«الأرض الخراب» بعد مائة سنة

يِؤكد الشاعر البريطاني من أصل أمريكي: توماسْ ستيرنزْ إلْيوتْ، أن هناك في النقد كما في الشعر، سلطاتٍ أو نقادا عظاما يعدلون في تاريخ الأدب، مغيرين موقع الشعراء والقصائد، قائلا: ( بين فينة وأخرى، في كل مائة عام أو ما يقارب ذلك، من المرغوب أن يظهر بعض النقاد ليراجعوا تاريخ أدبنا، ويضعوا الشعراء والقصائد في ترتيب جديد. ليست المهمة ثورية، بل تعديلا في النظام القائم ). وكأني بقولة إليوتْ هذه العميقة والاستشرافية، صدىً لما رواه « أبو داود « عن أبي هريرةَ أنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة، من يجدد لها دينها ). وإذن، فإن المعنى البعيد والمتقاسم، هو أن مرور العقود على الدين أو الأدب ـ خصوصا إذا أصبحْنَ عَشْراً أو أكثر ـ قد تصيبها بالبِلى والمَحْل والتحجر ما لم يقيّضْ لها من ينهض باستصفائها وغربلتها، ومقارنتها، ومقايستها دياكرونيا وسانكرونيا، بالتطورات والتغيرات التي تلحق اللغة والأسلوب والمعنى، والأداء والأبعاد. ومن ثَمَّ، حرص إليوتْ في كل ما كتبه من شعر ابتداءً من قصيدته البديعة الباكرة ( أغنية العاشق ألفرد بروفروكْ )، ومرورا بقصائده القصار اللافتة قبل أن يفجر في سمع الشعرية الإنجليزية، والشعرية العالمية، بالتلازم والتداعي، « قنبلة» من طراز خاص، ومن معدن معين، شكلت نقطة تحول عظمى في كيفية كتابة الشعر الجديد، وفي كيفية تلقيه: أقصد قصيدته الباذخة المركبة الشاهقة: ( الأرض الخراب )، التي قام بناؤها الفني على خمس حركات أو مقطوعات شعرية تستبطن ذخيرة لغوية وفكرية وفلسفية ومعرفية وأسطورية، مَتَحَتْ، بشكل يكاد يكون غير مسبوق، من مظان وحياض الأساطير الهندية والصينية واليونانية والمصرية والبابلية، والرومانية، ونَهَلَت باقتدار مسؤول وحاذق، من منجز شعراء مختلف العصور والأحقاب: كلاسيكيين وقدماء، وإليزابيُيين، وفكتوريين، وميتافيزيقيين؛ ومن منجز ثقافات أوروبا الحديثة والمعاصرة كذلك. أما الحركات الخمس التي تقوم عليها ( الأرض الخراب )، فهي: 1 / دفن الموتى. 2 / لعبة الشطرنج. 3 / عِظَةُ النار. 4 / الموت غَرَقاً. 5 / ما قاله الرعد. وعلى الرغم من أن الوحدة العضوية المنتظرة من الحركات الخمس، تكاد لا تظهر للقراءة العجلى، ولا للسياحة العابرة، فإن النظر والاستبصار يقودان إلى تلمس الخيط الحريري الأوهن من خيط العنكبوت، الناظم للمعنى العام، والدلالة الشاملة، والمحور الهام الذي يدور حول السواد والقتامة، والموت المحدق، وإدانة الحضارة الأوروبية التي حملت في أردانها المجاعات والأوبئة والحروب، والكولونيالية، والاستيطان. إذ لا ينبغي أن ننسى أن ( الأرض الخراب ) كتبت في العام 1922م، بعد أعوام قليلة من انتهاء الحرب العالمية الأولى التي أتت على الأخضر واليابس، فدمرت العمران والإنسان، وسوَّتْ بالأرض كل أمل في العيش الكريم، والسلام الدائم، وقبرت ملامح المستقبل الزاهر. هذه القصيدة المشهودة التي عمرها اليوم مائة سنة وثلاثة أشهر، لا تزال قوية حيّيَة تحييها القراءات والتلقيات والترجمات المختلفة على مدار السنين والعقود. وإذا شئنا أن نقول كلمة فيها، وقد مر عليها كل ذاك العمر الذي يحول الأشياء والكائنات إلى رميم، قُلْنا: إنها تتجدد وتحيا، وتطلع من رماد الأزمنة، وعثّ النسيان كما يطلع طائر الفينيق، لأن إليوت عرف، وهو المثقف الموسوعي الكبير، والناقد العارف الغواص، والشاعر العظيم الملهم، كيف يدس فيها: في مفاصلها وأعطافها، ووتينها وشرايينها، دما أخضر مُهْراقا لا ينشف، وجذوة إلهية مشتعلة أبدا كنار الأولمب، أو نار بوذا التي لا تخمد. فالأمر شبيه إلى حد بعيد بروائع الموسيقا العالمية، والسمفونيات المنيفة لباخْ وموتسارت، وبيتهوفن، وشوبيرتْ، وليزْ، وشوبان، وبرَامْزْ، وتشايكوفسكي، وفيفالدي، وديبوسي. وشبيه أيضا ببدائع اللوحات التي لا تزال تفتننا، وقد مر عليها زمن طويل لم يُبْلِها ولم يَمْحُ جوهرها: كلوحات ليوناردو فنشي، وميكائيل أنجلو، وبوتتشيللي، وغوغانْ، وفانْ غوغْ، وبولْ كْلي، ورونوارْ، وماتيسْ، ودولاكروا، وبيكاسو، وسلفادور دالي.. الخ.
