اكتبْ … لأراك قراءة في قصص «كفراشات بلون الحكي»

« كفراشات بلون الحكي « الصادرة مؤخرا عن مؤسسة عبور، هو عنوان الباقة القصصية لمجموعة من تلاميذ الثانوية الإعدادية « معركة وادي المخازن» بمدينة العرائش المغربية ، أعدتها الشاعرة « فتحية البو «، وتزين غلافها لوحة دالة للفنان عبدالعزيز العباسي .
تنطلق هذه المجموعة أو كما يحلو لي أن أقول «هذه المتوالية القصصية» بـ «ذكرى» مؤلمة لجنازة وموكب دفن وتنغلق بـ»جنازة حلم» وكأنّما هي عود على بدء بشكل مقصود، مكثّف، واغٍ يفرض على القارئ أن يبدأ قراءة هذا السّفر من ذيله وصولا إلى رأسه كما لاحقت الفتاة القطّة التي انتهت بها معها في جبّ مزدحم بقطط سوداء ليس بينها من أمل سوى قطّتها البيضاء التي تكتشف وهي تُفيق من نومها وتغادر حلمها على دقّات الباب أنّها ليست سوى صورة غرّة ناصعة البياض تجسّده عودة أبيها من سفر وغياب كان يملأ حياتها بقطط سوداء ترتكس معها في جبّ قميء بكلّ ما في القطط السّوداء من معان في أصقاع المغرب الكبير ذي الأساطير والحكايات والخرافات حول الأشباح والقطط السّوداء، أوليس كلّ كابوس قطّة سوداء؟
فإذا بنا في هذه الباقة نخرج من ظلام الحيرة والحزن على غياب «أنور» الصديق الذي نجح في البكالوريا وغادر رفاقه للدراسة بعيدا عنهم في نصّ «جنازة حلم» كما غادرت البنت الجبّ المظلم لتفتح الباب لأمل جديد ونور ينبلج بعودة الأب إلى فضاء النّور الرّحب والأمل رغم ما تشوب الحياة من ذكرى أو ذكريات مؤلمة في النّص الأوّل الذي يصير نصّا أخيرا إذا قبلنا قلب التّرتيب رأسا على عقب. وبين هذا وذاك تتكدّس الكوابيس والمخاوف والهواجس ثمّ تنقشع لتفسح المجال للحياة رغم المعاناة والألم حين يتشبّث الإنسان بالأمل وبصيص النّور الذي نستشّفه من اسم «أنور».
وإذا ما قبلنا هذه الزاوية في القراءة يمكننا أن نعيد ترتيب النّصوص طردا ليستقيم الأمر في قراءتنا على النّحو التالي:
النّص العاشر: «جنازة حلم»
رغم بساطة الفكرة فإنّ القارئ لا يستطيع أن ينكر طرافتها ونجاحها في التّعبير عن حجم المفارقة المهولة بين شساعة حلم ناجحين في البكالوريا وإشراق أمل الوالدين وبين ضياع الحلم وسقوطه دون التّصريح بمآل أنور تمّاما كالمفارقة التي تنشأ من لفظي العنوان المتعارضين حيث يصبح فعل إضافة الجنازة إلى الحلم غريبا وموحيا ودالّا أكثر من أيّ تركيب آخر. ورغم عد التّصريح بموت أنور في النصّ عن طريق اختراع فكرة غيابه أو ضياعه لتنفتح أمام القارئ مسارب التأويل اللامتناهية في السّياقات الجديدة – أليس طلاب الجامعات والمتخرجّون منها اليوم عرضة للاستلاب والضياع والمخدّرات والتطرّف والهجرة خلسة – فإنّ نصّ الذّكرى يتكفّل بالإجابة حين يهبنا ذكرى لدفن عزيز غير محدّد الملامح. بالتّالي فضياع حلم وتلاشيه موت صفيق قاتل أكثر من الموت الحقيقي لأنّه يظلّ يقتل صاحبه عبر الذّكرى ويظلّ يذكّره بفشله دوما.
