الأستاذ إدريس لشكر الكاتب الأول أمام المؤتمر الوطني الثاني للمحامين الاتحاديين بمراكش : تضحيات الأجيال المتعاقبة من نساء ورجالات مهنة المحاماة حققت مكتسبات ديمقراطية وحقوقية

لزوم تمثيلية المحاميات في المؤسسات المهنية

شعار مؤتمركم هذا من « أجل محاماة بكامل أبعادها المهنية، الحقوقية، والسياسية» يجسد الرهانات الحقيقية لمهنة المحاماة اليوم في بلادنا. فقد سجل المحامون والمحاميات المغاربة، كأفراد، أو كمؤسسات مهنية من نقباء ومجالس هيئات، أو من خلال جمعية هيئات المحامين بالمغرب، أدوارا طلائعية منذ فجر الاستقلال، في النضال من أجل القضايا الكبرى للوطن وثوابته، في الدفاع عن وحدته الترابية، وترسيخ الديمقراطية، وبناء دولة الحق والقانون والمؤسسات، والدفاع عن الحقوق والحريات، وعن استقلال القضاء وحصانة المهنة، في ظروف صعبه كلفت المحامين تضحيات جسيمة، منهم من ضحوا بأرواحهم من أمثال شهيدنا الكبير عمر بن جلون، أو بالاضطرار للاغتراب كحال فقيدنا الكبير النقيب عبد الرحمن اليوسفي، أو بآخرين ممن اجتازوا محن المعتقلات السرية والعلنية وقادوا بحكمة وتبصر معارك القوى الحية من أمثال القائد الاتحادي الفذ عبد الرحيم بوعبيد و الأستاذ محمد اليازغي.. إن لتضحيات الأجيال المتعاقبة من نساء ورجالات مهنة المحاماة الأثر الكبير فما تحقق من مكتسبات ديمقراطية وحقوقية، وفي استقلال السلطة القضائية، وفي استمرار المحاماة قوة مجتمعية تدافع عن الحق، وتذود عن الحريات، وتنتصر لقيم العدل والإنصاف.
مهنةُ المحاماة توجد اليوم، بحكم التحولات التي يعرفها المجتمع المغربي والعالم عموما، في مواجهة تحديات كبرى في حاضرها ومستقبلها، بحكم ما تحقق لبلادنا من استقرار مؤسساتي ومكتسبات دستورية، ومن مصالحات مع الماضي، ومع مجالاته، ومع مكونات هويته، ومع ما تعد به الأوراش الكبرى التي يقودها جلالة الملك على درب التنمية الاقتصادية والحماية الاجتماعية، ومن انفتاح على العالم : أوروبا شمالا، إفريقيا جنوبا، والأمريكيتين على الواجهة الأطلسية. ؛
إن هذه التحولات العميقة بقدر ما تفتح آفاقا واعدة لمهنة المحاماة، بقدر ما تطرح على المهنة صعوبات واقعية وقانونية تٌعرض المحاميات والمحامين لصعوبات أثرت بشكل كبير على الأوضاع المادية والاعتبارية للمحامي، حيث لم تعد المهنة مصدرا للكفاف بالنسبة لفئة عريضة من المحاميات والمحامين؛ كما أنها انعكست على تقاليد وأعراف المهنة وآدابها التي تجعل منها رسالة إنسانية وحقوقية.
زميلاتي زملائي،
إن التحديات التي تواجه المحاماة في أداء رسالتها الإنسانية والحقوقية، تقتضي منا جميعا إجراء تقييم موضوعي، لواقعها من أجل استشراف آفاقها، يفرض الأخذ بعين الاعتبار أبعادها المهنية الحقوقية والسياسية، التي لا تنحصر فقط في الأدوار الإجرائية للمحامي، من قبيل المشورة والعمل داخل المكاتب والدواوين والمرافعة في المحاكم؛ بل يجب القيام بتقييم موضوعي ينبني على أدوارها العظيمة المرتبطة أساسا بإرساء أسس عدالة نزيهة ومستقلة؛ فضلا عن حمولتها السياسية لكونها تساهم بشكل أساسي في ترسيخ دعائم المجتمع الديمقراطي وحماية حقوق الإنسان، وتوفير البيئة السليمة للاستثمار والتنمية الاقتصادية؛ وهو الأمر الذي أكد عليه جلالة الملك محمد السادس، وهو يتحدث عن التحديات التي تواجهها مهنة المحاماة في رسالته السامية إلى المشاركين في أشغال الدورة الثانية للمكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب المنعقدة بالدار البيضاء.
