إسبانيا موضوعا علميا متجددا.. الأصول السياسية والاجتماعية للعلاقات المغربية الإسبانية

 

ظلت علاقات المغرب بإسبانيا بالمغرب مجالا مفتوحا للبحث وللتنقيب وللتأمل بالنسبة لباحثي الزمن الراهن، سواء بالضفة المغربية أم بالضفة الإيبيرية. وظل حضور الملفات العالقة بين الدولتين ميسما خاصا طبع أوجه التقارب أو التنافر في علاقاتهما ببعضهما البعض. ولم يقف الأمر عند الدوائر الإعلامية بمختلف مستوياتها وبتعدد مواقعها، بل امتد الأمر ليشمل قطاعات واسعة من الباحثين ومن المؤرخين ومن المهتمين. ونتيجة لذلك، برزت أسماء مغربية وازنة استطاعت تحقيق اختراقات علمية كبيرة حول مختلف منغلقات الموضوع، سلاحها في ذلك عمقها العلمي، وأفقها إعادة تصحيح الصور النمطية المتوارثة عن عقود وعن قرون متواصلة من الحقد الذي أثمر كليشيهات جاهزة كان لها دورها المركزي في التأثير على الذاكرة الجماعية الإسبانية الحالية في علاقتها بالمغرب، هذا «الجار المقلق» حسب التعبير الأثير للعديد من دوائر صنع القرار الإعلامي والسياسي بإسبانيا الحالية.
وفي الضفة المغربية، برزت أسماء أكاديمية اكتست عناصر الاحترام بقدرتها على إعادة مقاربة أزمات الجوار بين الضفتين، ولاؤها في ذلك لأدوات الاشتغال العلمية، ولا شيء غير ذلك. فكانت النتيجة، بروز معالم مسار مغربي متميز، بقوة مادته الوثائقية وبعمقه العلمي الرصين المشتغل على تفكيك خطابات الإكراه الكولونيالي وأذرعه الإيديولوجية التي لازالت توجه المواقف الإسبانية تجاه مجمل القضايا العالقة في علاقات البلدين الجارين، مثلما هو الحال مع ملفات سبتة ومليلية والجزر، والصحراء المغربية، والصيد البحري، والإرهاب، والمخدرات،… لم يعد الموقف العلمي المغربي يستكين للنزوات المواقفية العاطفية السهلة، ولم يعد الموقف العلمي الإسباني يستكين لأحلام التيار اليميني الفرنكوي الذي ظل يمتح منطلقاته الإيديولوجية من مضامين «وصية إيسابيلا الكاثوليكية». وفي المقابل، ظل الموقف «الجديد» يتسلح برؤى متحررة من طابوهات المرحلة الكولونيالية ومن أوهام الإيديولوجية التوسعية ومن أحلام التفوق والهيمنة. فبرزت أسماء، هنا وهناك، استطاعت وضع أسس إجرائية لإعادة تثمين حصيلة «الجوار القاتل»، ولاستشراف آفاق المستقبل، مثلما هو الحال مع أعمال محمد بن عزوز حكيم، وعبد العزيز التمسماني خلوق، وماريا روسا ديمادرياغا، وعبد العزيز السعود، وبوبكر بوهادي، وعبد الواحد أكمير، ومحمد العربي المساري، وعبد المجيد بن جلون، ومصطفى المرون،…
في إطار هذا التوجه العلمي الأصيل، يندرج صدور العمل الجديد للأستاذ يوسف أكمير، مطلع السنة الجارية (2023)، تحت عنوان «الأصول السياسية والاجتماعية للعلاقات المغربية الإسبانية (1875-1912)»، وذلك في ما مجموعه 334 من الصفحات ذات الحجم الكبير. ويقدم الكتاب رؤية أكاديمية رفيعة حول التهابات الملفات الحارقة للعلاقات المغربية الإسبانية، انطلاقا من مقاربة علمية أصيلة، نجحت في تجاوز أحكام القيمة المطلقة المتوارثة حول الموضوع، واستنادا إلى أرصدة وثائقية غميسة. نجح المؤلف -من خلالها- في تقديم نبش قطاعي رصين، هادئ، متريث، لكنه فعال وعميق ومؤسس لنموذج قوي من الأعمال الأكاديمية التي أضحت تنتجها الجامعة المغربية خلال المرحلة الراهنة. لم ينح الأستاذ أكمير نحو ترديد سياقات الوقائع المتداولة داخل الإسطوغرافيات الكلاسيكية المغربية العربية والإسبانية الإيبيرية، ولكنه اختار الطريق الصعب المشتغل على توظيف الحس النقدي التاريخي في تفكيك المادة الوثائقية، وفي تشريح المادة المصدرية، وفي توسيع مفهوم الوثيقة التاريخية، وفي بلورة كتابة تاريخية نسقية متحررة من طابوهات ملف العلاقات المغربية الإسبانية ومن إكراهاته المرتبطة بثقل المرحلة الراهنة.
