الأكاديمي المغربي خالد فؤاد طحطح يخرج نصا تاريخيا فريدا للمفكر محمد عابد الجابري

 

صدر العمل الجديد لمحمد عابد الجابري بعنوان رئيسي: «التاريخ والمؤرخون في المغرب المعاصر»، وبعنوان فرعي:» قراءة نقدية على ضوء نظرية ابن خلدون في التاريخ والتأريخ»، وارتأى مخرج العمل الأستاذ خالد طحطح الحفاظ على العنوان الأصلي الذي اختاره المؤلف لعمله الأكاديمي حين ناقشه أمام لجنة علمية ضمت متخصصين، فقد استحضر الحرص على الأمانة العلمية أولا وأخيرا، بالرغم من أن مضمون العمل يوحي بأن العمل هو في الأصل تقييم في الحصيلة المنجزة في حقل الكتابة التاريخية بالمغرب من الاستقلال وإلى حدود سنة 1967.
اختار الأستاذ خالد طحطح إخراج البحث دون التدخل فيه، لأنه في النهاية ملك لصاحبه، ولذلك اكتفى بتقديم دراسة منفصلة عن هذا العمل الذي لم يكن معروفا في أوساط الباحثين حتى في تخصص التاريخ، وهو نص مكتف بذاته، إذ هو موجه للباحثين والمتخصصين ممن لهم اطلاع على ما يصدر في حقل التاريخ، ولذلك لم يكن هناك داعي لاتخام النص بكثرة الهوامش التي تصبح بدون معنى، بل إنها تضر بالعمل وتسيء إليه أكثر مما تُفيده، فما الجدوى من تقديم تعريفات موجزة أو مسهبة لشخصيات تاريخية وكتب وأعلام معروفة لدى الطلاب غير الحشو، فنصبح بذلك أمام نص آخر يتشكل من هوامش مكتظة وحواشي لا تنتهي، مع العلم أنها تتكرر في كل الكتابات وتُعاد كلازمة لدرجة التنميط.

 

