احتفالية فيلسوف بجرح الكائن

 

يبدو لنا حين قراءة كتابات الفيلسوف المغربي عبد السلام بن عبد العالي أننا في قلب الفلسفة، بما هي مضادة للبداهة، والتنميط، والأحكام المعيارية، وما إلى ذلك. وكأنه يتكلم الفلسفة، وينتقل بين دروبها المتعددة، لا للبحث عن المعنى والحقيقة. وإنما لتقويضهما وخلق مسارات أخرى في النظر الفلسفي اليوم، فهو من منطلق المؤسسة الأكاديمية خارج الفلسفة حسب التقليد الذي توارثناه – في المغرب على الأقل – يكون دارس الفلسفة ومدرسها يبني الحدود، ويتفحص الاتصال، ويبحث عن المفهوم، ويؤسس لذاته مكانة داخل المؤسسة التي يتكلم داخلها. إنه خارج هذا وذاك. فهو لا يصدر كتبا تعليمية ولا يبحث في قضايا فلسفية بعينها بقدر ما يهدم تلك الحدود ويؤزِّمها، منطلقا من النبش على ما وراء الحدود، أو بالأحرى على تخومها التي يتوطنها الصمت والفراغ. هذا ليس مخصوصا في كتاباته الشذرية الجديدة بقدر ما نجده في دراساته الأولى حول الفارابي، أو حول الفلسفة المعاصرة ربما لأن أستاذنا حدد منطلقه الأول في هذا الذي يسميه بين – بين، ولم يتعامل مع تاريخ الفلسفة من حيث هو تاريخ متصل، ولا في جمع المعلومات وإعادة تقييدها ترجمة وتفسيرا بل البحث في الانفصال، وخرق المتواضع حوله، والنبش في المفهوم عبر ترحاله من مجال إلى آخر. أليس هذا خلخلة للمؤسسة الأكاديمية، وزعزعة لنظامها العام، والذي تكون فيها الكتابة مرآة من مراياها، وكذلك في الترسيمات التي أحدثتها بين الفلسفة والأدب والعلوم الإنسانية والتصوير والإعلام…
إن قراءة هذا الفيلسوف تجعلك تعيد حساب أصابعك حتى لا تطير، أو تتشابك مع أصابع أخرى لشخص آخر. فهو لا يتلفك، ولا حتى يبعدك من إتمام قراءته، وإنما في خلق متعة خاصة. يدفعك من حيث لا تدري لمشاركته في أسئلته، والأسئلة التي تتولد منها، فالمتعة هنا تحيل على الأسلوب من حيث هو رقص لا حدود فيه. الجمل القصيرة ذات بروق متعددة تدفع قارئها نحو متابعتها، والتمعن فيها بشكل ومضي حتى لايصاب بالعمى، كتابة مضاعفة تروم في بعدها الأخير كتابات أخرى. بمعنى « إن أي شذرة ومضية تفترض كتابا مستقلا « هذا ما يجعلني أكون مرتكبا حين الوقوف على جملة واحدة قد تكون استهلالا، أو شذرة ملغزة، عامرة بالمقالب والألغام، كل لغم يدور على قارئه، ولا يستطيع الفكاك منه، إلا حين ينفجر عليه حد الدوخة الكبرى. كتابات بنعبد العالي إذن لا تقدم المعلومة، ولا الدليل، ولا المعنى، وإنما تندفع نحو تفكيك هذا كله، مقترحا على قارئه المفاتيح الرئيسة لتجريبها في مواقع أخرى، كتابة يمتزج فيها الفلسفي بالأدبي وبينهما تكون الصورة، والشعر، وعلم الاجتماع، والتحليل النفسي، والتصوير، وأسئلة الراهن العالمي وما سواها، كل ذلك معجون بخلطة فنان مجنون بالكلمة، ورحالة يجوب العالم بدون اتجاه محدد. إنه يفكر خارج الاتجاه، ويبني لكتابته أرضا جديدة بعيدة عن ما تعودناه، ورُبِّينا عليه مثلما يستضيف قراءه إلى عوالمه الجديدة دون أن يفرض عليهم حدود القراءة والتأويل، ولا حتى الانتقال من اليمين إلى اليسار، أو من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة. إنه يحررك مما تلقيته من المؤسسة المدرسية. لذا قلنا إن شذرة من شذراته يتوقف قارئها زمنا طويلا ولا يستطيع الفكاك منه، وكأنها سكنتك وتركت فيك جرح الكائن..
