الأدب والسوسيولوجيا في رواية «في انتظار العنوان» لحسن قرنفل

لعلّ انفتاحَ الرّوايةَ السّرمديّ على شتّى المناهج و تَقبّلَها لها وإغناءَها لها، وكوْنها تربةً خصبةً لنَمائِها، وإيمانَ كاتِبنا بكلّ ذلك1، و بالتّالي إمساكَه بأحد المناهج القويّة في الدّراسة والتّحليل والبَرهنة2.. كلُّ هذا جعله يَدخل غِمار الكتابة الرّوائيّة بثقةٍ بالِغة.
– فهل ما ذكِر كافٍ لامتلاكه الثقة المطلقة؟
– ولماذا تأخّر في كتابة الرّواية؟
– ثمّ ما مدى قُدرتِه – كسوسيولوجيّ ـ على خَلقِ التّفاعُلِ والتّناغُمِ بين هذين الحقلين المنتميين للعلوم الإنسانيّة.. الأدب والسوسيولوجيا، وحيازتِه ميكانيزماتٍ لذلك؟
– و إجمالاً، إلى أيّ حدٍّ توفّق في هذا العمل الروائيِّ و يُمكِن اعتبارُه كذلك؟

إذا كان مِن لا غرابةٍ في أن تَبرُزمظاهرُ التّناولِ السّوسيولوجيِّ في هذه الرّواية في ما لا تُخطئه العَين، فإنّ ما يُلفِتُ وما يجب معالجتُه قبل أيّ شيء..هو ارتهانُ الكاتبِ على هذا التّناولِ في الكتابة الرّوائيّة؟، ثمّ كيفيّةَ خروجه من هذا المأزق؟
فكمَا في القليل من الرّواياتِ المغربيّةِ الضّاربةِ في عُمق المجتمع المغربيِّ لكتّاب خبَروا الكتابة الرّوائيّةَ فاستهلّوا رواياتهم بدون مقدّمات، من قبيل المرحوم محمّد زفزاف في هذا المَقطع من رواية “المرأة و الوردة” على سبيل المثال:
“هذا العصر عصر جمع المال. لا تحاول أن تقلد هؤلا الأغرارالذين يدّعون ادعاءات بعيدة عن الصواب. و أقول لك إننا محظوظون في أوروبا أكثر مما نحن عليه هنا في الدار البيضاء. هنا تُسيّرنا أقلية بيضاء من المغامرين و القوّادين وبائعي نسائهم. فيبنون الشركات و يستثمرون الأموال ويطردوننا من المقاهي والمراقص.”3
استهلّ كاتبُنا أوّلَ روايةٍ له باسترسال:
“مرت الأيام بسرعة كبرى داخل أسرة كمال، ففي غضون سنة واحدة حدثت عدة أشياء، غيرت حياتهم اليومية.. التغيير الأول هو عمل الأدب.”.
ثمّ وعلى سبيل الاستئناس، و للتّدليل على ملازمة الكاتب العُمق الإجتماعيّ طيلة مَفاصل الرّواية و تفاصيلَها.. لا بأس من التقاط مَقطع آخرَ من صفحةٍ متقدّمةٍ من الرّواية:
“و كان ما يحصل عليه الشريف هو وباقي شرفاء المدينة يكفيه ليعيش حياة سهلة ومريحة. وهكذا اعتاد كثيرمن هؤلاء الشرفاء عدم ممارسة أي عمل، والاكتفاء بالعيش بواسطة ما يجود به صندوق الضريح.”. ص.142-143.
غير أنّ الخبير السّوسيولوجيّ لم يَكن ليَفوته احتمال ضياع جهودِه بانفلات الظّواهر الاجتماعيّة غير المحصورة والبحثيّة من النّسيج الروائيّ فتَظلّ لذلك مجرّدة، ومن غيْر نقاءٍ ولا جَمال، ولا رابط، ولا حِبكة.. عَمَد أوّلاً إلى تحديدِ موضوعِ روايته ومَوضاعاتِها الفرعيّة، فقسّم الرّوايةَ إلى فصولٍ بعَدد إثنين وعشرين فصلاً وضَع لكُلِّ فصلٍ عُنوانَهُ الخاصَّ به:
وجاء من أبرَزِها:.
أطفال الحي – المنتخب المغربي ـ السينما – المرشد السياحي- انقلاب فاشل.
ثمّ بعد ذلك تناوَل هذه الموضوعات في سيّاقٍ لم يَترك فيه للصُّدفة مجالاً..
السيّاق التاريخيُّ بُعيْد الإستقلال ومرحلة الستّينات والسّبعينات، و هي
المرحلةُ الزّاخرةُ بالمتغيّرات وبغِنَى التّجاربِ لجيلٍ صار اليَوم يُسمّى بالجيل الذّهبيّ.
وبعَودة الكاتب إلى هذه المرحلة، يَكون قد أمسك بأعمدةٍ صلبةٍ لتشييد معماريّة روايته: التّاريخ ـ السّيرة الذاتيّة4 – التّخييل5 – والذّاكرة.
