الأدب والسينما : أيُّ ائتلافٍ ؟..وأيُّ اختلافٍ ؟

 

هل هناك علاقةٌ بين الأدب والسينما ؟
أظنُّ أنَّ هذا السؤالَ، ليس في حاجةٍ ماسَّةٍ إلى إجابةٍ، بل ما كان لِيُثارَ أصْلا، لأنَّ الكلَّ يعي جيِّدا تلك الصلةَ أو القرابةَ بين شكليهما الفنيين، وإنْ كان هناك فرق بينهما، سنوضحه بنماذجَ حيةٍ، لا تقبل الاستئنافَ ولا النقضَ !
فهما ـ كما أسلفْناـ شكلان ينتميان إلى (الفن) الذي يعتبر شرطا أساسيا أنْ يتوفَّر فيهما . إلا أنَّ شكلَ الأدبِ أقدمُ من شكلِ السينما طبعًا، شهــد تطورا كبيرا في العصور المتعاقبة، فاحتلَّ مكانًا راقيًا لدى الدول والأمم، وما بُدِّل تبديلا، ومنه استقتْ السينما ـ فنيا ـ عديدًا من الخصائص الجمالية، كما تواصلتْ مع فنونٍ أخرى، وليس الأدب فقط، كالموسيقى والمسرح والرقص، فحُقَّ أنْ يُطلَق عليها اسمُ (الفن السابع)!..غير أنَّ آصِرَتَها أو وَشيجَتَها كانتْ أقوى مع الأدب، الذي مَــدَّ حـبلَ التواصلِ اللفظي والكتابي بين البشر، منذ العصور القديمة . بينما الشكل السينمائي، لم يُجَذِّرْ قدمَهُ إلا مع فجْر القرن الماضي، لكنه قطع أشواطا طويلةً، خلال هذا العمر القصير، قياسا بالأدبِ ـ الجَدِّ . فأصبح أداةَ تواصلٍ وتفاعلٍ جماهيري، ينافسُ الأدبَ، ويهُـزُّ أركانَهُ، حتى إنَّ عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في محاضرته بتطوان سنة 1958 ذهب بعيدًا، حين اتهمه بأنه (أسِر) قراءَ الأدب، فقلتْ قراءتُهُمْ له . واستنادًا على هذه القولة، يمكننا أنْ (نتهم) الأنترنيتْ بأنه (أسِر) مشاهدي السينما، وقراء الأدب معًا، فلم يعودوا يشاهدون الأولى، ويقرأون الثاني !
لقد كاد الأدبُ في الماضي، لو لم تظهر السينما، أنْ يظل الوسيلةَ الأوحَدَ للتعبير الفني، مثل أساطير وحكايا الآلهة، والفرسان، والملحمات التاريخية والرومانسية، والمعلقات والأخبار والقصص والنوادر والمقامات والرحلات…وهو الشيءُ نفسُهُ، الذي حاولتْ فيه السينما أنْ تأتيه في أشرطتها المتنوعة، خصوصا في بدايتها، كمغامرات هرقل، والعفاريت والجن، وأبطال الخوارق، والاكتشافات، والقصص الدينية، والأساطير والخرافات…وبمعنى آخر، نرى السينما فنا ناشئا، سعى إلى فرْضِ نفسِهِ بحافزٍ من الأدب الذي عَـبَرَ العصورَ والثقافاتِ والقاراتِ، التي كانتْ بمثابةِ تربةٍ خصبةٍ، نبتت فيها، وتغذت منها السينما .
غير أنَّ درجةَ التأثير القوي فيها والْمُغْري ـ لم يُحَقِّــقْهـما الأدب على نطاقٍ كبيرٍـ وهي عَرْضُها المرئي للصور الــمقرونة بالحــركة والإثــــارة، الأمــر الذي يجعــل الــــمُــشاهــدَ يتــواصل ويــتــــفاعــل مــع
اللحظة بكلِّ دقةٍ .
