الأدب المغربي من الوعي بالكتابة إلى فعل القراءة 1/2

في مشروع مؤلف «الكتابة والرؤية» لأحمد زنيبر

” لست أدري جيدا لماذا أعتقد أن الكتاب يحمل إلينا إمكانية السعادة، لكني أعترف بجميل هذه المعجزة علي”
خورخي لويس بورخيس

 

يستعيد الباحث والناقد الدكتور أحمد زنيبر في كتابه الموسوم ب» الكتابة والرؤية»1 جملة من الأسئلة التي باتت تؤرق المتابع للثقافة المغربية في شموليتها، وذلك باعتبار أن المواكبة ليست بالأمر الهين، خاصة بالنسبة للمبدع والمفكر والمثقف، فقد عرفت الثقافة المغربية منعطفات متعددة في إبدالاتها الإيديولوجة والمعرفية والفنية ـ الجمالية، الشيء الذي جعلها تعرف انتقالا شبه محاكاتي، من التقليدية إلى الغنائية إلى الواقعية الحديثة بمختلف مشاربها، ثم المعاصرة، إذا حاولنا استدعاء العلاقة بين المركز/ الشرق والمحيط/ الغرب الإسلامي،  وبهذا نستحضر بدورنا اجتهادات جلى، استطاعت أن تدرس المنتوج الأدبي المغربي بوصفه رافدا من أهم روافد الثقافة في خصوصيتها المحلية، ومكونا من مكونات الذاكرة المغربية، التي حاولت استعادة ما ضاع منها لحظة التثاقف والبحث عن الذات، وإذا كانت القراءة التي وظفها الناقد تحتفي بالتأطير المنهجي وضبط المصطلحات ومفاهيمها، فإنها بالضرورة تخدم مشروعا قويا يعنى بدراسة الأدب المغربي وفق حدود راسخة وثابتة، لكنها تتغير بتغير الأسئلة وما تسفر عنه من أجوبة واستنتاجات.
إن المؤلف الذي لا يجعلك تنفتح على اللامتناهي، لايمكنه أن يقدم شيئا يستحق المساءلة والقراءة، باعتباره موئلا للتأويل المفتوح، هكذا نلاحظ أن العمل الذي أنجزه الناقد أحمد زنيبر يعتبر من الأعمال المؤسسة للقراءة المتكاملة والشاملة شعرا وسردا ونقدا، بحيث يتغيا بدرايته المكينة تحقق ما يمكنه أن يجعل من النص الأدبي، مادة دسمة مفتوحة و قابلة للاشتغال النصي المدون والخطابي المضمرعلى مستويات مختلفة، لذلك يدفعنا هذا المؤلف القيم إلى إعادة الأسئلة، والبحث في هوامش النصوص عن مداخل جديدة، تجعل من النص الأدبي المغربي مؤهلا للإنصات إليه، باعتباره يحمل رؤية فنية اختلافية، وينتج دينامية قرائية لا تقف عند حدود الكاتب وعصره فحسب، بل تورط القارئ في المواكبة المنتجة واستعادة لحظات تشكل خطاب المنتوج.

 