النّص التّاسع: «حلم طفل»
بين العنوان ومحتوى النّص مفارقة تنبجس منها حلاوته، فالعنوان يضيف الحلم إلى طقل وكللاهما نكرة يعرّف بصاحبه ومحتوى النّص يسرد في أسطر تحاكي الشّعر معاناة طفلة تشرف على طفولتها ومدارج عمرها من كوّة الذّكرى فلا تجد من سبيل لفهمها إلا الأقلام لتكتب عن معاناتها عن ضياعها الذي يضارع ضياع «أنور» وعن عجزها الذي قد يكون سببا في ضياع نسخ لامتناهية منه لتظهر لنا أشباح عديدة نسخا طبق الأصل للجد في حلم الفتاة في نصّ «الكابوس» وبهذا تتعالق هذه النّصوص في هذه المتوالية القصصية رغم أنّها لكتّاب يافعين مختلفين.
النّص الثّامن: «حلم من عجب»
غنائية عجيبة تتولّد من خلال هذا الذّهاب والإياب بين الواقع والحلم فالنصّ ينبجس من نهر جارٍ وجو منعش مشجّع على الفرح والفسحة واللعب. غير أنّ الأمّ تقصف هذا الأمل وتغتال هذا الفرح بإعادة الفتاة إلى فراشها لتغرق في حلم مع قطط سوداء في جبّ مظلم لتعود إلى الواقع على وقع العودة المزعومة للأب بما يعني ذلك من فرح وأمل. والنّص بهذا يشي بذكاء بفكرة طريفة أنّه على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة مادام الحلم ممكنا والعودة من بعيد واردة.
النّص السابع: «مريم»
هذا الحلم يجد مساحة كبرى ليتحقّق سلاما وطمأنينة في نصّ «مريم» مع كلّ ما يحمله الاسم من معان وقداسة ونور تضافرت عناصر كثيرة في النّص على تأكيدها بطريقة مجازية وتلميح خفيّ من خلا السماء والبروق وما توحي به من نور وبشائر ومن خلال القلادة التي تشعّ نورا ومن خلال التّحليق في السّماء مثل حمامة، أليس الرّوح القدس قد مثّل حمامة تنزل من السّماء على كتف المسيح وهو يعمّد يحيى المعمدان، بل إنّ هذا الحلم يجد سبلا فجاجا ليتحقّق إصرارا على الفعل والنّجاح فليس السّقوط من علوّ شاهق موتا بالضّرورة بل هو بداية للعروج والنّجاح إذا بادرنا بالسّعي وذاك درس يُطربنا الأبناء به بحكمتهم أليس الطّفل أبا الإنسان يعلّمه الحكمة ببراءة وتلقائية؟
النّص السادس: «الكابوس»
في جو من البرودة والأمطار والرعود التي تخيف الأطفال في غرفهم المظلمة والباردة يأخذنا النّص في لعبة الإيهام لنعيش لحظات بين ردهتي الواقع والحلم حيث تنجح الساردة طيلة النّص في إيهامنا بأنّها تعيش الأحداث حقيقة وترى نسخا من جدها تطارده لتقتلها ثمّ تصفعنا في قفلة النّص بأنّها في حلم تقطعه الوالدة وهي تنبهها من نومها وتعلمها أن لا قت إلا نصف ساعة للمدرسة. والنص بهذه القفلة ينخرط في دائرة القصص القصيرة جدا جنسا وفي صميم هذه المتوالية القصصية موضوعا وشكلا.
النصّ الخامس: «الحلم الغريب»
