أُنطولوجيا الجسد (8) :أحاديات الجسد القاتلة (2)

 

إن ما يحتاجه الجسد للتودّد إليه، وجعله أكثر قابلية للإفصاح عن تاريخه الشاسع والواسع، هو إنزاله على أرضنا، كوكبنا الذي أُسنِد إليه بنيانه. يعني ذلك أننا مطالَبون بفعل الإنزال لنحسن النظر في أنفسنا كما حدّد لنا، وإلا فإن شرط الإلهية نفسه يكون في حكم الملغى، أي بصدد عمارة الأرض من قبل خليفة الله، حيث لا عمارة بدون إمارة مستقلة تسنح لصاحبها إمكانية تحرك جائزة لمعرفة الجسد بعيداً عن طفرته الملغزة تكوينياً، أو ضلعنته( إن احتكمنا مرجعياً ومن باب المساءلة إلى سفر” التكوين” التوراتي)، وما هو مغموم ويصعب اعتباره نموذجاً يمكن رسمه ولو تخيلياً كما هو مطلوب منا، مما ورد في سورة( البقرة) قرآنياً، فالجسد هو كله، وأن الكلّ الجسديّ هذا يقابل وسع الكرة الأرضية، والذين يتحدثون بلغات مختلفة، ليكونوا متأهلين للبحث في أمر الجسد، ولتعطى إشارة ثمّئذ على أن أمر البدء بالخلافة الإلهية للأرض” الإمارة المقتطعة للإنسان في نموذجه الذي نعرفه حتى الآن، من عموم الإمبراطورية الكونية إلهياً”، وارد وصائر، أن الجسد انفتح على حقيقته أكثر.
نعم، كتِب الكثير في أمر الجسد، ولكن من زوايا متباعدة أو مفككة أوصالها داخل دائرة الجسد أو هندسته، حيث غلبة الجنس ونظراً لخطورته تاريخياً، هي التي استحوذت على ألباب ذوي الثقافة أو الهم الفكري أو فضوليي الجسد الجنسوي، ولعلهم وقعوا في فخ المقدَّم عن الجسد نفسه وقد اُختزِل في سياقه الديني، حيث غلب جانبه الإنسالي وخاصية الشهوة أو اللذة، وسياسة الجسد ذات الصلة باللذة أو الشهوة وميكانيزم التناسل…الخ، على جانبه المورفولوجي العام، أو الجينالوجي، أي نسابته، كما هو المأخوذ عن فرويد خطأ بصدد الموقف من الليبيدو على أنه ليس أكثر من تصوّر جنسيّ للجسد، أنّ الجسد قابل للاعتراف أو البوح بحقيقته من بوابة الجنس الكبرى، وهي ليست أكثر من بوابّة شيطانية، بما أن المسرح الكونيّ للجسد البشريّ نفسه وبدء تاريخه، يقدّم الشيطان على أنه الفاعل في ذلك، لولاه لما كان ما هو عليه الآن، وكأنّ الجنس في لعبته فضيلة شيطانية رغم تجريد الشيطان رمزياً من كل فضيلة، أن تاريخ الجسد ومن خلال ما هو مُضاء، يقترن ببدء غزو الشيطان له وهو في عقر داره الفردوسية السماوية العنوان، كما لو أن الذي يطالَب به الإنسان، هو كيفية إعادة اعتبار للجسد من المدخل نفسه، كيف يتم رفع الغبن عنه، كما لو أن الجسد في مكوّنه الإلهي رهينة هذا القذف خارج السيادة الإلهية، حيث تم خطفه أو اعتقاله والحجر عليه، وأن مهمة البشريّ هي في كيفية إعادته إلى رحمه الكوني: الفردوسي الطابع، أي تحريره ، حيث يؤدّي القائمون بهذه المهمّة دور الاقتحاميين والانتحاريين وردع الشيطان، كما يمكن ملاحظة ذلك من خلال غالبية ما دوّن تاريخياً ومن منظور دينيّ في هذا الإطار، أي أنّ الذي يجب الانهمام به، هو فعل الإله نفسه، رغم أنّ عبارة( كن فيكون) تضع المرء في واجهة حدث يلغي هذا التفريق الموجَّه، أي يكون الجسد في كليته شاملاً للجانبين، وأن الجنس المعتبر بوابته الكبرى بداعي التمثيل وليس التضليل، إلا بالنسبة للذين يمارسون زحزحة للجسد عن موضعه، كما يجري حتى الآن في تيهه التاريخي والكوني، باعتبار تاريخ الإنسان لا يعدو أن يكون تاريخ صراع مع الشيطان، رغم المعرفة الأكيدة على أنّ ثمّة ريموت كونترول إلهيّ العلامة هو الذي يجب النظر فيه، لاستيعاب اللعبة الخَلقية رمزياً، وليس التعامل مع المقروء دينياً على أنه حقيقة فعلية!