زميلاتي زملائي،
إن مطلبنا الراهن بشأن ضرورة إصلاح قانون المحاماة وتأهيله ليستجيب لمختلف التحولات المجتمعية الراهنة، خدمة للعدالة وتقوية لدور المحامي في الدفاع عن دولة القانون والمؤسسات وصيانة حقوق الإنسان، لا يعد المبادرة الإصلاحية الأولى من نوعها، بل سبقتها مبادرات إصلاحية أخرى، آخرها كان ذلك الإصلاح الذي توج بالقانون (رقم28.08) المنظم لمهنة المحاماة، والذي أرسى حلولا كفيلة بتسوية عوائق وتحديات كانت تفرض راهنيتها وقتذاك، من قبيل معالجة اختلالات الودائع، وتمنيع وتقوية استقلالية المهنة وحصانتها، ووسعت من مجال احتكار تمثيلية الأطراف أمام القضاء..؛
غير أن الأمور ستتغير بشكل كبير فيما ستقدمه الحكومة التي ستأتي بعد دستور 2011 في مخالفة لما أتى به هذا الدستور من الأمر بضمان المحاكمة العادلة وضمان حقوق المتقاضين كما هي محددة في الفصول من 117 إلى 198.
بل إن القوانين التي أصدرتها قلصت من مجال مهام المحامي. وأنقصت من الحقوق التي اكتسبها قبل مجيئها. في تعارض واضح مع خطابها المليء بالحديث على الاهتمام بمصلحة المتقاضي. والحديث على النجاعة القضائية.
زميلاتي زملائي،
ونحن نعقد مؤتمرنا الثاني لقطاع المحاميات والمحامين الاتحاديين في مرحلة تشهد نقاشا عموميا بشأن إصلاح قانون المحاماة، فإنه يكون من المنتظر أن يبلور قطاعنا الحزبي مقترحات هادفة لتجويد الإصلاح المنتظر لقانون مهنة المحاماة، وفي هذا السياق لا بد من استحضار بعض القضايا التي اعتبرها أساسية في هذه المرحلة، وقبلها استحضر التوجيهات السامية التي تضمنتها الرسالة الملكية للمؤتمر الدولي للمحامين المنعقد بفاس شهر غشت 2005، حيث أكد جلالته وهو يتحدث عن مهنة المحاماة «.. وبقدر ما أصبح لمهنة المحاماة من طابع عالمي، فإنها تواجه ضرورة توحيد القيم السلوكية المثلى، واعتماد التكوين المستمر، والاستجابة لمتطلبات مواكبة العالم الرقمي، والتوفيق بين وجوب احترام الحريات، وصيانة النظام العام، في ظل سيادة القانون وسلطة القضاء. دون أن ننسى أنها قبل كل شيء، مهنة إنسانية مثالية تقتضي إلى جانب الفقه القانوني، النزاهة في العمل، من أجل مساعدة القضاء، الذي يُعتَبَر المحامون جزءا من أسرته الكبيرة الموقرة، وشريكا أساسيا له في تحمل مسؤولية إحقاق الحقوق ورفع المظالم، على أسس العدل والإنصاف وسيادة القانون ونشر الثقة والاستقرار اللازمين لتأمين الحياة الاجتماعية، وتحفيز الاستثمار، والنهوض بالتنمية الاقتصادية». (انتهى المنطوق الملكي)
أود أن أشارككم بعض القضايا التي أعتقد أنها ذات أولوية في كل محاولة لإصلاح المهنة والقانون المنظم لها:
أولا: بالنظر لما ترتب عن دسترة استقلال السلطة القضائية، وصدور القوانين التنظيمية المؤطرة لهذا الاستقلال، ولما أصبحت تتمتع به مكونات هذه السلطة من مجلس أعلى للسلطة القضائية ونيابة عامة من اختصاصات وصلاحيات، يتعين أن يحرص القانون المنظم للمهنة على إعادة تعريف مهنة المحاماة باعتبارها رسالة ذات أبعاد حقوقية وإنسانية، واعتبارها شريكا للقضاء في إنتاج وتحقيق العدالة وسيادة القانون. وهذه الشراكة تستلزم تقوية وتمنيع استقلالية المهنة وحصانة الدفاع.
