إيقاعات الرغبة في لوحات الحسين إيلان

0

نشعر دائما بالرغبة في الحديث عن الفن عموما كلّما كنّا أمام عملأومجموعة أعمال فنية، مادامت الوحدة المكوّنة لهذه الأخيرة تقترح علينا بشكل أو بآخر تعريفا مخصوصا للفن ذاته؛ فالعمل الفني في الواقع هو أكثر من مجرّد موادٍّ (أصوات،ألوان،أشياء …) تُعطى إلى حواسنا،إذ هو تركيبٌ وتناغمٌ، أو إيقاع مقترح على هذه المواد يُعطى إلى تأملاتنا وأفكارنا ولغتنا. ولذلك؛ فنحن في الواقع لا نستهلك الأعمال الفنية،وإنما نتأملها ونفكر فيها ما دمنا نشعر بالحاجة إلى التحدّث عنها مع الذين شاهدوها أو سمعوها، ومع أولئك الذين لم يفعلوا ذلك بعد.
هكذا تستضيفنا الأعمال الفنية إلى إنجاز نوعٍ فريدٍ من الترحُّل أو الحركة، بحيث تسير بنا من عالم الأشياء إلى عالم الأفكار، ومن الدائرة الضيقة للتأمل الفردي إلى العالم الفسيح للكلام الجماعي، على النحو نفسه الذي يُحرِّك به الفنان الأشياء من عالم المواد المتناثرة إلى عالم الروح عندما يزرعها في حياة الأفكار، كما يُحرِّك الأفكار من عالم التجريد إلى عالم الحسِّ عندما يزرعها في «حياة»المادة.
ها نحن نجد أنفسنا نعجز عن غضّ الطرف عن كون العمل الفني يبقى في النهاية مسألة حركة وليس مسألة ثبات (حياة وليس موت). فمهما كانت اللوحة ثابتة وغير متحركة، فإنها لا تفعل غير السفر بنا إلى عالم الحركة وإلى ديناميكا الحياة بما أن الفن في أرقى صوره يفتحنا على عالم الحياه الغامض؛لأنه غامض مثلها وساحر ومنفلت. فكيف تدعونا أعمال إيلان، المسماة «إيقاع الرغبة» إلى تأمل هذه الحركة؟
ما يثير الانتباه في المعارض التي أقامها إيلان هو عناوينها (رياض الجسد، محاق الراغبات، دليل الغواية، الثقافـ(ف)ة، والآن: إيقاع الرغبة)؛ إذ مدارها كلّها على تيمة واحدة هي «الرغبة». وهو لا يدعونا إلى النظر إليها إلا من خلال إطارٍ مثلَّثٍ يبعدنا عن المستطيل أو المربع الذي يمثِّل الوجه التقليدي للّوحة. لقد قرر إيلان إسقاط أحد الأضلاع الأربعة، ومن هذا الضلع الساقط تخرج لوحاته مثلما خرجت حواء من ضلع أعوج حسب ما تقول القصة.
إن ألاعيب الرغبة هي نفسها الوضعيات المختلفة لمثلثات إيلان؛ فأحيانا تتوجه إحدى زوايا الإطار نحو الأعلى فيذكِّرنا ذلك بالنزعة المثالية، التي لا تنظر إلا إلى السماء وأحلامها، وأحيانا تتوجّه الزاوية إلى الأسفل فتذكِّرنا بضرورة النظر إلى الأرض وإلى مُتعها. وليس المثلث مجرد لعبة، وإنما هو إيقاعُ اللوحة ورقصةُ التانغو التي تمسك بها ريشات الصباغة فتعيد نثرها على القماش. إنه يمكِّن أضلاعه الثلاثة من تجميع ألوان التراب المختلفة، وقليلا من الألوان الفرِحة، وخطوطًا سوداء وبيضاء، قلقة أحيانا ومستقيمة أحيانا أخرى متّخذة هيأة أسهمٍ تشبه ذكورةً منسيةً تريد إثبات ذاتها. وأحيانًا تظهر هذه الخطوط فجأة وهي حمراء وذات التواءات، فتذكرنا بكلّ الانفلاتات التي تنجزها الرغبات.وإلى جانبها تحضر دائما نهود شديدة الاستدارة، وكأنها قباب، وهي الموتيف التعبيري الذي لم يتخلَّ عنه إيلان قط بحيث يُصرُّ على جعلنا ننظر إليه وإلى كلّ ما يثيره فينا من أحاسيسَ تختلط فيها العفّة بالشبق على نحوٍ غريب ! وإذا تأملنا جيدا سنكتشف أن الخطوط والنهود تضع داخل إيقاع اللوحة شيئًا شبيها بمعمار منسي هو ذاته معمار الصحراء(وهل في الصحراء توجد عمارة !). ها هنا نشعر بنوع من الغموض نابع من لقاء صعب تنجزه لوحات إيلان بين العمارة(المنسية) بوصفها تعبيرا عن الجماعة، وبين الصباغة (اللوحة) بوصفها تعبيرا عن ذاتية الفنان. فهل يتكلّم إيلان باسمه الخاص أم الحضارة التي ينتمي إليها هي من يتكلم من خلاله (وعبر لوحاته)؟
لننتبه إلى أن «إيقاعات الرغبة» ليست تشخيصية، بل تجريديةٌ مع كل ما يحمله الفن التجريدي من مغامرة فنية داخل ثقافه مرَّت مباشرة من «الحروفية»(Calligraphie) إلى الفن التجريدي دون أن تُطوِّر الصباغة التشخصية تطويرا كافيا؛ لقد مرّت من غموض «الحروفية»-التي أرادت حجب الإله عن الأعين المتلصِّصة-إلى غموض الفن التجريدي الذي يعترض على النظرة التي تجعل اللوحة تعبيرا عن معنى أو فكرة، وكأنه يعترض على الهيمنة التي يريد العقل ممارستها على الوجدان؛ ولذلك يذهب الفن التجريدي بأعيننا إلى المناطق القصية للتفكير، ويُسرُّ إلينا بأن «المعنى»هاربٌ وغيرُ واضحٍ وبأنه مجرّد استثناء داخل عالم اللامعنى. ويبدو أن الإصرار على «اللامعنى»و»الإبهام» لا يدلُّ إلا على أن «المعنى» يظل هو مكبوت «اللامعنى» على النحو نفسه الذي يكون فيه الفن التشخيصي هو مكبوت الفن التجريدي.
لا تقترح علينا»إيقاعات الرغبة» تأمل «صباغةٍ تجريدية»بقدر ما تدعونا إلى رؤية حركة الرغبة وإيقاعها بـ «نظره تجريدية» بحيث يفصح غموض اللوحات عن عالم الناس الغامض، الذي فقدت فيه الأجساد حياتها وتكلَّست؛ فصارت مثل معمار منسي في أرض مقفرة قاحلة أصابها الجذب، وغادرها الخصب، وتحوّلت فيها الرغبة إلى أمر يثقل على كاهل أهلها. ولذلك؛ لا شيء يحل محلّ الفن في تذكيرنا بالحياة التي نحيا، والتي تحركنا فيها رغباتنا نحو إثبات كياننا. كما أن الفن التجريدي ليس هروبا من الواقع، وإنما هو مقاومةٌ لليأس وانتصارٌ على عالم فقد حركته وأراد إقناع الناس بأنه أقوى منهم.


الكاتب : حسن الوفاء

  

بتاريخ : 02/03/2022