إن ما كتبه عمر رضا كحالة، وما أثير في هذا المجال ذي الشأن الجسدي يتحرك على ضفاف المفهوم كثيراً، دون التقليل من أهمية المقدَّم، وأنا أشدد كثيراً على كتابات عبد الكبير الخطيبي، ومالك شبل، وفاطمة المرنيسي، وعبد الوهاب بوحديبة، ونور الدين أفاية، وفتحي سلامة، وسمية نعمان جسوس، ورجاء بن سلامة، وفريد الزاهي…الخ، حيث إن الحديث عن الجسد يدور في نطاق المقدس والمدنّس منه، أو يتركز كثيراً عن لعبة الجنسانية في بناء الجسد، وما يحرّف الجسد عن مساره الطبيعيّ في المجمل، وكيف أنّ الاهتمام بأمر الجسد، يتطلّب توسيع قاعدته، حيث يُنظَر في كينونته خارج المسارات أو الممرّات التي تتقاسم الجسد بين المحظور والمسموح به ذكراً أو تعاملاً، أقول ذلك وأنا أرى أنّ أقرب مثال يوضّح ما أشدّد عليه، ما حاوله محمد أركون بشأن مفهوم العقل في الإسلام ومن خلال تاريخه، كيف جرى ويجري الاعتماد عليه دون حقّ تمثيله كما يجب، وهو هو في الحالات كافّة، حتى في اللحظة المكثّفة التي يشار إلى أنّ العقل ملحق بخارجه: الوحي، إذ يظل العقل نفسه في دور آخر لا ينفصل عنه، والجسد بدوره يمكن تعزيز مكانته، مفهومه، بعيداً أكثر عن هذه الولاءات المقحمة في تاريخه، ولاءات فارضة ومعزَّزة أوامرياً، ثالوثية متوارثة ومحتفى بها كثيراً في العقل الجمعي الممهور بما هو غيبي كثيراً بالمقابل( الدين- الجنس- السلطة)، رغم تفاوت العلاقة بين كل ضلع هنا في المثلث القيمومي، وأننا عندما نبحث عن الكلمة الضائعة إلهياً: الجسد في نطاق مفهومه الواسع، نمارس ما هو مطلوب منا، حتى إزاء السلطة الرمزية المعلقة سماوياً، لحظة تسديد الدَّين التاريخي الذي يظهر أنه مستحيل وفاءً، لأن المقدَّر هو هكذا، ولتكون جدولة الديون الإلهية المقررة دفعة واحدة، إعلاناً مفتوحاً ومعلوماً بنتائجه الكارثية في إبقاء الإنسان رهينة ما ليس له يد فيه، وفي الوقت ذاته ليكون عمله المؤبَّد في مجال محرّف عن مساره: الجنس الممهور بما هو ديني، بينما الجسد الذي هو أمامنا وخلفنا، مقروءنا ومسموعنا، مرسومنا ومحكومنا، سرّينا وعلينا….الخ، على هامش جدول أعمالنا اليومية: الاعتيادية والبحثية وغيرها، كما هو وضع الجسد وهو على هامش اسمه إذ يُشدَّد على بعض منه وليس كله، ومن قبل من يمثّلونه كرموز في التاريخ الشفهي والميثولوجي والديني، وكما هو شأننا بالمقابل ونحن على هامش جسدنا وهو كاشفنا ومدار تفكيرنا وتدبيرنا، عربتنا المتنقلة وحلبتنا المثبتة جهوياً، غربتنا المسجَّلة علينا حيث نؤثَم بها، وحريتنا المذمومة حيث نعرَف بها، وربما ما حاولت القيام به من جهة مكاشفة الجسد باعتباره أكثر من تموقع جنس وفعل جنس ورعائية جنس، في مجمل ما كتبت في هذا، بدءاً من كتابي( الجنس في القرآن)، وانتهاء بـ( وإنما أجسادنا..) حديثاً، يدخل في هذا المعمعان البحثي، دون أن أزعم إطلاقاً إطلاقاً، أن ما أثرته يمثل فتوحات معرفية ممضيٌّ عليها باسمي فقط، إنما هي همي الأكبر فقط!
إن ما يخص الجسد يتطلب فتح حساب متعدد الخانات، تبعاً لثراء الجسد في مكوناته المختلفة، وهي عناصر تكوينه، يحتاج إلى صنافة منتظمة تتعرض له في كل ما يشير إليه بصيغ شتى ونحن في عالم اليوم، حيث الحديث يتركز على ثورة الهندسة الوراثية الموعودة والمنتظَر معلوماتياً، وما يدخل في نطاق الإنسان المعتبَر افتراضياً نفسه، بينما الجسد فهو الوحيد المشكل لنا اعتراضياً، وكل خلافنا أو اختلافنا يكون حوله أو باسمه..
لا بدّ من تعرية الجسد كاملاً لنحسن التمييز بين ما يتلبسه وما يتمترس فيه، وما يكوّنه أصولاً طبيعية، وبالتالي ليكون في وسعنا نحن، تخفيف وطأة الشارد فيه علينا، ونحن حمولته مثلما يكون حاملنا وممثّل أمرنا في آن!


الكاتب : إبراهيم محمود

  

بتاريخ : 12/07/2021