ولتوضيح الأفق العام للدراسة، يقول يوسف أكمير في كلمته التقديمية: «إن الثقل الذي تكتسيه العلاقات المغربية الإسبانية على المستوى الدولي جعلها محط اهتمام العديد من الكتاب والساسة والباحثين، فضلا عن كون التطورات التي شهدتها الساحة الدولية خلال العقود الأخيرة والسياسات الجديدة التي باتت تتحكم في موازين القوى دفعت أصحاب القرار لتناول آفاق ومستقبل العلاقات المغربية الإسبانية بشمولية ورزانة. إلا أننا وبصرف النظر عن كل توجه إيديولوجي -قد تفرضه الظرفية- يمكن التأكيد على ما تحظى به هذه العلاقات من اهتمام متميز في الأوساط الأكاديمية، ذلك أن الدراسات السوسيولوجية، والأدبية، والتاريخية، والجغرافية حول المغرب وعلاقته بإسبانيا قادتنا إلى الإقرار بأن البحث في هذه العلاقات لا يمكن إلا أن يعتبر حقلا معرفيا مستقلا بذاته. وقد جعلنا من هذا الحقل، الذي يشكل الإطار الجيوسياسي للدراسات التي قمنا بإنجازها فضاء وأساس إشكالية بحثنا التي تتمحور حول العلاقات بين المغرب وإسبانيا في الفترة الممتدة بين سنتي 1875 و1912…» (ص ص. 5-6). وفي ذلك، سعى المؤلف إلى التخلص من أحكام ثقل الماضي ومن جنوح المخيال الجماعي في مقاربة إشكالات الموضوع. يقول بهذا الخصوص: «إن ثنائية الأحاسيس/ المشاعر والانطباعات التي كانت تحوم حول ملف احتلال إسبانيا العسكري للمغرب -ثنائية (التمجيد والرعب)- تعبر في واقع الأمر عن الاضطراب الذي عانى منه الحس الشعبي بإسبانيا خلال هذه المرحلة. فالحماس الوطني الذي أسهم في بلورته انتصار تطوان سنة 1860 لازال حاضرا في المخيال الاجتماعي الإسباني، ولكن ما كان يحد من قيمته هو استحضار ذكريات أولئك المجندين الذين حشدوا وأرسلوا مجبرين إلى كوبا والفلبين للدفاع عن سيادة إسبانيا لينتهي بهم الأمر قتلى على يد المقاومة التحريرية بهذه الأراضي. ففي الوقت الذي كانت فيه الأزمة الاقتصادية الخانقة تغزو جهة الأندلس والمجاعات تطرد سكان إكستريمادورا من أراضيهم، لم تبخل الحكومات الإسبانية عن صرف مئات الملايين في حملتها لاستعمار المغرب… لقد أسعفتنا الممارسة الأكاديمية في تعميق الطروحات السابقة وتعزيزها بمحاور جديدة، فالبحث في أصول الحروب الاستعمارية بالريف وردود فعل حركات المقاومة وأصدائها السياسية والاجتماعية داخل إسبانيا، وموضوع احتلال المغرب من خلال الفكر السياسي الإسباني، هي قضايا مكنتنا من إعداد هذا العمل…» (ص ص. 8-9).
واستجابة لأفق هذه المقاربة العلمية العميقة، حرص المؤلف على توزيع مضامين عمله بين قسمين متكاملين، احتوى أولهما على نتائج دراسته التركيبية، في حين قدم الجزء الثاني سلسلة من الوثائق واللوائح البيبليوغرافية الخاصة بالموضوع. في هذا الإطار، سعى إلى تشخيص وضعية المغرب خلال القرن 19 ومطلع القرن 20، بالتركيز على مظاهر الأزمة الاجتماعية ورد فعل القبائل تجاه الأجانب، ومعالم تبلور سياسة الاستقطاب الأجنبية بالمغرب. وفي المحور الموالي، انتقل لرصد المعالم الكبرى للسياسة الخارجية الإسبانية تجاه المغرب خلال فترة الحكومات الأولى لعودة الملكية بين سنتي 1875 و1888. وفي سياق مواز، اهتم يوسف أكمير بتتبع انعكاسات القضية المغربية على الوضعية السياسية والاجتماعية بإسبانيا خلال مرحلة ما بين سنتي 1898 و1905، عبر استعراض مواقف مختلف الفرقاء، وعلى رأسهم التيار الليبرالي، والتيار المحافظ، والتيار الجمهوري، والتيار الاشتراكي، والكنيسة الفرنثيسكانية، ثم المؤسسة العسكرية، والتيار الأناركي/ الفوضوي. وللاقتراب من الملفات الملتهبة في سياسة إسبانيا تجاه المغرب، اهتم يوسف أكمير بتدقيق النظر في قضايا حاسمة في توجيه علاقة الدولتين ببعضهما البعض من خلال امتداداتها وتبعاتها داخل اللحظة الراهنة، مثل مؤتمر الجزيرة الخضراء لسنة 1906، وتبلور الأطماع الاستعمارية الإسبانية بالصحراء المغربية.
وبروحه العلمية الرصينة، انفتح يوسف أكمير على سلسلة هائلة من الوثائق الدفينة بالمغرب وبإسبانيا، وعلى الكتابات الصحافية للمرحلة، إلى جانب الأعمال القطاعية المتعددة المنطلقات والآفاق العلمية بالبلدين الجارين. وعلى أساس مضامين المادة الوثائقية والمظان التصنيفية، أمكن بلورة مقاربة علمية مجددة أثمرت دراسة محترمة تستحق أن تصنف ضمن أهم الإصدارات العلمية الوطنية المتخصصة في رصد تحولات العلاقات المغربية الإسبانية المعاصرة. تفتح هذا الدراسة المجال واسعا من أجل استكمال حلقات البحث المتداخلة، بشكل يُؤسس لتحقيق شروك التصالح التاريخي بين الذاكرتين الجماعية والنقدية، بالمغرب كما في إسبانيا.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 24/06/2023