ولعل أهمَّ خاصيةٍ تُميز الأدبَ، هي أنه يَسير بعقل قارئه في رحلة تخيلية عبر عوالمَ مجهولةٍ، فيما تعرض السينما تلك الرحلة الخيالية أمام عيني المشاهد، عبر خيال نسجه منتجو الأشرطة . وإذا كان ضررُ هذه العمليةِ محدودًا بالنسبة للكبارِ، فإنه يصبح خطيرًا على المدارك العقلية والنفسية للصغار، وأقصد هنا الأطفالَ، لأنها تُعطِّل قوى تخيلهم، فتجعلهم عاجزين عن التفكير العميق !
القارئ، كبيرا كان أو صغيرا، يستعمل كلَّ قُـدُراته في قراءة النص الأدبي، كأنه يساهم في كتابته من جديد، وفَكِّ خيوطِهِ المتشابكة، بينما المشاهد، يجد بين يديه مادةً فنيةً مكتملةَ النُّضْج، تحتوي على الصوت والموسيقى والحوار والمرئيات والمؤثرات والمُشخصين، فيكتفي بالنظر فقط، فيما يَخْلُدُ عقلُه إلى السكون !
إنَّ الأديبَ، مثلا، يحاول، عبر الكلمة القوية والهادفة، ذات التأثير الــحــادِّ، أنْ يجعلَ قارئه (يصغي) لـ(يشعر) ثم (يرى) أو لـ(يتخيل) الموقفَ أو اللحظةَ أو معاناةً ما . بينما السينمائي يبدأ من حيث انتهى الروائي، لكن كل ذلك يمر بسرعة، من لقطة إلى لقطة، ولا يترك خلفَهُ إلا أثرا خفيفا . وهذا يثير مسألةً هامةً، تتجلى في عملية (التكيف) مع أجواء النص الأدبي والشريط السينمائي .
ففي الكتابة الأدبية، يتولى القارئُ تعبئةَ الفراغات بنفسه، متخيلا الشخصيات والوقائع والخلفيات الاجتماعية والنفسية والفكرية، وله الوقت الكافي والملائم لتلك العملية…أما في السينما، فإنها توفر له طَــبَــقا جاهزًا من الشخصيات الحية والأحداث القائمة، فلا يعود هناك مجال للتفكير والتخيل والتوقع . وإن كان المخرجُ يُطْلِق العِنانَ لأدواته الفنية في تحويل الأحداث وإضافة الشخصيات وتحسين الوقائع والأوضاع، أي إحداث تغييرات قسرية على أجواء النص الروائي، لحد، أحيانا، يتم تدمير الأصلي، وتــشيــيد آخر على أنقاضه، لأنَّ رؤيته تتباين عن رؤية كاتبه، أو يرى في النص ما يستلزم استثماره بوجهةِ نظرٍ أخرى . فغالبًا ما يتم تحويل الرواية إلى الشاشة، وفق فن السينما، الذي يُقزِّم (حَجْمَ النص) ويتصرف فيه بإدخال تعديلات، كحذف مَشاهِــدَ ومواقِــفَ وشخصياتٍ ثانويةٍ، وتقليصِ حواراتِ، ونقل كلماتٍ مكتوبةٍ إلى بصريةٍ، فلا يبقى إلا هيكله العظمي . أي بتعبيرٍ أدَقَّ، إعادةُ إنتاج العمل الأدبي لتحقيق جمالياتٍ سينمائيةٍ . غير أنَّ كلَّ تلك الاجتهادات لا تــفــيد المُشاهدَ في شيءٍ، فسرعان ما تـتـبدَّد وتُـنْسى، مثْـلَ العديد من الأحلام، سوى المتعةِ والتَّسْليةِ وتزْجيةِ الوقتِ…!