على سنّة الحكاية الشعبية يجري مستهل هذه القصة القصيرة جدّا، والمكتنزة جدّا جدّا بحلم بل أحلام بل كوابيس يوهمنا النّص أنّها ممّا يراه النائمّ غير أنّ ترتيب النّص وشكله وإشارته ينكشف من خلالها أنّ كلّ ذلك واقع ما تعيشه الأنثى في مجتمعها من ألم وضيم وأنّه لا سبيل إلى مقاومته إلاّ بالحديث عنه وفضحه ومواجهته. فلكلّ فتاة حلمها وكوابيسها وكم حلما استحال كابوسا مؤرّقا وقضى على صاحبته صامتة رغم صخبها.
النصّ الرابع: «المغامرة»
وفي ذات السياق يأتي نصّ «المغامرة» لينقل لنا صورا من كوابيس تعيشها الأنثى كما يراه الآخرون فإذا هي إمّا مع أولاد جانحين أو في مكان ما تأكلها المخاوف والهواجس وتهرب من مطارد متعدّد الوجوه والصّور والملامح قد لا تراه ولكنّها تتوقّعه فيرافقها في أحلامها ولا ينقذه منها إلى الانبعاث من النّوم «فمن نام لم تنتظره الحياة» كما قال أبو القاسم الشّابي.
النّص الثالث: «خدعة الأشباح»
لعبة متقنة أدارها السّارد بين جو ممطر وظلام مخيف وتوقّع بحضور الأشباح وبين بحث عن كتاب الأشباح وبين حضورها فعلا في ذهنه بما رفع من منسوب الخوف إلى أقصاه وأخذ السارد وأخذنا في رحلة مرعبة في ظلمات يجثم بعضها على بعض وأصوات نكاد نسمعها تلغو بين السّطور ليفاجئنا النص بالأخت تمازح أخاها. لعبة سرد يتقنها صاحب النّص ويخدعنا. وما الأدب إلا خدعة جميلة أنيقة.
النصّ الثاني: «الموت البطيء»
بمنطق تصاعدي نتدرّج من الكوابيس والظلام والأشباح والخوف إلى الموت، وأيّ موت، موت بطيء. ورغم أنّ النص اقتباس عن فلم كما في هامشه فإنّه نصّ يضارع نصّ ابن المقفّع «الرجل الهارب من الموت إلى الموت» وذاك ما يكشف عبثية هروب الإنسان من أقداره وموته حين يكتشف أنّ ما يفرّ إليه يكون سبب هلاكه وتلك معاناة تخيّم على نصوص المجموعة المكلّلة بالموف والخوف الأحلام المجهضة رغم الأمل الذي يلوح بريقا في ثنايا النّصوص.
النّص الأوّل: «ذكرى»
هو نصّ مآل في تقديرنا لأنّ كلّ ما رود في النّصوص الأخرى يغدو ذكريات، مجرّد ذكريات سواء كانت جميلة أو مؤلمة والحقيقة الماثلة أمام الإنسان هي أنّ الحياة تستمر حتّى إن رافقتا الذّكريات المضجرة والكوابيس والهواجس والمخاوف.
فكأنّما أصحاب هذه النّصوص يقدّمون لنا درسا في الحياة «ألا انهض وسر في طريق الحياة» مهما كانت الأحزان والمخاوف والهواجس والذّكريات.
لقد بيّنت لنا هذه المحاولة في تشريح هذه البوارق النصّية قدرة هؤلاء الكتّاب (كم أود كتابة العبارة بحروف تاجية إكبارا لهم) أنّ الكتابة فعل خلق وإبداع وتحدّ ممتع وإن كتبتت الألم أو كتب عنه أو كتبت به. فالنص نهاية دعوة للحياة وأحسب أنّ هذه الباقة دعوة غامرة لشرب كأس الحياة حتّى الثّمالة على نخب عنترة وهو ينشد
«لا تسقني ماء الحياة بذلة … بل اسقني بالعز كأس الحنظل»
فأكتب …. واكتب لتتحرّر، واقرأ لتعيش أيّها الفتى سواء كنت طفلا حبورا أو شيخا في التّسعين. اكتب و لا تخف فالقلم كشّاف يفضح بقدر ما يسطّر المستقبل ويفتح أبواب الأمل..
… وأنتم … أنتم الأمل.

ناقد وباحث من تونس


الكاتب : د. فتحي بن معمّر

  

بتاريخ : 25/10/2023