كلما قرأت كتابات الفيلسوف بنعبد العالي وجدت نفسي بين – بين، وفسحت لي تلك القراءة الإنصات للصمت والفراغ، وفتحت لي أفقا للكتابة، وإعادة الأسئلة الحارقة في زمننا، والاندفاع القوي نحو مقاومة البلاهة والراهن، وصكوك الكذب المدمر، والمحجوب بين عيوننا. فالتفكير الفلسفي عنده لا يهادن، ولا يستسلم لزمن التنميط والتقليد، والتفاهة.. بقدر ما يضع الأسئلة حولها والبحث عما تحجبه إواليات السلطة، وما تختزنه من حقائق. إنه بالجملة يتحدث مع قرائه بمرح عن نظيره عبر ترحاله الممتع من أفلاطون إلى الغزالي، ومن القديس أوغسطين إلى ميلان كونديرا، ومن نيتشه إلى دولوز، وبين هذا وذاك يتجول في العمق الذي يشكل فصلا، مثلما يقيم حرب عصابات في رحلته تلك في سبيل توليد الأسئلة. قد يقول قراء فيلسوفنا إنه يكرر القضايا التي يطرقها في كتاباته، وربما لهم جانب من الصحة في ذلك إذا نظروا إلى المسألة بعين معجمي. لو أحصينا الكلمات والموضوعات والمفاهيم التي ينشغل بها، لوجدنا هذا التكرار لكن الشيء الذي لا يصفونه في قلب قراءتهم، هو أن بنعبد العالي يجدد النظر إلى تلك الموضوعات في كل لحظة كما لو كان مبحرا في عوالمه ـ أو بالأحرى رحالة يكشف في كل مرة عالما تقدم نحوه.
فالموضوعات التي يطرقها في راهننا العربي والعالمي مازالت هامشا في الدراسات الفلسفية، وهو لذلك ينظر إليها في كل لحظة بعيون أخرى، وهذا ما يجعله منخرطا في « ضد الراهن» مادام هذا الأخير يزداد وضوحا، وما انفكت قضاياه مطروحة في الطريق. فهو ليس مؤرخا للفلسفة ولا تابعا لمقتضيات المؤسسة، وإنما هو خارجها. ما انفك يمارس رقصة الصامبا، ومشغولا بحرب العصابات الفكرية. لكننا مع هذا وذاك تظل كتاباته ملقاة في الصمت والفراغ، وبالجملة فهي كتابات تبحث عن قراء جدد مكتوين بترحال النِّفري ونيتشه وفلسفة الاختلاف. هكذا يخرج بنعبد العالي من جوقة المؤسسة دون أن ينتبه إليه أحد، أي دون إعلان ذلك في الإعلام والصحافة. إنه سليل سلالة الظل. ربما إن جوقة الأساتذة تعودوا المحافظة على الإرث المدرسي، ولم يستطيعوا الخروج منه. لذا يظل مفكرنا خارج الضوء والعتمة، غير آبه بما تقوله المؤسسة، بقدر ما ينفلت من أغلالها كي يفكر بصفاء المرتحل الذي يجوب الأمكنة في اللامكان.
يبدو أن عبد السلام بنعبد العالي يختار عناوين كتبه بذكاء «لمْعَلم» ولأن العنوان عتبة رئيسة يستقطب قارئه، ويضلله بحرفية فارقة. هو إذن يشاغب القراء، حتى أن البعض منهم اعتبر هذا الكتاب رواية. الجرح يفترض طبيبا كي يداويه، إلا أنه يظل مفتوحا على المستوى الأنطولوجي، وهو بصيغة أخرى يكون حَرَجا. يحرج صاحبه في قول ما لا ينقال، والحديث عما تواضع الجميع أنه لا يدخل ضمن القضايا الكبرى. هنا ينفتح جرح/ حرج مفكرنا، ومردهما هو التردد والارتياب والتوجس. يقول في الصفحة 66: « توحد الحداثة بين الفكر والنقد، فتجعل من التوجس والارتياب بنية معرفية، ومن الجرح إحدى سمات الوجود «، وفي الصفحة 51 « لم أعد أقوى على إخفاء ترددي، بل حرجي في بعض الأحيان « إذا قمنا بتوليف بين الصفحتين، فإننا نتحصل على التردد والارتياب طريقين للانفلات من المغلق والرتابة والتشخيص، لذا يبقى الجرح مفتوحا لا يقبل الإندمال، وهو جرح أنطولوجي مفتوح على الدوام، يحوي الأسئلة المخلخلة للنظام والدوكسا، إنه جرح يحرج الكائن في ترحاله المتجدد، والخاضع لانفلاتات المرتحل ضدا على الراهن.
