استدعاء المَثَل الشَّفهي في القصة المغربية : قراءة في نماذج مختلفة

تشكل الأشكال الشفهية رافداً حيوياً للفنون المختلفة؛ إذ يجد فيها المبدع ضالّته فيوظّفها في تجربته الإبداعية من أجل بلورة رؤيته الفلسفية بما يتوافق مع روح العصر وإشكالاته، لأن المبدع يجب أن يجمع عناصر الإبداع الشعبي والأفكار ذات الطابع الأكثر تقدمية،  ويصوغ المواضيع الشعبية باستخدام كل الوسائل الفنية المتوارثة التي صيغت من خلال مجرى الإبداع، رافعاً بذلك الشعبية إلى أرقى درجاتها. وعلى هذا الأساس تجسدّ عملية توظيف المأثورات الشفهية، في الفن القصصي، ملمحا رئيسا من ملامح التطور في العملية الإبداعية. ومن هذا المنطلق نروم الكشف عمّا تحفل به القصة المغربية من أمثال شفهية صِرفة، قصد إدراك الأبعاد الحوارية التي ينشئها المبدع مع العنصر التراثي، وبيان كيفية توظيفها بغية إثراء نصوصه من حيث البنية السردية والوظيفة الدلالية. وذلك من خلال المزج بين تقنيات القصة الحديثة والنوع التراثي، ويعد هذا التعامل الخلَّاق نوعا من التجريب الفني.

 

المثل: بين الجمالية والدّلالة

يصور المثل وجدان الشعب وأحاسيسه، ويعبر عن قضاياه الوطنية والسياسية والاجتماعية، كما يرصد حياته اليومية المعيشة، ويؤلِّف مدوّنة تتشكل من خلالها هوية الجماعة بقيمها وسلوكها ورؤيتها للعالم من حولها. وتبعا لهذا كله تكتسي الأمثال أهمية بالغة في منظومة التراث الشفهي بالمغرب، وتشغل حضورا واسعا في حياة المغاربة. ولهذا نجد مبدع القصة يعمل على توظيف جملة من الأمثال الشّفهية في عمله الإبداعي. ولتتضح الصورة بشكل واضح، نعطي بعض الأمثلة على الشكل الآتي:

