الأدب الكولونيالي الفرنسي في مغرب ما قبل الاستعمار

في كتابه «رولان بارت بقلمه» يقلل بارت من قيمة العودة إلى إغراءات الرجوع إلى الذات عن طريق الأدب. لا قيمة لهذه الفكرة إلا من حيث رجع الصدى الذي أحدثته في اجتماعيات المعرفة الإنسانية. فعلى مدار القرن العشرين؛ قرن الشكوك العلمية، قرن الفوضى الإبستمولوجية، في الهوية والممارسة، في التوجهات والمنطلقات…لم يكن التاريخ بمنجى عن هذه الارتدادات العكسية. نستعير هنا وصفا جميلا من فرانسوا دوس «التجربة الانتحارية المزدوجة»؛ الهروب نحو الأمام وما يستتبع ذلك من ذوبان في العلوم الاجتماعية وفقدان الهوية؛ أو التراجع إلى الخلف في صيغة التاريخ الوضعاني الذي رسمته المدرسة الفرنسية في أواخر القرن التاسع عشر.
مع كل تراكم حادث في مستويات الإستوغرافيا، تطرح مسألة العودة، العودة إلى مساءلة المنجز وتقييم أدواته وحصيلته. في السياق المغربي تستحث الحاجة العلمية إلى استعادة النص الكولونيالي كنص مركب يتضمن أشكال الانقطاع وأشكال الاستمرارية. وعبر هذه الاستعادة، يتم طرح مسألة التحرر من عُقدة وجاذبية النص الأجنبي في صيغة باردة. والحقيقة، لا تتأتى هذه العملية إلا عبر مقابلة النص الكولونيالي بأصداء وروح الميدان المغربي ومعطياته الإثنو- محلية. فيما قبل، استهل الأدب الجغرافي الفرنسي رحلته بالقول: «…كل خطوة في مسار التعرف على المغرب المجهول هي خطوة في طريق تمهيد احتلاله بتأثير مباشر من رواد المدرسة الجزائرية من شارل دوفوكو إلى أندري بريف…واليوم، يقال: كل خطوة في استعادة النص الأجنبي هي خطوة في اتجاه ممارسة عملية التناص مع عقدة الإستوغرافيا الكولونيالية ضرورة تحقيق مسعيين حسب المؤرخ عبد الأحد السبتي: تبني أسلوب المحاورة والاحتكام إلى الوقائع والأحداث، وثانيها توظيف مفاهيم اجتماعيات المعرفة من أجل توضيح الشروط الاجتماعية والفكرية التي هيكلت المقولات المحورية للكتابة الكولونيالية « تاريخ التأريخ».
في الواقع، سكن مغرب القرن التاسع عشر أروقة الغرائبيين، وكان موضوع خيال وتخييل من طرف الأدباء والشعراء…وحتى مشارف القرن التاسع عشر ظل مغلقا في وجه الجغرافيين؛ وظلت جغرافيته عصية على الاستبصار من طرف مدبري العملية الاستعمارية، سواء في الجزائر الفرنسية، وحتى في أوساط الحكومة الفرنسية في باريس. بدأت الأنظار تتطلع منذئذ صوب استكشاف المناطق المجهولة في البلاد عن طريق تنظيم رحلات جغرافية سرية تجوب مختلف وحداته التضاريسية…نصادف في هذا الصدد رحلات شجاعة في سياقها طورت من نظرة الآخر للذات رغم ما اعترضها من صعوبات.
احتلت رحلة الفيكونت شارل دوفوكو « التعرف على المغرب» سنة 1883م موقع الصدارة في مصفوفة الرحلات الجغرافية في مغرب ما قبل الحماية، والأمر يعود إلى الإشادة التي لاقتها من طرف مدبري الشأن الاستعماري في المستعمرات، وتبعتها بعد ذلك رحلة أوغست مولييراس 1895-1899 المعروفة عند جمهور القراء ب «المغرب المجهول «. الأولى توجهت نحو استكشاف الجنوب المغربي، والثانية توجهت نحو استكشاف منطقتي الريف وجبالة. استعانت رحلة مولييراس بمنهج «الاستجوابات» مع مسافرين مغاربة في مرحلة أولى، وعمدت إلى البحث عن الوثائق التي تهم قبائل شمال المغرب، ومن خلالهما عمد مولييراس إلى تبني منهج التحقيق ومقارنة المعطيات.