« جرح الكائن « يفتح لنا أفقا جديدا نحو معرفة مرحة، يكون فيها المشي بوصلة لتفكيك مقالب الفكر في التاريخ، والسياسة في الإعلام..
يدخل الكائن إلى جغرافيا ملغزة أسلوبا وكتابة وموضوعات، فالجرح لا يقبل التشخيص الطبي مثلا، وكأن الطبيب يحدد بدقة موضع الجرح وطريق علاجه، وهذا غير مطروح بين دفتي هذا الكتاب. فصاحبه لا يمحور كتابه ضمن موضوعة بعينها، بقدر ما ينتقل من موضوعة إلى أخرى. بعد انتهائه من واحدة يترك قارئه بين – بين، ثم يقوم بتحريره من الوسط ويدفعه إلى تخوم المعنى، أو إلى اللامكان. في كل مرة يخال أن مفكرنا يكتب ساخرا من الجميع، من الورقة، والقلم، وما بينهما، وكأن الجرح لا يكتب إلا حين يدفن الكائن التقليد، واللافكر في مكان قصي، وهذا لايتم – في نظرنا- إلا بالمشي، والتفكير بكل الحواس. فصاحب «جرح الكائن» لا يحمل قراءه نحو التوافق والتواضع معه، وإنما تندفع كتاباته نحو الخصام، والتردد والانفصال والاختلاف، وقد أجزم القول بكون مفكرنا دائم الخصام مع كتاباته قبل وبعد إنزالها إلى العموم، هذا ما يعطي لجمله القصيرة المعنى في الخفاء والتجلي. قد نحيل هنا على كتابات ما فتئ يذكرها كنيتشه وهيدغر وموريس بلانشو وابن عربي وابن رشد وميلان كونديرا وعبد الفتاح كيليطو وغيرهم، فهو لا يقدم هؤلاء كشهود على جرح الكائن، بل في الخصام الدائم معهم. ربما لأن الخصام يولد المحبة، وحتى إن ولدها فالجرح يبقى غير مندمل إلى ما لانهاية.
لا يتحدد جرح الكائن إلا من استراتيجية، دأب مفكرنا على فلاحتها في جميع أعماله تقريبا، وهو ما انفك يعلنها منتصرا للحداثة، وما بعدها، يقول في الصفحة 10 « ليست الغاية من إثبات الانفصال تفتيت الهوية وإنما جعلها حركة وليس سكونا، خطا وليس نقطة، هجرة وليس عمارة، نسيانا وليس ذاكرة، تعددا وليس وحدة، اختلافا وليس تطابقا..» وفق هذه الترسيمة يقرأ موضوعاته مرتحلا ضمنها، باحثا عن العمق من السطح، وعن السطح في العمق، عن الظهور في الخفاء، والخفاء في الظهور، بين هذا وذاك، يكون الترحال ممكنا لا لجر الأول في الثاني، ولا إنكارا للواحد للآخر، وإنما في الذهاب والإياب في حدوده اللانهائية كما الجرح تماما ولأن الكتاب عامر بموضوعات متعددة. إلا أن ثمة رابط ينتظم فيه جرح الكائن، وهو الفلسفة التي لا تركن في التاريخ، ولا تندفع نحو الأسماء ولا حتى البحث في المعاني المخبوءة في التاريخ. لكنها تحيل على مقاومة الأصنام التي خلدتها فيه، فالفلسفة ترحال وليست زوغانا وتيها. إنها «… تتصدى لهذه الأسطرة»، والأسطرة الذاتية قبل كل شيء، لفضح لعبة توليد المعاني وسعيها نحو الترسيخ، ومقاومة للبلاهة، وانفصالا عن الدوكسا، وفضحا للأوثان الفكرية، ووقوفا ضد الراهن»…
لا غرابة إذن أن تكون مهمة الفلسفة إزعاجا للدوكسا، واللافكر، والبلاهة والتجليات المحدثة في الإعلام والسياسة وشبكات التواصل..
