أُنطولوجيا الجسد (4) : الجسد العربي مكتوباً ومقروءاً (1)

 

الوشم فن بصري يدق على الجسد، إنه كتابة عليه، وهو اسم آخر له فن طوطمي، فن من علامات رأى فيه بعض أصحاب الفتاوى شراً ينبغي تحريمه، مضيفين ذلك إلى أمور كثيرة ترمي إلى كبت الجسد وقمع شكله ومظاهره.
تبدو الكتابة عبر الوشم على الجسد العربي (لباساً مكتوباً)؛ وكتابة تخلخل مفهوم الامتلاك، فتلح على أن تكون مقروءة، ومحبوبة، ومشتهاة، ضمن حركتها الأكثر إثارة وغموضاً. رأي المفكر المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي في كتابه: (الاسم العربي الجريح – دار العودة – بيروت) تفتح اليوم أبواباً عديدة للنقاش في ظل إخراج بعض الفتاوى التي تحرّم الوشم على الجسد؛ مستعينةً بأدبياتها الماضوية.
الوشم في الثقافة العربية يبدو على أطراف النص؛ لكنه في الوقت ذاته استمرار لهذه السلالة من العلامات والرموز التي تختص بها هذه المنطقة أو تلك؛ فالوشم كعلامة ورمز غير مرسوم بيد رسام – يقول الفنان التشكيلي أكسم طلاع ـ ويضيف: الوشم هو مرسوم من قبل شخص صانع للتعاويذ؛ إذ يبدو أن هؤلاء الناس الذين ينتمون إلى المجتمع الرعوي كانت لديهم مخاوف لم يتغلبوا عليها إلا بالوشم؛ ليس الموت فقط؛ بل من الغيب والجفاف والغزو؛ فهذه العلامات تحميهم من القدر القادم إليهم؛ وبالتالي المستقبل لديهم كان مفهوماً غائماً وغائباً؛ الخوف من القادم، فكل قادم كان مشكوكاً فيه في المجتمعات الرعوية الأولى؛ حيث كان يرافق هذه المجتمعات قصصاً وحكايا أزياء ووشوماً».
هذه الوشوم لم تكن موجودة على الجسد الإنساني وحسب – يعقب طلاع ـ مضيفاً: «بل كان الوشم على السلاح والمكان وعمود البيت وحتى على قطعان الماشية، فالمجتمعات البدوية كانت تخاف من اللون الأحمر في صناعة الوشوم، فهو لون الفرح الذي قد يجلب لهم كوارث، لذلك كانوا يفضلون الألوان الحيادية التي تبقيهم في أمان وسلامة كما يظنون، وأغلب الألوان التي كانوا يرتاحون لها كانت ألواناً ترابية؛ لهذا تشاهد بكثرة الوشم الأزرق على البشرة البيضاء؛ لكن أغلب الوجوه السمراء تلاحظ أن الوشم جزء من الوجه؛ فالوشم هنا لم يكن غريباً ولا طارئاً على هذا الوجه الذي يُدقُ عليه».
الوشم ليس تزيينياً؛ بل هو اسم الشخص؛ من دون أن يكون رسام هذا الوشم فناناً محترفاً؛ رسمٌ كان يستخدم فيه ثلاث إبر محماة على النار، تكوّن ما يشبه الطوطم أو هذه اللغة التي تعطيك رمزاً حركياً؛ فالوشم رمز مرئي وليس مسموعاً، يوضح طلاع، مضيفاً: «إذاً الوشم كان اسمك الحركي المرئي كي لا تنسى وكي تبقى بمنأى عما هو قادم، ويجعل منك ابن هذا المكان».
ذهنية تحريم الوشم اليوم يقرأها التشكيلي السوري – الفلسطيني في أعلى رموزها السيمولوجية التي تتعرض اليوم لنوع من القمع والتضييق فيتساءل: «من الذي يحرّم؟ من الذي يطلق نص التحريم؟ من هو؟ هل هو سياسي أم وصي؟ أم رجل دين أم نحن؟ ولماذا؟ انظر كل شيء ممنوع لنا غاية فيه، انظر إلى ثقافتنا نحن العرب أبناء الهوية والمكان؟ يبدو أن الآخرين يفضلونك ميتاً، وأن تكون بلا هوية وبلا خطيئة. الخطيئة التي ربما تكون هوية في بعض الأحيان؟ الآخر يحبك أن تكون على ما يناسبه؛ موضوع تحريم الوشم كونه اسماً لجسد هو موضوع استيلاء بشر على بشر، فنحن مجتمعات تطفو فوق بحر من الممنوعات، وفي الوقت ذاته تراها أنها ذات مظهر صوفي وباطن إيروتيكي، الوشم عنصر إيروتيكي خلاق وغير عادي؛ وليس رخيصا أو إباحيا؛ الوشم رمز له معنى عميق في الهوية، وهو عمل فني جسدي يمتد في جذوره من بداية الخليقة حتى الآن؛ حتى في منزلك أنت تعلّق نباتات يابسة، هذا عمل إيروتيكي، حتى الطعام وطريقة تذوقنا له هو فعل إيروتيكي، الوشم على الجسد هو ليس دحر رغبات لهذا الجسد، بالعكس هو تعزيز للجسد بلغة جديدة.
الجسد الممنوع