في تحديد المنهج

في تقديمه للكتاب يشير الدكتور مصطفى الشليح إلى استراتيجة قرائية منهجية مهمة توسل بها الناقد أحمد زنيبر، تتمثل في استحضاره للأنساق الثقافية، و الوعي بالأشكال، وبنيات التأليف، والتدبير التحليلي، والتجذير المنهجي، مؤكدا بذلك أن « البحث في الأدب المغربي ليس قصيا، ولكن المسالك إليهما ذات جساوة ونداوة، وذات انفلات والتفات، وذات سؤال ما كان إليه إلا السؤال أسئلة لا تنتهي أنساقا ثقافية تترقب نسقا يؤالف بين التقاطعات بين الأشكال وإن بها تخالف في التأليف يكون حافز نظر إلى شمولية رؤية من حيث المنظور إليه ثقافة مغربية يؤخذ بها كلا في التقدير النقدي، وفي التدبير التحليلي للمكون النصي، وفي التقطير التأويلي للمضمر التنظيمي للأدب المغربي، وفي التجذير المنهجي للمستثمر الأدائي مقاربة لا تكون فاعلة إلا في وصل بين التراث والمعاصر من الكتابة المغربية»2، فهذه الإشارة تجعلنا نقف على التوصيف المنهجي، الثري بأدواته الإجرائية وبمخزونه المرجعي الثقافي والمعرفي، بحيث إن العملية تقتضي الوعي بالمنطلقات الإبستيمية التي يوظفها الناقد، ويستثمرها كوكد للوصول إلى ما يصبو إليه من تحققات بخصوص المنجز النصي، الشيء الذي يجعله يولي أهمية قصوى للاستضافات الثلاث، الخاصة بالشعر والسرد والنقد، فكل استضافة نوعية إلا ويساير فيها ما تطرحه من لغات وأساليب و بنيات تركيبية، وتمثلات دالة و دلالية وتداولية.
يوضح الناقد في ديباجته التقديمية للكتاب هذا الطرح، عارضا أهم الخطوات التي ارتكن إليها، واستطاع بذلك أن يجعلها تفتح له مسالك في المادة المدروسة، تنظيرا وقراءة وتأويلا، خاصة في اشتغاله على الدينامية النصية، والأفق الاستراتيجي للخطاب، يقول:» في هذا السياق الأدبي المتنامي، كان من الطبيعي أن يضم الكتاب مناهج نقدية متنوعة تنسجم وطبيعة المتن الأدبي المدروس، وقد وظفتها وفق استراتيجية تحليلية تسعى إلى الإمساك برؤية النص ثم رؤياه، ومن تم الوصول إلى مناطقه الخفية»3، مستهدفا بذلك المقاصد والأبعاد، ومراهنا في الوقت نفسه على ما يحمله المتن من محصلات متنوعة شكلا ومضمونا، « ولأن الغاية من أي تحليل وتأويل للنص الأدبي تقتضي رؤية قبلية وبعدية في آن، فإن اعتماد خلفية معرفية وأسئلة نظرية يعد ضرورة منهجية قبل فعل الكتابة»4، هكذا يحدد الكاتب مساره في قراءة المتون وتنخيلها وسبر أغوار مساريبها المعتمة والقصية، إذ إن الغرض من هذا الديدن هو الوقوف على جمالية الأدب والارتقاء بما تتميز به، واستجلاء مكامن القوة من خلال مدارسة التعالقات بين القديم والحديث. هذا الأفق الدينامي الموسع والشامل يدفع الناقد إلى الانحياز إلى ضبط المصطلح وتثبيت مفهومه، وتحديد الأدوات الإجرائية وفق رؤية نقدية متكاملة ومنفتحة، وضمن نسق موجه، يقول:» انطلاقا من هذا الأفق النقدي المفتوح على دراسة الأدب المغربي، في بعده الدينامي والإبداعي معا، يسعى هذا الكتاب في أبعاده الثلاثة إلى تأويل الخطاب، انطلاقا من الرؤية إلى الرؤيا، باعتباره(أي الخطاب)وحدة أدبية كبرى من جهة، وإلى تحليل تحققه المتباعد وفق رؤى منهجية متجاورة، باعتبارها وحدات قابلة للقراءة من جهة ثانية. غير أنه بالرغم من التنويع الحاصل في اختيار النص المنهج، فقد حاولت الحفاظ على تماسك الدراسات واتساقها، بشكل يبعدها عن أي فوضى مفاهيمية أو تحليلية»5، بذلك يتبدى لنا أن الناقد، ومن خلال وعيه بمنطلقات مرجعياته وأدواتها الإجرائية، يستحدث أطرا بانية لتصورثقافي واع وواضح، يخص التجربة الإبداعية المغربية محددة في الشعر والسرد والنقد.