بكثير من المكر ينقلنا بنعبد العالي من مكان إلى آخر، من المثقف، والفيلسوف، إلى الخبير، والخبير الممتاز، ولعل النظر البرقي في القنوات التلفزية العربية يظهر لنا هذا الخبير بالألوان ويقدم معرفته التقنية كأنها صنم جديد، إلى حد أن أضحى الخبير ماركة مسجلة في الإعلام الدولي، ولأن التقنية لا تفكر كما يقول هيدغر، فإن هذا اللافكر بدأ يترسخ في الوعي واللاوعي الجماعيين، وبالنتيجة ستفتح العولمة قبورا لكل المزعجين لنظامها، كالفيلسوف والشاعر والمثقف والأستاذ والحلم.. يبدو أن مهمة الفلسفة اليوم هي مقاومة هذا اللافكر، من حيث هو فكر يبني حدوده ويتسع باتساع الجغرافيا.
ذلك «أن اللافكر قدرة جبارة على التشابه Simulation لزرع وهم التشابه وخلق الشبهات، وهو ما يجعل الأمور تعمل وتبدو «كما لو..»، إنه مسرحية للحياة وفرجة مؤسسة « ص 132. ألا تشكل البلاهة اليوم مسرحة للفرجة الكونية؟ ألا تقدم على شاشة التلفزيون والوسائط الأخرى للعموم؟ ثم إنها تنتج الشبهة والشبيه، وتعلي من اللون الرمادي من حيث هو لون مرغوب فيه اجتماعيا وسياسيا وثقافيا، لكن الأستاذ بنعبد العالي لا يتحدث عن البلاهة بتوصيفاتها المتعددة وإنما يخلخل السلطات الثاوية خلفها، ويفكك تجلياتها الفرجوية، متسلحا بمطرقة نيتشه التي تشتت الموضوعة إلى جزئياتها الصغيرة، وإلى أصغر جزئياتها. من هنا تتجدد البلاهة، وتتحول من زاوية نظر إلى أخرى، هذه هي القيمة المائزة في فكر صاحبنا، قيمة تنكشف في الإشارة التي لا يعلنها، وتنفضح حين تعرية السلطات الثاوية خلفها، مادام جرح الكائن لن يندمل في المستقبل، ومادامت البلاهة تتسلطن، وتتسرطن في كل شيء، حتى ولو أصبحت فكرا يتجذر في الأرض. فهو – من خلال كتاباته هذه – يجابهها بأسئلته المزعجة والمزلزلة. مثلما قام بها ثلة من المفكرين والفلاسفة والأدباء مثل نيتشه، الذي يرى في الفلسفة إزعاجا ومقاومة للبلاهة Nuivie à la bêtise. غير أن هذا اللافكر لم يعد محصورا في تاريخ الفكر، ولا حتى في تاريخ البلاهة. بل في كون هذه الأخيرة تسكننا، ونتشرب من تجلياتها المتعددة والتي تضع الجميع ضد الجميع في فرجة كبيرة ولافتة. بهذا المعنى يضيف بنعد العالي هذا إلى نداء نيتشه، وكأن الأول لاحظ تسلطن وتسرطن البلاهة في كل شيء. من خلال هذا النداء لا يدعي مفكرنا خلق مريدين وأتباع لإزعاج التفاهة، بقدر ما يدفع بقرائه إزعاج التفاهة التي يركنون فيها، وإشراكهم في الأسئلة المزعجة للذات والآخر. فالبلاهة أضحت اليوم أخطر من الجهل والأمية، وأصعب من مرض فتاك. إنها اليوم الموسيقى التي تجعل الجميع يتفاعل معها رقصا، وانجذابا، حيث لا تمكننا من حسن الإنصات، وتفعيل الحواس النائمة، وخلخلة الصمت الذي يسكن الفراغ، هذا الفراغ اللامقروء في تاريخ الفكر لم يتح إلا حديثا مع موريس بلانشو وغيره. عادة ما نقول بلغة أرسطو إن الطبيعة لا تقبل الفراغ، حتى أضحت هذه العبارة سائدة بشكل كبير.