هكذا يصبح الأدبُ مُلْهِما للسينما، عندما تتحول نصوص روائية ومسرحية إلى الشاشة، مثل «أرض النفاق» للمصري يوسف السباعي، و»اللص والكلاب» لنجيب محفوظ، و»رجال في الشمس» للفلسطيني غسان كنفاني، و»الخبز الحافي» لمحمد شكري، و»بولنوار» لعثمان أشقرا، و»صلاة الغائب» للطاهر بنجلون، ومسرحية «حلاق درب الفقراء» ورواية «حشيش» ليوسف فاضل، و»بقايا اليوم» للياباني كازو إيشيجورو، و»الحب في زمن الكوليرا» للكولومبي جابرييل غارسيا ماركيز، و»اللون البنفسجي» للأمريكية أليس ووكر، والقائمة طويلة…كما قام بعض المنتجين بتكييف ملاحمَ، مثل الإلياذة والأوديسة، وحكاياتٍ من «ألف ليلة وليلة» كعلي بابا والأربعين لصًّا، وعلاء الدين والمصباح السحري، ورحلات السندباد البري والبحري . ومن التراث العالمي سندريلا، وشمشون ودليلة، وما عرضته (هوليود) و(بوليود) من عجائبِ وغرائبِ الأساطير والحكايات…!
لكن، لا يُفْهَم من حديثنا، أنَّ السينما هي نسخة من الأدب، أو هكذا ينبغي أنْ تكون، أو لولا الأدب، لما كانت السينما، إنما نعني ذلك التعايشَ بين الأجناس الفنية التي يكمِّل بعضُها بعضا. وهذا التعايش ظهر حتى في الرواية، إذ نعثر في نصوصٍ على التقطيع السينمائي، أو استفادتها من تقنية تمرير الصور واللقطات . ولقد أشرتُ إلى هذه النقطة بذاتها في تناول رواية الكاتب المغربي محمد صوف «رحال ولد المكي» قبل حوالي واحدٍ وأربعين عاما، وفي تقديم رواية الكاتبة أسماء المعلومي «شرخ على شفاه الجسد» في 2013 ما جعل سلسلةً تلفزيةً تستمد منها إطارها العامَّ الشكليَّ والمضمونيَّ، الذي يتكيف مع الشكل السينمائي .
وأسفرتْ عن هذا التعايش بين الفنين، نتائجُ إيجابيةٌ، تعود عليهما معًا بفوائدَ . منها إتاحة الفرصة لاطلاع القراء على الأعمال الأدبية، التي لم تكنْ تحظى سابقا بشعبية، أي تقريبها وتحبيبها لمن يعزفون عن القراءة، ولولا السينما، لبقيتْ مركونةً في الظل، بالرغم من قيمتها الأدبية . وثانيا، في عصر التخصصات، نرى أنَّ أجْدى الوسائل لفهم الأدب ولغته وقضاياه، هو رؤيته من المنظور السينمائي، أو التشخيص المسرحي…!
ولذلك، نرى أنَّ للسينما، كما للأدب، خصائصَ وتقنياتٍ، تحفز المُشاهدَ على (التمتع) بأطوار الشريط، تتباين جزئيا وكليا عن الأدب . فهما معا يحققان (المتعة) كما يقول رولان بارث، لكنهما يختلفان في توظيف تلك العناصر .
لغة النص الأدبي، ليست هي لغة الشريط السينمائي، وإنْ كان التباين طفيفًا، في بعض الأحايين. كما أن العلاقة بين الزمان والمكان متباينة، ففي الأدب، نأتي بـ(الواقعة) مثلما (وقعتْ) بينما في السينما، مثلما (تقع) فيشعر المشاهد بالحاضر، ويفقد علاقته بالماضي والمستقبل، إلا إذا حدَّد البطلُ المحوري الزمنَ المقصودَ. والسينما لا تعكس التشخيص المرئي الحرفي للنص الأدبي، وإنما تنقله من الكلمات والتعابير الورقية إلى الحوار الصوتي الذي يماثل الواقع…!


الكاتب : العربي بنجلون

  

بتاريخ : 14/01/2022