ثانيا: ضرورة استحضار مقتضيات الفصل 19 من الدستور بشأن المساواة بين الجنسين، وما تقتضيه المواثيق الدولية بشأن مقاربة النوع، من خلال التنصيص في القانون المنظم للمهنة على وجوب تمثيل المحاميات في المؤسسات المهنية بتناسب عددهن في الهيئة في أفق المناصفة.
ثالثا: وتأسيسا على معطى لزوم تمثيلية المحاميات في المؤسسات المهنية، يتعين تقييم النظام المعتمد حاليا في انتخاب النقيب وأعضاء المجلس، وما إذا كانت تمت مقترحات لتجويده بما يضمن الانسجام بين مكوناته ويتيح فعالية أكثر في معالجة القضايا المهنية التي تزداد باستمرار مع تزايد عدد المحامين.
رابعا: إن الأوضاع المستجدة في المهنة، وتزايد الإقبال عليها، وتوفير شروط استقبال تحفظ كرامة المحامين، لا بد من توسيع مجال احتكار المهنة. كما يتعين اعتماد مقاربة المباراة على قاعدة الاحتياجات الفعلية للمهنة عوض منهج الامتحان المعتمد حاليا مع ما يخلفه من آثار.
خامسا: وتفاعلا مع النقاش الجاري بشأن إحداث مجلس وطني للهيئات؛ لا بد من التفكير الجدي في وجود حاجة فعلية لمثل هذا الإطار، وفي هذه الحالة، يتعين التفكير مليا في تركيبته واختصاصاته، بالشكل الذي يحفظ للنقباء ومجالس الهيئات اختصاصات تدبير الشأن المهني.
سادسا: من المؤكد أن مهنة المحاماة توجد في قلب تطورات حادة بفعل الثورة التكنولوجية والمعلوماتية، وحتى يتمكن المحاميات والمحامون من مواكبتها، لا مناص من الاهتمام بضرورة تحديث مكاتب المحامين وأساليب الاشتغال، كما يقتضي العناية بالتكوين والتكوين المستمر لمواكبة المستجدات وتملك الثقافة القانونية والعامة، ما يفرض على الدولة تحمل أعباء إعداد مراكز للتكوين الجهوية، تقدم خدماتها للقضاة والمحامين، باعتبار أن العدالة تعتبر صمام أمان المجتمع، وعنوانا لاستقراره المؤسساتي، وقطاعا فاعلا في مجال تشجيع الاستثمار، هذه وغيرها من القضايا المطروحة على مؤتمرنا هذا، الذي يزخر بالطاقات والكفاءات، وبغنى التجربة الميدانية التي اكتسبها قطاع المحامين الاتحاديين لأزيد من نصف قرن من الحضور الجاد، الفاعل، والمتميز في مختلف مؤسسات ومنتديات ومؤتمرات المحامين وطنيا ودولي، وعلينا في كل هذه القضايا ذات الصبغة الآنية، أن لا نغفل التفكير أيضا، في قلب مناقشة إصلاح قانون المهنة وحوله، في أوضاع جمعية هيئات المحامين بالمغرب، هذا الإطار العتيد، الذي شكل منذ تأسيسه على يد رواد المحاماة ببلادنا، قوة دفع حقيقية في النضال من أجل الديمقراطية ودولة الحق والقانون والمؤسسات، وحصنا منيعا لحماية الحقوق والحريات في أصعب الظروف.