في بناء الشكل والمضامين

يقسم الباحث كتابه إلى ثلاثة فصول في خصوصيات النوع والتيمة، هي على الشكل التالي:
ـ في ضيافة الشعر: من العمودي إلى الأفقي.
ـ في ضيافة السرد: من الحكاية إلى المحكي.
ـ في ضيافـة النـقد:  من النص إلى المنهج.
بدءا يبادهنا الكاتب أحمد زنيبر بتسلسل في بنيات الموضوعات المنتقاة، بحيث نلاحظ اشتغاله الدقيق على الشكل التقديمي للمادة المدروسة، فمن بين المحصلات الثقافية والفنية والجمالية، نرى أنه لا يكتفي بتحليل النص وتقديم قراءة بانية له، بل يعيد اكتشاف مضمر التعالق بين المتن والخطاب، بين النسق البنيوي المغلق والدلالة المنتجة المفتوحة، بهذا تتأتى لنا الوضعية التي أرساها فحول النقد المغربي الحديث، خاصة إذا استحضرنا كتاب « الرؤية والفن في الشعر العربي الحديث بالمغرب»6 لأحمد الطريسي أعراب، وبعض كتب عباس الجراري، وإبراهيم السولامي وغيرهما، لذلك نرى أن هذا الاحتفاظ بخصوصية النص وإظهار وحدته من خلال تنوعه، هو أصلا رؤية محمودة، تمنح الدرس النقدي للشعرالمغربي مكانته وقيمته، وبالتالي تجعله لا يقف عند حدود الشكل فحسب، بل تربطه بمدى اتساعه  وتمديده في مساحات لانهائية، وهو ما نلمسه في تكسير العلاقة بين العمودي والأفقي، أي بين النمط الكلاسيكي للشعر، الذي حافظ على معماريته الغرضية وقالبه التقليدي، مقابل ذلك هناك حضور للتجربة والحدس والذات والواقع والالتزام والتحديث. يظهر هذا في عرض التيمات التالية: المشترك الإبداعي، والمديح الديني، والوطني والقومي، وتمثل القيم، والذاتي والموضوعاتي، والنزوع الفلسفي، والمكان وعلاقته بالذاكرة، وبنية المتخيل، والإنساني والجمالي.
نلمح من خلال هذا التنوع الموضوعاتي في مدارسة الشعرية المغربية الحديثة، أن هناك اختلافا في الكتابة والرؤية، باعتبار أن المسافة الجمالية الفاصلة أحيانا بين تجربة وتجربة لا تقاس بنمط الكتابة، بل بالوعي بزمنيتها، وليس بلحظة تدوينها الأصلية المألوفة، بل باجتراحها لمتخيل مأهول بما هو كوني وإنساني، ذلك ما يؤكده الباحث وهو يدرس العلاقة بين منطقة سوس والصحراء ثقافيا، بحيث « تعود قضية البحث في الصلات الثقافية بين سوس والصحراء، إلى اهتمام عدد كبير من المؤرخين والباحثين في تاريخ الأدب المغربي عامة، باعتبار أن البحث في هذا الصدد يمكن من تسليط الضوء على مظاهر الائتلاف والاختلاف بينهما»7، وفي الوقت نفسه، وبعد تحليله هذه الوضعية، يستنتج أن هناك وحدة تسمو من خلالها القيم والعلاقات، بحيث « إن العمل على إحياء الموروث الثقافي بين منطقتي سوس والصحراء، من خلال استعراض أهم الجوانب، التي تفتقت عنها علاقات فكرية وثقافية وحضارية، إنما هو تأكيد وترسيخ لقيم المحبة والاعتراف بالآخرالإبداعي. اعتراف تجسده النظرة الفاحصة للمنتوج الإبداعي المشترك، ووضعه في الوضع الأدبي المناسب، من أجل ذاكرة متجذرة في المستقبل»8. ينتقل الناقد إلى المديح النبوي، حيث يعرض تجربة الطيب بن خضراء السلاوي، قارئا نموذج القصيدة المدحية وعلاقتها بالتدوين من خلال زاوية تأريخية للسيرة النبوية، باعتبار أن هذه الأخيرة لها ارتباط بعناصر المتن المدروس، وبالخصوص الاهتمام باللغة والمعاني والإيقاع الخارجي والداخلي، وكل ما له علاقة بالمكونات الجمالية من محسنات وأساليب، ك» توظيف لمظاهر التكرار والتوازي والطباق والاشتقاق واستعمال متنوع لمختلف الأساليب الخبرية والإنشائية وكل ما من شأنه أن يضفي جمالية على النص الشعري»9، ويرصد بعد هذا تجربة الشاعر المغربي محمد