لا غرو إذن أن يقدم لنا الفيلسوف بنعبد العالي بنوع من الاحتفالية الباذخة موضوعة الفراغ، والصمت، والبياض، وهي موضوعات تحضر عند دارسي الأدب، عبر الافتتان بفراغات وبياضات النص الأدبي، وما انفك هذا الضجيج حول الفراغ كشكل من أشكال الامتلاء، أو بلغة أخرى ملؤه كي يتملكه الناقد بين قوسين. إلا أن احتفالية مفكرنا بالفراغ، والذي قدمه باستهلالات ذكية من الفلسفة الطاوية، يحيل على الامتلاء، وهذا لا يعني التضاد والتقابل بينهما، بقدر ما يستلزم الواحد الآخر أنطولوجيا. لم يعد الفراغ سوى مسكن الوجود، وهو أكثر من ذلك. « حركة مخالفة للامتلاء (لا نقول ضد الامتلاء) غدا ذاتيا، مخالفا للذكرى (والماضي والأب)، وعصابيا للتكرار والاجترار، واجتماعيا للرتابة والروتين، ووجوديا مخالفا للهويات المتحجرة، وزمانيا مخالفا للجمود وتكلس الماضي، وإيديولوجيا للدوكسا والتقليد… الفراغ هو ما يكرس الاختلاف والانفصال والتجدد والتعدد… والتحديث» بهذا المعنى لم تعد الطبيعة تخشى الفراغ، بل أضحت تعشقه وتتقرب إليه، وبهذا المعنى كذلك أضحى الفراغ مقياسا نقيس به الموجود، أو هو بالأحرى لباس جرح الكائن وقناعه الشفاف.
ثمة موضوعة أخرى ينجذب لها الجميع لفتنتها، والمآلات التي تفتحها والمصائر التي تشق الدروب الملتوية. إنها موضوعة الصمت، هذا الأخير الذي ربينا عليه منذ البداية. مرة يكون فيها الصمت من ذهب، ومرة يكون نجاة من مصيدة الكلام. فكل القيم الأخلاقية والمعيارية التي بنيت على الصمت تنهار دفعة واحدة أمام فيلسوفنا وفلاسفة آخرين، فهو ليس ضد الكلام، وليس مرادفا للسكوت.
فهذا الأخير يفيد العنف، وهو ظاهر في يومياتنا المدرسية والأسرية، إلا أن الصمت ليس هذا وذاك. فهو ليس مقابلا ضديا للكلام. إنه هو وقد أضحى صمتا. إنه جزء من الكلام، لا بالإحالة التوصيفية على الموسيقى وإنما في البلاغة التي يتمتع بها، يقول في الصفحة 118 «للصمت بلاغة قد تضاهي أو تفوق في بعض الأحيان بلاغة الكلام. فغيا**** بالكلام يترك المجال، في بعض الأحيان، لم****** يدمن المعنى». يمكننا القول أن الصمت يتكلم، أو هو الموضوعة المستفزة للمكتوي بالفلسفة. ليس بمعنى أن الفيلسوف يخلد إلى الصمت في زمن البهامة*** بل في جعل الصمت محاورا مشاكسا للذات والآخر معا.
لا أظن أني انتهيت من هذا الكتاب، ويخال لي أني لم أبدأ قراءته بعد، ولأن لأي بداية نهاية، فإني مجبر على إنهاء مقالي هذا، لو كان لي متسع من الوقت لكتبت كتابا آخر، وكأني بذلك أقترض دينا من صاحب «جرح الكائن»، والدين له مقتضيات متحكمة بين الجرح والكائن. بين جرح الفيلسوف وأنا الكائن الذي يبتغي اجتراح الأسئلة على الأسئلة، والكتابة على الكتابة. هذا متروك للقادم من الأيام، وكأن لعبة الدين هي للجرح الذي يظل كذلك حتى وإن اندمل. ننتهي من الكتاب لنفكر في موضوعاته التي لا تنتهي. لا أقول استفدت من جرح الكائن بقدر ما إنه مستفز بأسئلته، وبالمتاهة التي أدخلني إليها، كما لو كنت أدور في دائرة لا تعرف البداية إلا في النهاية، والعكس صحيح تماما.
في كل وقفة من الدائرة يبدو الجرح ملتصقا بالكائن، ويكون الجرح علامة القارئ. وحتى إن وضعت هذه الأوراق جانبا وفكرت في الكتابة عنه، فإني سأتناول موضوعات أخرى، وأجترح أسئلة أخرى غير تلك الموضوعات والأسئلة التي اخترتها في الأول. وكأن كل اختيار هو إلغاء كما يقول أندري جيد. جرح الكائن كتاب ملتهب بالمتعة الفارقة، ولأنه كذلك فهو متروك في الطرقات لإعادة قراءته وقراءته، وفي كل قراءة أقف عند التخوم باحثا عن اللامكان واللافكر والصمت، والفراغ، والبلاهة، والكتابة، والترجمة، والفلسفة…

كاتب وباحث مغربي
عبد السلام بتعبد العالي، جرح الكائن، دار توبقال، المغرب، 2018.


الكاتب : حسن إغلان