زميلاتي زملائي،
على المحاميات والمحامين المغاربة الانكباب، بشكل جماعي، على التفكير الجدي في تأهيل مهنتهم حتى يكون لهم موقع في مستقبل تنهار فيه كل الحدود، وخاصه في مجال ترحيل الخدمات، حيث سنكون في مواجهه مكاتب كبرى للمحاماة عابره للقارات، وهو التأهيل الذي يجب ان ينبني على تحديث وسائل ممارسه المهنة، من خلال مواكبه التطور المعلوماتي في تدبير المكاتب والتقاضي عن بعد، وتملك اللغات الحية الواسعة التداول، واكتساب متين للقوانين الوطنية والدولية.
وبالإضافة الى هذه التحديات الكبرى ذات العلاقة بالتحولات الجارفة التي يعرفها العالم، وعلاقة بما أثاره مشروع تعديل قانون المهنة الجاري به العمل، وما يحتويه من مقتضيات جديده؛ فقد وقفتم في تنظيم ندوة وطنية مع الفريقين البرلمانيين للحزب، وانتهينا فيها إلى خلاصات أساسيه نعتبر أنها ستغني أي مشروع يراد له أن يصون المهنة ويطورها لتواكب متطلبات حاضرها ومستقبلها.؛
وإذا كان الدستور قد أقر استقلال السلطة القضائية ونظمها بمقتضى قوانين تنظيمية، فقد سبق وأن أثرت الحاجة إلى دسترة مهنة المحاماة إسوة بعديد من الدول التي اعتبرت أن مهنة المحاماة لا تقل شأنا وأهمية باعتبارها مكونا أساسيا من أسرة القضاء.. واعتبرت أن تمثيلية المحامين في المجلس الأعلى للسلطة القضائية من شأنه إشراك المهنة مع القضاء في حسن تدبير العملية القضائية والعدالة بشكل عام، وهما مطلبين نعتبر في الاتحاد الاشتراكي أنهما عادلين ومشروعين، يقيناً منا أن قوة استقلالية وحصانة القضاء من قوة وحصانة مهنة المحاماة.
إنكم، زميلاتي زملائي ،
مقبلون على انتخابات مهنية خلال شهر دجنبر المقبل، وهي انتخابات ستفرز مؤسسات مهنية جديدة، مؤسسات يفترض فيها أن تستحضر ما سبق أن أو جزته من تحديات تواجه المهنة حاضرا ومستقبلا، وتدرك أن للمهنة أدوارا حقوقية وسياسية ومجتمعية، وتعي جيدا المهام والالتزامات التي يفرضها واقع المهنة ومعالجة أوضاع المحاميات والمحامين المهنية والاجتماعية.
كما أن هذه المؤسسات الجديدة، نقباء ومجالس، ستكون على موعد مع تجديد هياكل جمعية هيئات المحامين بالمغرب، هذه الجمعية التي شكلت عبر تاريخها صرحا قويا في الدفاع عن المهنة، وفي النضال من أجل الديمقراطية ومن أجل الحقوق والحريات، ومن أجل تحقيق العدالة والإنصاف.. لا شك أن هذه الجمعية واجهت صعوبات في هذه المرحلة، سواء في تفاعلها مع الاحتجاجات المشروعة للمحاميات والمحامين دفاعا عن قضاياهم العادلة والمشروعة، وأيضا في تعاطيها مع تغول السلطة التنفيذية وتنكرها للمقاربة التشاركية التي طبعت دوما علاقة الجهاز التنفيذي في علاقته مع مطالب المحامين وفي صياغة القوانين التي تؤطر مهنتهم. إننا مطالبون، كمحاميات ومحامين منتسبين للاتحاد الاشتراكي أن نكون حريصين على تقويه وتمنيع هذا الصرح المهني، واعتباره دوما الإطار الجامع لكل هيئات المحامين، ولكل المحاميات والمحامين المغاربة بتعدد انتماءاتهم ومشاربهم، وأن نجعل منها أداه للدفع بالمهنة نحو آفاق أرحب، في مجال تأهيل المهنة، وفي المبادرة لتطوير وتحديث التشريعات الوطنية وملائمتها مع المواثيق والآفاق الدولية، وفي مواصلة أدوارها الأصلية في تكريس وتمنيع وتقويه حصانة المهنة، والعمل من أجل معالجة الأوضاع الاجتماعية للمحاميات والمحامين المغاربة.


بتاريخ : 20/11/2023