يطرح بعض المهتمين بالمتن الكولونيالي السؤال الآتي: هل يمكن إدراج رحلة مولييراس ضمن مصنف الرحلات بما تم التوافق عليها بين المختصين؟ سؤال مشروع حقا، ما دامت «الرحلة» تتوجه نحو الإثنولوجيين أكثر ما تخاطب الجغرافيين.
مع مستهل القرن العشرين ستتعزز وتيرة الرحلات الجغرافية الفرنسية المنجزة حول المغرب، والقصد هنا رحلة الماركيز دو سيكونزاك Marquis De Segonzac التي نظمتها البعثة العلمية . الرحلة كانت تحت غطاء عسكري وعلمي تتشوف استكشاف الأراضي الخارجة عن حكم المخزن ، وأنظمة السقي السائدة في بلاد السيبة . اشتهر الماركيز دو سيكونزاك باستكشافاته لسلسلة جبال الأطلس، ظهر الكتاب الذي يحمل عنوان «رحلات إلى المغرب» سنة 1903. الجزء الأول عبارة عن مذكرات الطريق، والجزء الثاني الحصاد العلمي للبعثة. وقد حظي هذا العمل بتتويج أكاديمية العلوم والجمعية الجغرافية، ونال عنه سيكونزاك شهادة ثمينة عبارة عن رسالة من شارل دوفوكو وردت في نهاية كتاب الرحلة. في شان ذلك يقول شارل دوفوكو: «…لقد جبتم ليس فقط المناطق الأقل معرفة لدى المستكشفين، ولكن أيضا الأكثر صعوبة، لا أجد الكلمات المناسبة للتعبير عن إعجابي بما حققتموه…».
يلاحظ قارئ الرحلة أنها تتضمن ملاحظات وصفية مجمعة في حوالي عشرين دفترا صغيرا، عاد بها المؤلف معه إلى جانب مجموعة من الأشياء المتنوعة: معادن، نباتات، حشرات، عملات. (انظر مقدمة كتاب إتيان لكتاب سيغونزاك). كان سيغونزاك يتخذ هيئة مسكين يسير حافي القدمين، قاطعا في بعض الأحيان مراحل من أربعين كيلومترا.
في رحلته إلى الأطلس: كان دو سيغونزاك يتقمص شخصية خادم يرافق سيده إلى بلاد البربر، على غير مألوفه في رحلة الريف التي تقمص فيها دور الشحاذ الذي يعيش على الصدقات، وينام في المساجد …وفي رحلته إلى سوس يظهر دوسيكونزاك في مظهر الحاج التقي. يحتفى به مرة، ويطرد بل ويعتقل…يعلن دوسيكونزاك صراحة الهدف من الرحلة في مقدمة كتابه: «وضع الخرائط الجغرافية والتعليق على الصور الفوتوغرافية الوثائقية». لا يتوفر الكتاب على خاتمة، ما قد يولد فرضية أن الكاتب لم يستعمل الجغرافيا من أجل تحرير خلاصات سياسية، بل كان القصد تحرير خلاصات علمية استكشافية. يقول: «… لا يقنع المستكشف بأدوار الرحالة والطوبوغرافي والمصور والجماعة (الجمع)… إنه يطمح إلى خدمة بلده، وخلال أحلامه المرتحلة يشاهد ظلال رايته تمتد حيثما عبر…».