يقول الشاعر الفلسطيني الكبير والمنسي توفيق صايغ أحد رواد قصيدة النثر، وأشهر وأحذق من ترجم أشعار إليوت وغير إليوت من الشعراء الإنجليز: « إن الشعر الإنجليزي مدين لمدرستين شعريتين هما: المدرسة الميتافيزيقية في القرن السابع عشر، والرمزية الفرنسية. تعلم هذا الشعر من المدرسة الميتافيزيقية، وبخاصة من « جونْ دونْ « أن الحياة بشقائها ونعيمها، ببشاعتها وجمالها، بسوقيتها وسموها، هي مادة مناسبة للشعر. وتعلم، بالتالي، ان يستخدم قاموس الحياة اليومية، والعلم الحديث. وتعلم الشعر الإنجليزي من الرمزيين الفرنسيين، وبخاصة من « لاَفورغْ»، و» كوربيير»ْ، الإيجاز والبلورة، وتجنب الكلمات والعبارات التي لا هدف لها غير الربط بين الصور والأفكار. تعلم أيضا أن يخلص الشعر من التعليمية والخطابية والعناصر البلاغية، ويقربه من الصفاء والموسيقا. وتعلم النقد الساخر. ومن « بودلير» كيف يعكس عصره. من دون أن ننسى دور المدرسة التصويرية وبخاصة « إزرا باوند» و» هولم» في بلورة اتجاهات الشعر الإنجليزي، وأثرها البارز في شعر بدايات إليوت. فهذا الفرش ضروري لفهم إنجازات شاعرنا، وقيمة إنجازه الشعري، وقصيدة ( الأرض الخراب ). لكن، هل ولدت قصيدة ( الأرض الخراب )، ولادة طبيعية، قمَّطها الشاعر، ورعاها، وتعهدها بما يلزم، ورأت النور بعد أن شبت، على أعمدة المجلات والصحف والدوريات المتخصصة في الأدب والشعر؟ نعم، أنجبها إليوت، ليس من شك في ذلك، غير أن ولادتها الطبيعية سرعان ما خضعت لعملية « بروكوستية «، وجراحة قيصرية على يد الشاعر الكبير الصانع الأمهر كما نعته إليوت: « إزرا باوند» ، وهو يهديه قصيدته. فيد إزرا التعديلية، وقَصْقَصَتُه لبعض أطرافها و» زعانفها»، وإبدال ألفاظ بألفاظ، واقتراح ترتيب غير الترتيب، كل ذلك بيّنٌ مشهور تناقله مؤرخو الأدب والنقاد. والمخطوطات التي تسربت وبها تعديل هنا أو هناك، انتشرت واطلع عليها الشعراء، وقراء تلك الفترة. ووصلتنا الآن بعد أن فتحت وتحركت الجسور، وتصادت الأكوان، وتسيدت الرقميات. لم يمتعض إليوتْ من الخياطة النقدية الباوندية، فباوندْ المعلم كان على كل لسان، وأناشيده الشعرية العظيمة ملأت المشهد الثقافي الشعري البريطاني، وشغلت الشعراء والنقاد والمثقفين. غير أن فيفيان إليوت زوجة الشاعر لم تخفِ اعتراضها وامتعاضها، وصرحت غير ما مرة بأن ثلث القصيدة الذي أعدمه باوندْ ما كان ليعدمَ وهو الثلث المندغم بالنص والخادم له جملة وتفصيلا، الثلث الذي كان من الأوكد ولأفيد أن يبقى. ومهما كان الأمر، فإن ما جعل من ( الأرض الخراب ) قصيدة القصائد، وساهم في ذيوعها وشهرتها، هو لغتها الجديدة، وأسلوبها البارع، ونسقها الباهر، وغناها التصويري، وإيقاعاتها المختلفة، وثراؤها الفكري، وخصوبة معينها ومنابعها الأسطورية والفلسفية والشعرية والدينية. ومع أنها وُصِمتْ بالغموض والتعقيد والنخبوية بشكل لا يخفى، فإنها استمرت تثير وتتحدى وتغري، وتستدرج قراء من مختلف المشارب والطبقات، وتدعو الشعراء الجدد لاحتذاء مناخها وأجوائها في الأقل، أو تخطيها نحو ما يخدم الشعر والإبداع، ويرفعه الرفعة المنشودة عبر العصور. ثم، إن الغموض في الشعر كان موضع إكبار النقاد الكبار. وهذا عبد القاهر الجرجاني صاحب الكتابين الخالدين: ( دلائل الإعجاز)، و ( أسرار البلاغة )، يقول: ( لو كان التعقيد وغموض المعنى يُسْقطان شاعرا، لَوَجَب أن لا يُرى لأبي تمام بيتٌ واحدٌ ). فهل وقف الأمر عند هذا الحد؟