اعتمادا على الجدول أعلاه، يتّضح أن المَثَل الشّفهي يمثّل السّجل الذي يحفظ الذاكرة الفردية والجماعية من الزوال والاندثار، فهو يعبّر عن قضايا المجتمع بتفاصيلها، وتكمن أهميته في كونه يساعد على إدراك ثقافة المجتمع والهوية الثقافية. ومن هذا المنطلق سنعمل على تحليل بعض الأمثال المتداولة بشكل واسع في المجتمع المغربي، مثل المثل التالي: “شحال يقدّك من استغفر الله يا البَايتْ بلا عْشَا” المتضمّن في “رماد بطعم الحداد” للقاص مصطفى يعلى، إذ يوحي هذا المثل الشفهي بأن الشخص الذي ارتكب خطأ كبيرا، يصعب عليه تبريره، ومن ثمة، يجد نفسه في موقف حرج. ويؤكد هذا المعنى قول السارد في قصة “حالة مستعصية”: “انتابه شعور من يدخل مستشفى مجذومين. نظر بعينين ذابلتين، ملتفا يمينا ويسارا في توتر ظاهر، كما لو كان يبحث عن شخص ما، ذي أهمية مصيرية خاصة، لم يأت بعد”.
ويستوقفنا المثل التالي في “أزهار الصمت” للقاص عبد الرحيم مؤذن “المزوق من برّا آش خبارك من الداخل!” يقال المَثَل في شخص يغرّنا بالمظهر البرّاق واللامع ونتغافل عن حالته الباطنية وما يخفى منها من عيوب فنتجاهل مثالبه ونواقصه. إذ يقول السارد في المقطع الآتي: “وقبل أن أخبرها بما جرى للغراب مع الطيور قفزت صارخة بأصوات قلدت فيها طيورا عديدة وهي تحرك بنانها الصغير بالرفض القاطع، وتطاير الكتاب من يدي فصفق بدفتيه مثل الطائر واستقر فوق غصن مائل عار من الأوراق! وعندما استقر الغراب فوق الغصن المائل، أجال بصره في هذه البرية التي لم تعد على حال، وتعجب لهذه الكائنات التي لا يعجبها العجب ولا الصيام في رجب! وأسرّ في نفسه مخافة أن يقلق من حوله بصوته النكير: “المزوق من برّا آش خبارك من الداخل! “. كما نقرأ في هذا المنجز السردي أمثالا شعبية أخرى نذكر منها: “زيد الما زيد الدقيق”. ثم المثل الآتي: “فلوس اللبن ما بقاش يديهم زعطوط”.
وتجدر الإشارة إلى أن المثل الشّفهي “حسِّي مسِّي” الذي وظفه القاص محمد الشايب في منجزه السردي “توازيات” هو مثل متداول بشكل كبير في المغرب، للدلالة على السرية التّامة والكتمان الشديد، بدون بهرجة ولا إشهار، ويقال المثل بصيغة أخرى هي “الدّق والسكات” عكس المثل القائل “شرّح ملّح” الذي يوحي بالإرادة القوية والمواجهة المباشرة والصراحة الجارحة والمؤلمة وقد ورد هذا المثل في قصة “كبريت أحمر”. يقول السارد: يصل إلى باب الليسيه قبل الثامنة، يعرض بضائعه، التلاميذ في الصباح لا يقبلون إلا على السجائر، الذكور يشترون ويدخنون علانية أمام الباب الحديدي، وبعض الإناث يشترين “حسّي مسّي”. أما المثل الشفهي “كان راس ولّى رجلين” الذي ورد بالعربية المعيار في قصة “استقرار” “بدأ رأسا وانتهى رجلين”، فقد توسل به القاص محمد الشايب في المجموعة القصصية “هيهات” للتعبير عن التحول الذي يطرأ على الإنسان في مختلف مناحي الحياة، إذ يكون المرء في منزلة سامية وعالية فيغدو في مرتبة أدنى وأحقر. يقول السارد: “أنسى وأتذكّر. تمضي بي الأيام، ولا تغيب الوجوه التي عبرت. كلكم في البال أنت أيها الهارب. وأبوك الهادي الذي بدأ رأسا وانتهى رجلين”.
أما في المجموعة القصصية “ماذا تحكي أيها البحر …؟” للقاصة فاطمة الزهراء المرابط نجد المثل الآتي: “اذهن السّير يسير” للإفصاح عن ظاهرة الرشوة التي غدت تنخر كاهل المجتمع، ويلجأ إليها المواطن البسيط لقضاء مآربه وأغراضه الشخصية والإدارية المستعصية. وهذا ما يجسده المقطع الآتي من قصة “في قاعة الانتظار”: “رجل قصير يتجول بين الوجوه المنتظرة والوجوه المحتجة، يوشوش بصوت خافت وهو يلتفت حوله خوفا من عيون الموظفين، يقترب منه، يتأمله بنظرة شيطانية ويقف خلفه هامسا: اذهن السير يسير”. أما بخصوص المجموعة القصصية “أتراك تشرقين غدا …؟” فنقرأ من قصة “شجرة العرعار” المثل التالي: “اللسان طويل والذراع قصير”. ويقال للازدراء بالشخص الذي يكون شعاره في مختلف مناحي الحياة ومواقفها اللغو والكلام الفارغ الذي لا طائل من ورائه، أما في وقت الجد يكون عاجزا عن الفعل.
أما بالنسبة إلى المثل: “الخير امْرا، والشّرْ امْرَا”. فإنه يرمز إلى دور المرأة في تغيير حياة الرجل. فكما يقال: “الرَّابَحْ مَنْ لَمْرَا، والخَاسَرْ مَنْ لَمْرَا”. ونُلْفي هذا المَثَل في استحضار السارد نصيحة أمه في الصورة التالية من قصة “ابتسامة غامضة جدا” للقاص مصطفى يعلى: “عند يقظته، شب في مسامعه صوت أمه آتيا من قبرها، مثلما كان يتردد في حياتها: كل شيء من المرأة، الخير امرأة والشر امرأة يا ولدي”. وتحتفظ لنا الذاكرة الشعبية بالعديد من الأمثال الشفهية التي تعبر عن هذا المعنى، منها: “تزوج المْرَا ماشِي وْجَهْهَا” يقال المثل لمراعاة أخلاق المرأة وتربيتها الصالحة بكل ما تنطوي عليه التربية من معنى عندما يراد الزواج بها. ويقال أيضا: “خذ بنْت الأصُول ولو علَى حصِيرة”، ويقال كذلك: “ولوْ علَى بَرْد الأَرْض” لأن النبتة الصالحة تكون غرسا صالحا وجيدا. وما يجب الإشارة إليه هو أن عنوان المجموعة القصصية “دخان الرماد” للقاص محمد الشايب مستلهم بدوره من الأمثال الشفهية المغربية، منها: “حْتَى نَار ما خْطَاها رمَاد ودخّان”. ويقال المثل بسبب بعض النزاعات والصراعات التي تقع أحيانا بين الناس، والتي قد تكون وراءها خلفيات سابقة هي التي أثارتها وهيّجتها وأظهرت مضاعفاتها. ونجد أيضا المثل التالي: “النار تحت الرماد”، إذ يرمز المعنى إلى الذي يظهر المودة والتقدير، بيد أن نفسه تنطوي على المكر والخداع والشر، وينتظر الفرصة المواتية للغدر والدّسيسة، والمجاهرة بالعداوة وإشعال فتيل الحرب.
على سبيل الختم
يتضح بجلاء أن الأمثال الشّفهية الموظَّفة في القصص -موضوع الدراسة- تمثل أداة التواصل في اللغة اليومية المتداولة بين الناس، فتنعكس عبرها تجاربهم وخبراتهم وعاداتهم ومعتقداتهم المستمَدَّة من التراث الشّفهي الأصيل. ومن هنا، نستخلص أن الأمثال الشفهية لا تعد فنا من الفنون الشفهية فحسب، وإنما هي أقوال تعبر عن المخزون الاعتقادي في نفوس قائليها، بما لها من قوة فاعلة ومؤثرة على مستوى قائلي المثل وسامعيه ومتداوليه. ليعبر بذلك عن ملامح ثقافة بعينها ذات سمات ومعايير قد تتشابه مع غيرها من الثقافات، ولكنها حتما تميزها وتعطيها قدرا من الخصوصية والتّفرد داخل المجتمع الذي نشأت فيه.


الكاتب : عز الدين المعتصم

  

بتاريخ : 17/12/2021