الحلوي، بالاشتغال على البعدين الوطني والقومي في تجربته الشعرية، بدءا باستحضار الوعي بالغرض، مسجلا بذلك انكبابه الموسوعي بخصوص التجربة الشعرية الموزونة الموروثة، إذ نظم عليها الشاعر وأظهر مهارة عميقة في تشكلات القصيدة، سواء في قصائد الحس الوطني، أو في النصوص الشعرية التي ارتبطت بالحس القومي، إلا أن التجربة الشعرية  للشاعر حسن الأمراني يلاحظ الناقد أنها اهتمت بالقيم، رابطا ذلك بالتحولات التي عرفتها سياقات المرحلة التي عاشها الشاعر، وبهذا يتأكد لنا أن ما كتبه الشاعر حسن الأمراني يصب في المنحى الذي عرفته القصيدة المعاصرة عربيا على العموم، ومغربيا على الخصوص، « وحين نستحضر الشعر العربي، في تفاعله مع القيم نستحضر موضوعاته المتنوعة بتنوع القضايا والاهتمامات، وكيف تفاعل الشاعر مع محيطه وعبر عنه بالكلمات الموحية، وبالتالي نقل إحساسه ومشاعره إلى الآخر. مثلما نستحضر كيف ساهم في زرع قيم التضامن والتسامح والدعوة إلى التماسك والتساكن، وكيف دعا إلى محاربة التطرف والإرهاب، لا سيما في ظل التحولات والتغيرات التي عرفها المجتمع الإسلامي عبر التاريخ»10.
يستدعي الناقد المكون الذاتي في القصيدة المغربية المعاصرة، ويربطه بالموضوعاتي من خلال ما حصل في تطور النص الشعري المغربي، بحيث ركز على مرحلتي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، التي عرفت فيها القصيدة المغربية المعاصرة منعطفا قويا، على كافة المستويات، إيديولوجيا ومعرفيا وفنيا ـ جماليا، انفتح عليه أيضا المتلقي والناقد، كل من زاويته الخاصة، وبذلك جاءت هذه التجربة موسعة بين الذاتي، الذي حمل الخصوصية الفردية، وجعلها تشمل اختلاف الموضوعات القومية والكونية والإنسانية، وقد انطلقت هذه التجربة من مرجعيات متنوعة، ماركسية ووجودية، ووظفت وسائل فنية وجمالية مختلفة، اختزلت في الأسطورة والرمز والتاريخ والفلسفة،مستعينا بأسماء مصطفى الشليح، ومصطفى ملح، وصلاح بوسريف، ومحمد بوجبيري، وصلاح الوديع، وجمال الموساوي، وأحمد زنيبر، وعبد الكريم الطبال ومبارك وساط، ومحمد العناز، وإدريس الملياني، مستنتجا بذلك أن هذه التجربة راكمت تنوعا في المرجعية، والوعي الجمالي، والتعالق بين الواقعي وبناء المتخيل، وتعدد الموسيقى وإيقاعاتها، وذوبان الذاتي في الموضوعاتي، والاهتمام تفاصيل اليومي، وقد تطورت القصيدة من هذا المنظورتطورا كبيرا، إلى درجة أنها استطاعت أن تصير نصا رؤيويا، ينطلق من التأمل الفلسفي العميق، ومن الوعي المعرفي بالمعنى، إلى تخوم اللانهائي، الذي يمكن للمتلقي المنتج أن يساهم في إعادة بلورته وانتساجه، ولعل هذا الطرح هو ما يؤكده الناقد، متناولا بذلك تجربتي محمد السرغيني وعبد الله زريقة، باعتبارهما يختلفان في طرائق الكتابة، إلا أنهما يتوحدان في التمثل، وتظهر اختلافيتهما في التمثيل، فمحمد السرغيني  تتماهى رؤيته الشعرية مع درجة الانصهار في سؤال الوجود والعدم، أما عبد الله زريقة، فتبدو قصيدته متأرجحة بين سؤال الذات ورؤية العالم. هذان العنوانان الفرعيان يؤكدان مدى اهتبال الشاعرين بالنسق المعرفي والأخذ به في سياقات متنوعة، هكذا تصبح القصيدة المعاصرة عند الشعراء المغاربة، سفرا في الذات، وفي المعرفة، بل وسفرا في الكون كذلك، فالشاعر المعاصر يقرأ ذاته ومجتمعه من خلال رؤية خاصة، متوسلا في ذلك بلغة استعارية توجه قصيدته صوب المعنى الذي لا يهتدى إليه إلا عبر القراءة والمصاحبة والتحليل والتأويل»11.


الكاتب : محمد صولة

  

بتاريخ : 15/04/2022