سيعود المستكشف دو سيكونزاك سنة 1904 إلى المغرب، وقد كلف وقتها بمهمة ضمن فريق موسع من العلماء والباحثين يترأسه الجيولوجي لوي جانتي. سينجز دو سيكونزاك عن هذه الرحلة تقريرا بعنوان» في قلب الأطلس «. يعرض من خلال هذا التقرير عن أحوال بلاد السيبة، والمجال الفاصل بين التقاء الأطلسين الكبير والصغير. قام لوي جانتي بأبحاث حول طبيعة الصخور بعالية وادي نفيس مكنت من تحديد المكان الأفضل لإنشاء سد للا تكركوكست. في الأطلس الصغير عندما كان يهم بالنزول عبر واد نون وقع في قبضة الأمازيغ. هنا يمتزج الوصف بالنزعة الغرائبية التي كانت موضة الفكر الأوربي. يحكي دوسيكونزاك عن المشاعر التي يكنها الأمازيغ لشخصية الرومي، فالمسيحي إذا ما وقع في المصيدة يمسكون به ولكنهم لا يقتلونه، يعتبرونه ساحرا يمتلك حشدا من الأسرار. يكون الأجنبي ممقوتا، لكنه يمكن أن يكون مفيدا، وهكذا يصبح مفيدا شيئا فشيئا لأنه على معرفة بعدة أشياء. وعندما تظهر علبة الأدوية، فإن الوضع يتحسن على نحو مفاجئ، ذلك أن الأسير طبيب. وسيحل ضيفا إلى أن يشفي الناس. وبجانب أن يكون الأجنبي طبيبا وحاملا لعُدَّة الأدوية يجب أن يكون عارفا بمنابع المياه ومواقع المعادن ومخابئ الكنوز…وقد تساور شيخ القبيلة فكرة تزويج الأجنبي من إحدى بناته، من أجل الاستفادة من خدماته الطبية والتنقيبية. قد تستعمل هذه الرواية في تبديد الاعتقاد بتشنج المغاربة من مصاهرة «الروميين»/ الأجانب. وفقا لهذا الاعتبار، كان النسق القبلي مفتوحا على كل التجارب التي يمكن أن تضفي عليه نوعا من التجديد، لا يغالي في الاعتبارات الدينية وأحكام القيمة. فإذا كان الشخص مفيدا يجري تبنيه وإدماجه بسرعة في النسق القبلي من أجل إغناء البلد وإخراج الثروات الباطنية. ينقل سيغونزاك حديثا يتردد على لسان الأهالي «ابعثوا لنا بالأطباء وبالمختصين في العثور على الماء». فهل يمكن أن نوسع من منظور هذه الرواية لتشمل البلد بأكمله؟ حاجة البلد إلى خدمات الأجنبي من أجل التطور.
على درب التراكم المعرفي المنجز عن مغرب ما قبل الحماية، نشر الجيولوجي لوي جونتي سنة 1906 مذكرات رحلته بعنوان «في بلاد السيبة «. وهو كتاب أتى محملا بمعطيات جغرافية أكثر منها جيولوجية. لا تلقى هذه الرحلة كثير اهتمام عند المهتمين بالمتن الكولونيالي كونها تستغرق في الجوانب التقنية. على مستوى مسار الرحلة، سارت الرحلة في مسار مختلف، وجابت مناطق غير معروفة، تضمنت انطباعات علمية وتأملات حول الجغرافيا الطبيعية وملاحظات حول الأرض والمناخ…على طول الرحلة كان لويس جونتي يتقمص دور شخصية من الطبقة المتوسطة ينتقل صحبة خدمه من نقطة إلى أخرى عبر مراحل صغيرة، حتى لا يثير حوله الشبهات. اجتاز جونتي جبل سيروة ودرعة العليا، وعبر ممرات جبلية صعبة لم ترتدها أقدام الأوربيين. ضمن نفس السجل، يمكن إدراج رحلة الجيولوجي أندري بريف A. Brives، حملت رحلة بريف تأملات حول الوضع السياسي في البلاد، وتحليلا للبنى الاجتماعية والاقتصادية، وفي جانب منها أوردت معطيات عن الثروات المعدنية التي صادفها على امتداد الساحل الأطلسي بين طنجة وموكادور، وعلى مقربة من مراكش.
في المحصلة، كتاب «رحلات إلى المغرب « حصيلة خمس رحلات استكشافية امتدت من سنة 1901 إلى 1907. في البداية، وعلى عادة الرحلات الاستكشافية يخصص القسم الأول لوصف وقائع الرحلة، ويخصص القسم الثاني للتحليل العلمي للأطلس المغربي مرفقا بخرائط وملحقات.


الكاتب : ذ . عبد الحكيم الزاوي

  

بتاريخ : 13/10/2023