الجسد المسمّى هو جسد موشوم، وله سيمياؤه الخاصة به؛ ليس جسداً معنوياً بلا حضور مادي بل هو جسد فوق طبيعي وعابر للموت والأسئلة، جسد ملغّز، له لغة إيحاء ودائماً لغة الإيحاء هي اللغة الأعلى والأرقى، ومجتمعات الفنون والآداب والثقافة لغتها هي لغة إيحاء قبل كل شيء، وليست لغة مباشرة.
الوشم ليس لغة صورة أو أيقونة بالمعنى الأوروبي ولا هو لغة إيقاع كما هو في البلاد الأفريقية، بل هو لغة علامة تنتشر في آسيا والهند والصين كما تنتشر في العالم العربي الذي احتفى بالخط والحرف والطوطم والرمز وعبّر عنه عبر فنانيه الأميين الأوائل من خلال علاماتٍ على الجسد.
بهذا المعنى يصير الوشم لغة دلالة مثله مثل علامات الترقيم في النص المكتوب، لغة لوحتها الجسد ولونها كدمات زرقاء في الجلد؛ فما يميز الإنسان العربي والشرقي عموماً هو هذا الوشم الذي تحرّمه اليوم نصوص دينية بحجج طبية وصحية وما إلى ذلك من الحجج الرثة؛ فكل فئة من البشر لها ما يميزها عن سواها؛ من دون أن يفصلها أو يعزلها؛ بل هو يطلق بعداً سحرياً للجسد الموشوم.
برأي التشكيلي (طلاع) أن «يترك أصحاب الفتاوى تحريم الوشم وليحرّموا أشياء أخرى مثل الجهل والتخلف والتطرف والقتل؛ فإذا كان الوشم يؤثر على صحة الإنسان وينقل له الأمراض، فجدتي التي كانت مليئة بالوشوم لم تمرض يوماً، بل عاشت أكثر من مئة عام وهي في منتهى الحكمة؛ ولم تعانِ من ألم يذكر، حتى أنها لم تأخذ حبة أسبرين في حياتها، أذكر أنها كانت تكتفي إذا داهمها صداع بربط قليل من وريقات النعناع الأخضر في منديل الرأس».
التعديل الجاري اليوم على الوجه الإنساني سواء في شكل الأنف أو الوجنتين والخدود؛ هو ابتعاد كلي عن معنى الوجه كظاهرة نحتية في الفضاء؛ فما يميز الكائن الإنساني هو العلامات التي خلقها الزمن في وجهه وحفرها بأناة متناهية؛ الآن يبدو أن هذا الاجتياح على صعيد تغيير الوجه وتشويهه بإبر السيليكون وسواها جعل من الجميع رملاً متشابهاً، يشرح أكسم طلاع ويضيف: «حالة الرمل هذه جعلت من وجوه الجميع سواداً بهيمياً؛ فلم يعد هناك اختلاف قطيعي حتى في الشكل؛ وبالتالي أصبحنا أمام ثقافة التشيؤ؛ فلا قيمة لوجه أو جسد في هذا السياق من ملايين المتشابهين والمتشابهات، انظر على التلفزيون وسترى أي وجه اليوم حصلنا عليه؟ هذا الوجه الموديل هو دلالة على مجتمعات تسلخ جلودها؛ تغير ذاتها؛ وتغيير الذات سيفقد البوصلة، هذا الغزو بأدواته الجديدة في التطرف والعسكرة من فوضى خلاّقة وسواها غايتها هي تغيير الذات، بل تحطيمها ومحوها».
في الفن التشكيلي العربي استمر الوشم كعلامة؛ فلا تزال روحية الوشم موجودة عند بعض الفنانين الذين ينحون منحىً المكان، بمعناه الذهني الثقافي الروحي، فليس الوشم هو ذاك الأثر الذي تفعله في جسدك أو وجهك متقصداً إياه؛ الوشم أن تكون أنت كفنان بمثابة الزمن الذي يرسم على وجه هذه العلامة، يضيف طلاع: «بعض الأعمال التشكيلية السورية لا تجد فيها عنصر الزمن طازجاً وراهناً؛ على عكس الوشم الذي يأتي كدلالة على زمن، فاللوحة – الوشم هي لوحة مرت بعدة أجواء وتراكمات وعدة تألقات للفنان، حتى وصل إلى مزاولة عملية وشوم مستمرة؛ ليست مساحة صغيرة أو كبيرة وليست قطعاً أو لوناً».
أكثر الفنانين الرواة للوشوم كان الراحل محمد الوهيبي؛ فهو كما كان يعرف عنه كان شخصاً يعيش في وشم، يبدع طواطم لكل يوم وكل صديق. هذه العلاقة وهذا التفكير هي لشخص كان جزءاً من وشم؛ فثقافة الوشم تكون دائماً عند شخص يملك من الخيال والبصيرة والحكاية الطويلة الممتدة إلى أجيال كثيرة عاشت وماتت تاركةً لنا وشومها؛ فلغة الوشم أبعد في الزمان، لكنها في الوقت ذاته تتحقق بأدوات بسيطة للغاية ومحببة.


الكاتب : سامر محمد اسماعيل

  

بتاريخ : 07/07/2021