانط» (Kant) الحقيقة إلى «مظهر» (phénomène) حيث توجد المادة والجسم والجسد، و«جوهر» (noumène) حيث توجد الروح والنفس والفكر والذهن. لكن رفض «سارتر» (Sartre) هذا التقسيم لأن الواقع عنده واحد وكل ما هو غير مرئي غير موجود. هكذا تضاربت الآراء الفلسفية لكي تشق طريقها وتمهّد لقاعدة جديدة تؤسس عليها حقيقة أخرى تعطي للمادة دورا رئيسيا.
ما تميز به الفكر المعاصر هو التنوع والإختلاف. ولعل أهم ما يجلب الأنظار من الإتجاهات المادية هو تساءل الإتجاه الأنجلوساكسوني: «كيف يمكن للمادة بمعنى «مخ» الإنسان (brain) أن تنتج الفكر أو الأفكار (mind)؟»
لقد برزت هذه الأسئلة في الولايات المتحدة فسمحت بتطور كبير في العلوم الإنسانية وعلوم الإتصال والفلسفة لكنها بقيت محتشمة في الدول الأوروبية ولم تقتحم الميدان إلا بصعوبة[20].
فبدأ الفكر يتسم بالصبغة المادية فلم يهتم بعلاقة الروح بالجسد بقدر ما اهتم بالجسد كمصدر الحيوية والحركة والعمل وحتى الإنتاج الفكري والفني. بحكم العلوم التجريبية والعلوم الدقيقة التي استقلت عن الفلسفة وتطورت، صار للجسد وجود مؤكد وفعال، على غرار الفيزياء التي تتساءل عن الإنسان كجسم بين الأجسام والبيولوجيا التي ترى فيه مجموعة خلايا وأعضاء، وكذا الميادين الأخرى. كما وجد الجسد مكانته بين العلوم الإنسانية والفلسفة، إذ لقي صدى عند علماء الأنثروبولوجيا الذين أدركوا أهميته في كل مجموعة إنسانية لكل عصر حين نظروا في الكيفيات التي استُعمل بها في شتى الثقافات، وكذلك في علم الاجتماع الذي جعل منه فاعلاً إجتماعيّاً وعلم النفس الذي نظر إليه كذات عضوية يعبر بها الإنسان عما يدور بداخله. بينما يتوقف نظر الفينومينولوحيّين عند حدود الجسد كغلاف جسدي (enveloppe corporelle)، الذي يتمثل في ما تراه العين، هذا الهيكل المكوّن من الرأس والأطراف ويتسم بالحركية (mobilité)، وهو يعمل ليعيش ويسمع الموسيقى ويحب أو يكره ويتدين أو يلحد…
أخيرا وجد «الجسد» مكانه في شتى اتجاهات الفكر وجلب أنظار المثقفين بصفة عامة، فترجّح فهمهم له في معنيين: الأول أن يكون للجسد علاقة بالذاتية (subjectivité) وبهذا المعنى يبقى للميتافيزيقا مكان في حياته وإن انتُقدت كيفية تفسيرها وفهمها للأشياء. الثاني أن يكون الجسد جسماً ماديّاً فيه تسكن الحيوية والإنسانية، ما يؤدي إلى نظرية مادية بحتة. فتفسر «كاتي لوبلان» (Cathy Leblanc)[21] هذه الآراء التي تقدّر حدود إمكانيات الجسد في كون مادته على مثل الرسومات اليابانية (estampes japonaises) التي ترسم المحيط الخارجي للهيكل بخط أسود وتسميه «الخط الواضح». لكن هذا التعريف الذي يكتفي بمحيط خطي أي الغلاف الجسدي غير كافٍ، تنقصه إضافات وصفات تجعل الجسد حركيا وديناميكيا ينسجم مع الفكر وأبعاده والكينونة التي تحركه وتبعث فيه الحياة[22]. هذا ما وجدته في بعض نصوص هايدغر.
هايدغر والجسد الشاعري:

لم يتفق هايدغر مع أيٍّ من هذه الآراء لأنه لا يقبل بفكرة أن الجسد مادي بحت ولا بميتافيزيقا مهما كانت نقدية تفسر سر وجود الإنسان. إلا أنه سعى إلى جمع الأفكار التي يجدها مفيدة في كل رأي ليكشف عن نظرة جديدة تقول بجسد يتأثر بالحياة التي يعيشها ويتأقلم مع الأحداث ويتجاوز حدوده ليملأ المكان ويتصرف فيه، سماه «الجسد الشاعري»[23].
جاء هايدغر في بيئة تتميز بالنزاعات الفكرية المبعثرة والمتناقضة تتنافس حول كل المواضيع الفلسفية حتى البديهية منها والتي غالبا ما تؤول إلى طرق مسدودة أو «الطرق التي لا تؤدي[24]»، أفكار تحتاج إلى من يجمعها ويوجهها ويعطيها سياقاً وانسجاماً ومحوراً تتلاحم حوله. في هذا الخضم، شعر الفيلسوف بضرورة الرجعة إلى «سؤال الكينونة» الذي طُرح في العهد اليوناني ثم نُسي مباشرة بعد طرحه «لماذا هناك الكينونة وليس العدم؟[25]».
وإن تصفحنا معظم مؤلفاته، قد لا نجد نصا واضحا يعرّف الجسد. لكن هناك العديد من الأمثلة حول الجسد في كتبه المعروفة[26] ابتداء من «زاين أوند زايت»[27] وكل تساؤلاته تهتم بحركية الإنسان وأعضائه، استعملها كأدلة تثبت كينونة الإنسان.


الكاتب :   ويزة غالاز

  

بتاريخ : 16/08/2021