استبيحت فضاءاتها و«أعدمت» تجهيزاتها: «مردوخ» .. شيخوخة حديقة تعيش «أرذل العمر» بسبب الإهمال

تعتبر حديقة «مردوخ» التي رأت النور في 1907 وأُطلق عليها اسم «الإسيسكو» في 9 أكتوبر 1987، والتي عرفت إعادة التهيئة سنة 2006، إحدى معالم مدينة الدارالبيضاء الأساسية، إذ لا يمكن الحديث عن العاصمة الاقتصادية دون ذكر هذه «المعلمة البيئية»، فالأمر لا يتعلق بمجرد فضاء أخضر وإنما بإرث تاريخي يشهد على تطور المدينة عموما ومنطقة درب السلطان خصوصا، وهي التي جاء موقعها محاذيا للقصر الملكي ولمنطقة الأحباس التاريخية بتعددها وغناها العمراني والحرفي والفني وغير ذلك، التابعة ترابيا لمقاطعة مرس السلطان والمجاورة للتراب المجالي لمقاطعة سيدي بليوط، على بعد أمتار من مرس السلطان ومن المدارة، حيث يلتقي شارع المقاومة بشارع الزرقطوني، وحيث تنتصب الكاتدرائية الرومانية الكاثوليكية سيدة لورد أو «نوتردام» التي تم تشييدها سنة 1954.
«مردوخ» أكبر من مجرد حديقة في ذاكرة البيضاويين، فقد ظلت على امتداد سنوات طويلة مقصدا للراغبين في التنزه وفي ممارسة رياضة المشي أو الجري الخفيف، ولمحبي الجلسات الهادئة، والساعين لمعانقة ظلال النخيل والأشجار بأغصانها الوارفة، والمتطلعين لاستنشاق رائحة الأزهار الطيبة والزكية، ولعشاق القراءة وسط زقزقة العصافير المغرّدة، وكذلك للتلاميذ والطلبة من أجل الاستعداد لمختلف الامتحانات والمحطات الدراسية. فضاء كان يكتسي حلّة بهية، عبارة عن لوحة متناسقة الألوان، هي عنوان على كل إبداع، تسحر العيون والألباب، تزرع الطمأنينة في القلوب وتضفي السكينة على النفوس، وهو ما جعل الكثير من المتضايقين في حالات نفسية مختلفة يحجّون إليها للاختلاء بالذات واستعادة الصفاء وإزالة كل توتر.
هكذا كان هذا الفضاء، ملاذا لمواطنين من مختلف الشرائح والفئات، الاجتماعية والعمرية، مغاربة وأجانب، الذي، وبكل أسف، يعيش اليوم حالة من التردّي والفوضى والإهمال غير المبرّر، بالنظر إلى أن «مردوخ» الحديقة لا الشخص، الذي تمت تسميتها على اسمه في البداية، لم تسترد عافيتها ورونقها، وأريد لها أن تشيخ وتعتل وإن كان بالإمكان أن تحافظ على شبابها ونظارتها، وأن يظل جمالها الأخاذ حاضرا، بالرغم من بعض التدخلات بين الفينة والأخرى، وضدا على حضور مكلفين بالحراسة مؤخرا وبعض العمال، الذين يبذلون، في إطار ما توفر لهم من إمكانيات، جهودا كي تكون مقبولة في عيون معجبيها، ولو تطلّب الأمر وضع «مساحيق للتجميل» محدودة الفعالية!
في «مردوخ»، لم يعد بإمكان المسنّة والشيخ اليوم، ومعهما كل الأشخاص من مختلف الفئات العمرية الجلوس، فالكراسي تم إتلافها، وعوّضت رائحة الفضلات عبير الورود، وطال الصدأ الألعاب التي تم تخصيصها في زمن سابق للأطفال، وحتى بعض «التجهيزات الرياضية» توجد في وضعية «جد مهترئة»، في حين أن أخرى تم إحداثها لا تزال «قيد الاعتقال». ولا يتوقف «المرض» الذي يسري في جسم حديقة الإسيسكو عند هذا الحدّ، فـ «الجائحة» التي أصابتها شلتّ «أعضاء» حيوية تعتبر الرئة التي تتنفس بها، بيئيا، رياضيا، وطالت حتى «العضو» الثقافي فيها، فالكشك الذي تم إحداثه ولم يفتتح إلا بعد طول انتظار كي يمنح لزوار الحديقة فرصة للقراءة وللإبحار في عوالم كتب مختلفة بأمواجه الأدبية والفلسفية والتاريخية وغيرها وسط فضاء بيئي استثنائي، أقفل بابه بعد حين وطاله الإهمال، ووحدها القطط المتواجدة هنا وهناك تحوم حوله وبعضها يتطلع إلى نوافذه مستغربا عن سبب الإقفال متسائلا إن كانت ستُفتح يوما ما؟
الوافدون على «مردوخ» لم يعد بإمكانهم الإحساس بتلك السكينة التي كانت سابقا، فالمرافق الأساسية الواجب توفرها بعضها مشلول والآخر منعدم، وعدد من الزوار لا يتحلون بروح المسؤولية، فبعضهم لا يجد حرجا في إتلاف ما حوله، وغيرهم حولوا جنبات الفضاء إلى «مرحاض عمومي»، وآخرون يعاقرون الخمر، وغيرهم جعلوا من بعض الأرجاء «مسرحا» للعديد من الممارسات الشائنة، فتعددت العلل واتسعت مساحات الخلل، وما ساعد على كل هذا التغاضي والإهمال، حتى أصيبت الحديقة ومرافقها بالشلل.
وضعية لم تحل دون استمرار الإقبال عليها من طرف فئات بعينها، فـ «الحاجة الرياضية» والرغبة في «الخلوة»، تدفعان العديد من المواطنين لمواصلة التوافد على حديقة «الإسيسكو»، بالرغم من كل الأعطاب، وهم يوميا يمنّون النفس بأن ينصلح حالها، وأن تضاهي حدائق عالمية، خاصة وأنها تتوفر على كل المقومات لذلك، تعلق الأمر بالمساحة أو الأشجار الضاربة جذورها في الأرض، الشاهدة على تحولات عدّة في حياة الفضاء وما حوله من فضاءات أخرى، الذي احتضن أنشطة وتظاهرات مختلفة، باتت محسوبة على الزمن الذي مضى. أمنية ينتظر الكثير من عشاق «مردوخ» أن تتحقق، وأن يستفيق المعنيون، من مسؤولين ومنتخبين وعموم المتدخلين، فيعيدوا إليها الوهج والألق، حتى تسترجع هذه «الجوهرة البيئية «ما فقدته مع تعاقب السنين من لمعان وبريق.


الكاتب : وحيد مبارك

  

بتاريخ : 18/01/2023