أُنطولوجيا الجسد (4)

الجسد أداة مدمرة (تقنية حربية)

 

هو ما يظهر في الحروب التي ينخرط فيها البشر بلا طائل، وقد مرت البشرية بحربين عالميتين ضروس في النصف الأول من القرن العشرين، الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية. حيث كان الإنسان الأوروبي (إنسان الحداثة والعقلانية والتنوير) آلة تدمير بامتياز.
وقد ظهر إنسان هذين الحربين راكضاً وراء أشباحه كأنَّه كائن أحمق وطائش. يركض ليحرق ويدمر تاركاً الأرامل والثكلى والأيتام في شوارع أوروبا. يبدو أن الإنسان إذا أشعل غرائز القطيع والتوحش لن يوقفه سوى الفناء. لا يختلف في هذا مجتمع عن سواه. مما حدا جان بول سارتر إلى طرح سؤال الوجود كنبع أصيلٍّ لحرية الإنسان. الوجود يسبق الماهية أيا كانت، أي ليَعُد الإنسان إلى وجوده كما هو أولاً، ثم ليبحث عما سيكُّونه من مشروعٍ. الإنسان مقذوف وجودي عليه أن يتحمل تبعاته. ومهما تكن المشروعات التي ستحقق جوهر الفرد، فلن تجدي بدون حريةٍ هي لب ماهيته. الوجود كامن في كيانه الجسدي بقدر أصالة الحياة وغرائزها.
الجسد طاقة( آلة عمل): الجسد هو الرصيد العيني لفكرة العمل، فما لم يكن ثمة جسد هو طاقات مختزلة ما كان بإمكاننا تصريفها في صورة أعمال. معنى ذلك أن العمل هو الجانب المختزل داخل الجسد بإدارة الذات نحو المنفعة. لكنه يفترض مورداً اجادت الرأسمالية استغلاله لتحقيق الأرباح وفتح الأسواق.
كانت المقايضة لا تخطئها العين بين القوى العضلية للجسد والقوى الشرائية التي قد يجنيها، ليجيء جعل الجسد ماكينة بشرية تستنزف قدراته تباعاً. وقد نوَّه ماركس أنَّ العمال يبيعون قواهم الجسدية من أجل احتياجاتهم، وأنَّهم بذلك يقعون تحت نير طبقة الرأسمال التي لا ترحم. حيث يراهن الاقتصاد على فائض القوة الجسدية لجني المكاسب التي تهدر عرق الآخرين.
الرأسمالي لدية كل الحيل الممكنة وغير الممكنة في امتلاك الأجساد بواسطة أمرين. أولاً: التحكم في الأسواق وسيولة الأسعار وبالتالي سيثير سيولة الطاقة الجسدية الباحثة احتياجاتها الأولية. ثانياً: اعتبار الاجساد معاول لزيادة ثرواته عن طريق استنفار غرائزها ببدائل لا تتوافر لجميع الناس نظراً لتدني الأجور. سواء من خلال نوعية السلع المادية أو بالاشتغال على إثارة الرغبات وإدارتها لصالح الأغنياء وأصحاب السلطة.
الجسد عارياً( الافقار والعُري ): ظاهرتا الفقر والعُري ( في مجتمعات معاصرة ) مرتبطان بالتقائهما عند مستوى الشهوات. صحيح لا يوجد قانون للأجساد التي يحملها الفقراء وكذلك لأجساد الطبقة الثرية المتمتعة بحياة مرفهة، إلاَّ أنَّ الجسد الفقير العاري من إنسانيته ومن حماية المجتمع هو منشور سياسي لفضح الأنظمة الحاكمة المستبدة. هذه الأنظمة المتخمة بإشباع الغرائز لفئات عُليا، في حين تتلاعب بالفقراء عن طريق الجسد كترمومتر لبسط النفوذ واستهلاك طاقات التحرر واهدار رصيد الحياة.
صناعة الفقر هي صناعة ثقيلة تشغل ماهية الجسد وتربطه بالمجهول حتى الرمق الأخير. وهي صناعة تقول: ليكُّن الجسد هو الآكل لنفسه إنْ لم يجد ما يقتات عليه. وإذا كان ” كل تغير كمي يؤدي إلى تغير كيفي ” بعبارة الماركسية، فتجويع الجسد يطفئ على الأقل جذوة النهوض والحركة. ومع طبع الفقر في طيات الجسد( الفقراء عادة كالأشباح)، فالفقر علامة واضحة للعيان، الفقر يمشي على رجلين في أحرش المدن والقرى والحواري والأزقة.
أغلب المجتمعات العربية تتَّوحل– بهذا المعنى- في العشوائيات السكانية على نواصي المدن وأحزمة القصور والمزارع. إنه عرض الجسد عارياً لكشف لحم الفقراء أمام العيون، أما حالة العُري في الدعارة والشواطئ والنوادي والفنون والدراما والسينما فتكتب رداً على الإفقار المادي بإفقار قيمي( أخلاقي)