ولتأثيث فضاءِ الرّواية، استثمر مُعجَم هذه المرحلة الكثيف فعاد بنا إلى:
– المصريّة (ص.11.)- السبسي والشقف (ص.13.)- الزرزاي (ص.17.)- مردة كحل الفردة (ص.21.)- ….
ففصّل في شرح هذا المُعجم كما في حديثه عن عمليّة تدخين الكيف:
“وكان كمال، كباقي الأطفال يجد متعة كبرى في مشاهدة مدخني الكيف وهم يمسكون السبسي – الغليون الطويل- ويحشون الشقف، وهو الجزء الصغيرمن مقدمة السبسي الذي يوضع فيه الكيف. وقمة متعة الأطفال أن يتطلعوا بالخصوص لمشاهدة مدخن السبسي في نهاية تدخينه وهو يرمي بنفخة من فمه مما تبقى في الشقف من كيف محروق.”.ص.13-14.
كما استرفَد من الزّمن الجميل للأغنيّة المغربيّة أحد أعلامِها.. إبراهيم العَلمي.
ومن كرة القدم أحد مَشاهِرِها.. الغزواني.غيْر أنّ ما أصرّ الكاتبُ على الحديث عنه في هذا العمل و توثيقِه، وخَصَّ له فصلين اثنين من فُصول الرّواية بنُوستالجيا تُذرَف لها الدّموع.. السّينما.
و قد حَزّت في نفسه خانتُها الفارغة في الكتابة الأدبيّة اليوم، والواقعُ البئيسُ الذي آلت إليه الثقافة الفنّية في حياتنا اليوميّة عكس ما سلف:
“و أخرجت قطعة نقديّة من فئة درهم واحد، و نظرت إليها مليا ثم ناولته إياها. فانحنى بدون شعورعلى يد أخته يقبلها… و وعدته بأنّها لن تبخل عليه بالنقود للذهاب إلى السينما…”. ص.81.
“استفاد عبد الله أيضا، من خلال السينما، من شيء آخر. إنه إتقان اللغة الفرنسية. فقد كان يحصل على النقطة الأولى في النحو و القراءة و الصرف و المحادثة…”. ص. 88-89.
وهو يدعو ضمنيّاً إلى إعادة إدراج هذا الفنّ ضِمن اهتمامات المواطن:
“وكانت قاعة السينما هاته تعرض وقتذاك فيلما لقي إقبالا كبيرا في المدينة كلها… وكان الجميع يتحدث عن هذا الفيلم بكثير من الحماس…”. ص.90
كما تحدّت بنفس الحسرة و الأسى، بموازاةٍ مع أوجُه الجمال في المرحلة،عن أوجه الظّلام في ما يُسمّى بسنواتِ الجمر والرّصاص:
“و لكن جوا من التوجس والحذر ظل حاضرا، خصوصا بعد المحاكمات السريعة للمتورطين، و التي انتهت بإعدامات وأحكام شديدة.”. ص.115.
كلُّ هذا والرّوايةُ لا تخلو من عنصر المتعة و التشويق (6 ) والطّرافة:
“و بعد انتهائه من الاستحمام أمسك الفوطة وشرع في مسح جسمه، إلا أنها ابتلت قبل أن تكمل مهمتها.”. ص.40-41.
إلاّ أنّها تكاد تخلو من الأمثال و النّكتة.. روحَ المرحلةِ وميْسَمها والمقارناتُ بدورها شبهُ غائبة، غير أنّها إذا حضرَت تَحضُر بقوَة.:
“كانت علامات السرور والابتهاج بادية على وجوه هؤلاء الأجانب. فقد أضافوا إلى بهجة اكتشاف سحر المدينة، فرحة تعرفهم عليها بواسطة طفل صغير لا يزال أقرانه في أوربا في حاجة إلى مرافق ليخرجوا من البيت.”. ص.96.
وملاحظةٌ أخرى نورِدُها هنا من بين ملاحظاتٍ عديدةٍ ممكِنة.. تغيير مَجرى أحداثِ الرّواية بشكلٍ مفاجىءٍ في مناسبةٍ ومن غير مناسبة، و هي تقنيّةٌ أخرى تعزّزت بها هذه الرّواية لمّا صارت عملاً روائيّاً بحقَ.. التقنيّة التي تقذِف بدرجةٍ كبيرةٍ بالحكي كلّ مرّةٍ على حينِ غُرّةٍ بعيداً عن الخطّ المستقيم الزّائف، قريباً من واقع الحياة الإشكاليّ!
في انتظار العنوان.. الرّوايةُ الأولى لـ ذ. حسن قرنفل التي تُشعِل أفُق انتظار رواية ثانيّة، وثالثة…


الكاتب : رشيد أبوالصَّبر

  

بتاريخ : 23/09/2022