، هل وقفت ( الأرض الخراب ) مُسَوَّرَةً بسياج أرضها، وظروف نشأتها، وسياق بعثها، وسجن لغتها الإنجليزية، وقفص بيئتها وثقافتها؟. أبداً، بل انتشرت وسرت في مجاري لغوية وثقافية وفنية مختلفة، احتضنتها ترجمةً وتعريباً، واستدخلت جديدها وفتوحاتها الأسلوبية واللغوية، وطرائق تشغيلها للمخيال والصور والمجاز والتكرار والتوازي والإيقاع، ومزج البحور، وكيفيات امتصاصها العبقري للأساطير المختلفة والميثولوجيات: هندية وصينية وإفريقية، ويونانية، ورومانية ومصرية، ورافدينية وغيرها. وكذا لأصوات الطبيعة والطيور، وفونيمات اللغات الأسيوية، والتماعات شعرية شذرية مستمدة باقتدار من شعراء مختلف العصور والمدارس الإنجليزية التي أشرت إليها آنفا. أليس هذا كافيا للقول بأن ( الأرض الخراب )، شكلت ولا تزال كتابا مفتوحا لوحدها، غنيا ثريا مفيدا وممتعا بما لا يقاس. أدانت عصرا كولونياليا، وأنوارا حضارية زائفة شرعت تخبو، وسوادا قاتما صار يخيم، وواقعا آسنا مخيفا سقطت فيه القيم والمُثُل التي ناضلت قوى الخير والعلم والفكر والشعر والجمال في العصور السالفة من أجل استتبابها وإنباتها ليعيش الإنسان في ظلها. ودليل أثرها الفادح، وتأثيرها الجبار في الشعر العالمي، وفي حركة الشعر العربي الحديث والمعاصر تمثيلا، أن هذه الأخيرة تلقفت سريعا فتوحاتها، واجتراحاتها غير المسبوقة، فصارت إلى ترجمتها في البداية، ثم صارت إلى صوغ شعرها الجديد على ضوء « وصاياها « و « توجيهاتها « اللاَّمرئية اللاّمنطوقة، ولكن المُسْتشعرة والمستوحاة رأسا من عطائها ومعطياتها، واكتنازها الدلالي والجمالي. كان المشهد الثقافي العربي، والشعري منه تحديدا، قبل الخمسينيات من القرن المنصرم، يعاني مداورةً، وعُقْلة فنية، وترَهُّلا، ورومانسية رخوة، فأضحى التَّهَوُّس بإليوتْ وب ( الأرض الخراب )، تحصيلا ومتابعة واحتذاء ومحاكاة، مشهدا مثيرا، ولحظة زمنية معتبرة. أما اولئك الذين تأثروا به، وسارعوا إلى ترجمة الأرض الخراب، وغير الأرض الخراب ك: ( الرجال الجوف )، و ( أربعاء الرماد )، وغيرهما، فهم كُثْرٌ، نحسب أنه من الأفيد أن نقتصر على ذكر المشاهير منهم، وهم: زكي أبو شادي وجماعة مدرسة أبولو ـ لويس عوض ـ يوسف الخال ـ أدونيس ـ السياب ـ البياتي ـ بلند الحيدري ـ جبرا إبراهيم جبرا ـ صلاح عبد الصبور ـ توفيق صايغ ـ محمد غنيمي هلال ـ رشاد رشدي ـ إحسان عباس ـ زكي نجيب محمودـ ـ محمد النويهي ـ بدر الديب ـ صلاح لبكي. وأكاد أجازف بإضافة شاعرنا الكبير شفاه الله محمد السرغيني، وبخاصة في ( وجدتك في هذا الأرخبيل )، و( وصايا ماموث لم ينقرض )، و ( فوق الأنقاض، تحت الأنقاض ).

هـــــامـــــش:

(نص الكلمة التي ساهمت بها ضمن فعاليات المعرض الجهوي للنشر والكتاب بفاس يوم الخميس 22 دجنبر 2022، إلى جانب ثلة من الأساتذة الأجلاء: عبد الرحمن طنكول ـ جمال الدين بنحيون ـ عبد القادر الجموسي. وذلك بمناسبة مرور مائة سنة على ظهور قصيدة ( الأرض الخراب ) لإليوت. أشير إلى أن فكرة الندوة الأكاديمية هذه، هي للصديق الشاعر مخلص الصغير مدير دار الشعر بتطوان الذي سير الجلسة باقتدار ومعرفة. فالشكر له. والشكر موصول إلى الجهة المنظمة : المديرية الجهوية للشباب والثقافة والتواصل / فاس ـ مكناس، وعلى رأسها السيد المدير الجهوي.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 06/01/2023