ليس ثمة مبرر أخلاقي يلزم الفقير ببيع جسده وعقله وإرادته وحريته لمن يدفع دون أن يشعر بحرية كيانه. حيث يكون الجسد سلعة الأنظمة السياسية وسلعة علب الليل على السواء. إنَّ العري القائم على الفقر هو أقسى أنماط العُري اذلالاً للإنسان، لأنَّه غدا بضاعة مكشوفة أمام الذباب الاجتماعي والسياسي أينما رحلت. والذباب نتيجة فضيحة انكشاف الجسد لمن يشتري سواء أكان ديكتاتوراً سياسياً يتاجر بالعقول وإرادة الشعوب أم راغب متعة يتسَّقط ضحاياه الذين هم ضحايا آلة اقتصادية تدهس الفئات الفقيرة.
الجسد كائناً آلياً( الربوت): ظهر هذا النوع من الجسد نتيجة تخليط التقنيات المتطورة الكترونياً مع الجسد كنسيج بشري. فظهر ما يسمى الإنسان الآلي أو مزيج من الجسد الحي وشرائح الكترونية تؤدي وظائف بعينها مثل التذكر وتغذية الجسم أو زراعة أعضاء مصنَّعة في اللحم الحي. هذا الجسد يشكك في قدرات السلطة التقليدية على بسط نفوذها، فالسلطة لا تظهر وتمارس وظائفها بخفاءٍ، لكن ماذا لو كانت التقنية متغلغلةً فيما هو حي داخلنا؟!
الجسد الآلي ليس خطراً على الجسد البيولوجي، لكنه دوماً يشكل خطراً على السلطة، لأنه يأتي من النقطة الأكثر عماءً بالنسبة إليها. فكيف سيشعر بالخوف من لا يشعر بالحياة مثلاً؟ كيف يميز الجسد الآلي بين هذا وذاك دونما برمجة سالفة التجهيز؟ هذا الوضع يحتاج نمطاً معقداً من السلطة، فالجسد الآلي يحمل سلطته الخاصة إلى أبعد درجة. ويلعب اللعبة ذاتها التي تفرزها السلطة وهي لعبة الوسيط، فلئن كانت السلطة أداة هيمنة ناعمة، فالجسم الآلي وسيط في الفضاء المعمول به. ليضع أية سلطة تقليدية موضع الاستفهام.
الجسد متخيَّلاً( قوة الخيال): هو الجانب المتخيل الذي لا يجري الجسد بدونه. فليس الجسد مادةً حية ثابتة في كل الأحوال، لكنه نزوع نحو التَّوهم بجسد آخر أكثر قبولاً وكمالاً وإدهاشاً. فقد يكون ثمة جسد مشوه، ولكنه لدى صاحبة دائرة مكتملة تؤدي لتلامس السلبي والإيجابي في صورة جميلة. كما أنَّ الرغبات تمد الجسد بشحنات من جنسها على مستوى الخيال. ويغدو موضع القصور موضعاً لإثارة المزيد منها عند حالات العِوُز.
الجسد افتراضياً( سلطة الديجيتال): وهو الجسد غير المحدد والأكثر ذكاء بين جميع أنماط الجسد وتحولاته السابقة. إنّه منظومة رقمية تتوافر لديها إمكانيات تتفلت من السلطة في فضاء المعلوماتية والانفتاح بين البشري والتقني والتجدد المستمر للإمكانيات( التحديث). كما أنَّه يعلن المشاركة الإيجابية في الحياة عبر خلق شبكة من العلاقات العنقودية بين العقول بمقدار توافر الممارسة فائقة الجودة واللياقة.
وليس يكفي للسلطة أنْ تراقب وتتابع وترسم الحدود بيولوجياً، فهذه الأشياء تحديداً هي ما يعمل الجسد الافتراضي على هدمها. لأنَّه نسيج خارج – داخل أشكال الزمان والمكان بمعناهما المألوف، أي هو جسد يدمر الثنائيات الموروثة بما هي ضد الاختراق وأنها القفزات القصوى لمفاهيم كلية. فالأبعاد المنتمية إلى الاثنين لا تنتمي موضوعياً إليهما وإنْ أشارا إلى ذلك. فالزمان والمكان مقولتان ميتافيزيقيتان في تاريخ الفلسفة، أمَّا في الواقع الافتراضي، فيصبح المكان زماناً والزمان مكاناً على أساس أنَّ التشكيل السائل هو الفضاء الأبرز. والجسد الافتراضي بمثابة الإمكانية غير المتصورة لجسد يفعل ما يشاء بحكم قدراته من واقع العالم الذي يسكنه.
الجسد الافتراضي لا يموت لكونه ذاكرة إلكترونية لها نسيجها الخاص حيث يمكن تجديدها. ذاكرة تختزن في تفاصيله مستقبلاً مفتوحاً لم يأت بعد، حتى أنَّه كلما مر بانحنائه زمانية يجدد وضعه خارج ما هو منظور، نستطيع القول بأن الجسد يقاوم موتاً يحتاج مادة لإفنائه. بينما الواقع الافتراضي يكتسب الحيوات تلو الحيوات كاحتمالٍّ لا ينضب، فقوانينه كامنةٌ داخله لا خارجه.


الكاتب : عبد العالي سامي

  

بتاريخ : 06/07/2021