لقد وقفنا في هذا الكتاب الصادر عن دار ليتوغراف (2021) على الوعي التاريخي المبكر لدى المفكر العربي محمد عابد الجابري وهو في بداية مساره الأكاديمي، ويتجلى ذلك في انفتاحه على المعارف المعاصرة الحاضنة لفلسفته ورؤاه وتوجهاته، وقد تَلقّفَ الدرس التاريخي بالموازاة مع تجربته السياسية داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية التي صقلت خبرته،
بدون شك تبرز المفاهيم المُتعلقة بمهنة المؤرخين في الكتاب الأول للجابري الذي لم ينشر قيد حياته، والذي يدخل تحديداً ضمن مجال نقد التأليف التاريخي بتلاوينهِ المتعددةِ، وقد اتخذ من المؤلفات والدراسات والمقالات والكتب المدرسية التي تتناول تاريخ المغرب موضوعا للنقد والمراجعة، وهي أول دراسة أكاديمية تقويمية في مجالها بالمغرب، ومن هنا تأتي أهميتها، إذ حاولت إخضاع التجربة في بدايتها لتمرين المُحاورة استنادا إلى نظرية ابن خلدون وآراء فلاسفة النقد التاريخي خاصة رموز المدرسة الوضعانية، حيث كان تأثير مدرسة الحوليات غائبا آنذاك في المغرب، ومع ذلك كان الجابري واعيا بكون النشاط التاريخي لايزال في بداياته، ومع ذلك اختار خوض مغامرة النقد النزيه للحصيلة، وحسب حسب تعبير الجابري: «إذا رافق النقد عملا من الأعمال منذ البداية، فإنه سيُساعد ولا شك على الاتجاه به الوجهة الصحيحة»، ولذلك حرص على إبراز جوانب النقص، ومواطن الضعف، دون الاستخفاف بالمجهودات التي بذلت خلال تلك الفترة الزمنية، إيمانا منه بأن تطور الاسطوغرافيا لن تتم دون تقويم ما أنجز وتغذيته بالملاحظات التي وإن كشفت مثالبه وعثراته، فإنها تطمح إلى الأخذ بيده في الاتجاه الصحيح.
تُعتبر محاولة الجابري بناءة ورائدة واستثنائية، لأنها لم تكن قائمة على المجاملات والتقريظ، بل استهدفت بمنهجها دفع حركة التأريخ بالمغرب نحو الجدية والموضوعية، الشيء الذي بدونه سيبقى العمل التاريخي عديم الجدوى، ولا شك أن مشكل القرب هو العائق الأساسي أمام الكتابة والنشر عن الحصائل وتقييم المنجز لما يسببه ذلك من حساسيات وردود أفعال سلبية، ولعل التخلص من مفعول هذا القرب هو أحد المنافذ التي جعلت الباحث خالد طحطح يقوم بتصريف هذا العمل اليوم، إذ مرت عليه خمسة عقود من الزمن ونيف.
من المفارقة أنه لم يُكتب لرسالة الجابري النشر ولا الشهرة، بالرغم من أنها كانت تمحيصا مبكرا لتجربة الكتابة التاريخية، ولو لم ينشرها الباحث طحطح لظلت مغمورة، وعليه وجب التنويه بالجهد المبذول لإخراج هذا العمل للوجود وإحيائه من جديد، فهذا التقييم في مجال الحصائل لم يكن متداولا، لذا كان يتم التحقيب بـ سنة 1989 باعتبارها السنة التي نشر فيها أول عمل عن حصيلة الدِّراسات التاريخية بالمغرب، والذي صدر تحت عنوان: البحث في تاريخ المغرب: حصيلة وتقويم، بإشراف الأساتذة: محمد المنصور ومحمد كنبيب وعبد الأحد السبتي، وقد جَمَع بين دفتيه أعمال ندوتَيْ «البحث الغربي حول المجتمع المغاربي في الفترة الاسْتعماريّة» و»ثلاثون سنة من البحث الجامعي.
قسم الجابري عمله عن التاريخ والمؤرخون في المغرب المعاصر إلى قسمين: الأول عن التاريخ ومهمة المؤرخ، وفيه حدد أهم المفاهيم والقضايا التي بدون استيعاب معانيها تظل ممارسة الكتابة التاريخية عديمة الجدوى، فميز بين دلالات كلمة «التاريخ» والفرق بينها وبين «التأريخ»، وبَيَّنَ معنى الحادثة التاريخية وصفاتها، وخلص إلى أنَّ المؤرخ هو الذي يصنع التاريخ باختياره لحوادث تاريخية دون غيرها، وهو من يصنعه بما يُبرزه في حوادث دون أخرى.
توقف الجابري عند الصعوبات التي تعترض المؤرخ في جميع مراحل عمله، الأولى تتعلق بالموضوع الذي يُعالجه المؤرخ، أي بالماضي الذي وَلَّى والذي يُطلب منه بَعْثُهُ مُجددا. والثانية خاصة بطبيعة عمله، أي بكيفية توفيقه بين التاريخ والفلسفة والعلم، رغم ما قد يكون بينهم من خلاف وتنافر.
إن إلقاء بعض الأضواء على هذه القضايا، يُمكننا، ولا شك، من التَّعرُّف على جوانب مهمة من الممارسة التاريخية في طموحها لإعادة بناء الماضي وإضفاء صفة المعقولية على وقائعه، وهنا تطرح إحدى أهم القضايا الشائكة في الكتابة التاريخية، ويتعلق الأمر بإشكالية التفسير والتعليل وبحدودهما، ويقصد هنا بالتفسير النهج التحليلي الذي يقوم على إبراز العلاقات السببية بين الظواهر، في حين أن الفهم نهج تركيبي يرتكز على تأويل النوايا البشرية عبر استعمال أساليب التفكير الفلسفي باعتبار أن الحقيقة البشرية الماضية ليست معطيات واضحة يستطيع المؤرخ الكشف عنها وعرضها بطريقة تامة، بل المؤرخ في الواقع يقوم بمساءلة تلك الحقيقة وإعادة ترتيبها وتنظيمها وبنائها من جديد في إطار تسلسل زمني وربطها بعلاقات سببية، فينتهي المؤرخ بذلك إلى تركيب الأحداث التاريخية من جديد.
هل المؤرخ يفسر أم يحاول فقط أن يفهم؟ وأين يختلف التاريخ عن العلوم الحقة؟ وهل الحدث التاريخي الذي يكتبه المؤرخون يُعَبِّرُ حقيقة عما حدث بالفعل أم أن الواقعة التاريخية هي من صنع مُخَيِّلَةِ المؤرخ وحده؟
إنَّ الاهتمام بالتاريخ لا يعني فقط الحصول على المصادر التاريخية المجهولة، أو الوثائق المطمورة، فهذه وتلك لا تعدو أن تكون المواد الأولية التي يعتمد عليهما المؤرخ في إعادة بنائه للماضي الذي انقضى. إن التفسير والتعليل اللذين يُطالب الجابري المؤرخ القيام بهما لابد أن يتأثرا إن قليلا أو كثيرا بآرائه الشخصية وبنوع الفلسفة أو المعتقدات التي يؤمن بها، وبالتالي فإن الصورة التي يُحاول تقديمها لنا عن الماضي يختلط فيها الذاتي بالموضوعي. ولاشك أن الذاتية موجودة في كل الأعمال التاريخية، فليس هناك تاريخ بدون ذاتية المؤرخ التي تصبح جزءا من العمل التاريخي. وفي العمق التاريخ هو تاريخ المؤرخين الذين يكتبونه، فالمؤرخ الذي عايش الأحداث وشارك فيها كذات فاعلة وكتب عنها تختلف نظرته عن الذي يكتب عن الحدث اليوم، إنه يكتب تاريخا مختلفا بمنظور وقراءة جديدة، ومع ذلك على المؤرخ أن يترك مسافة بينه وبين الموضوع الذي يشتغل عليه، ليس على المستوى الفكري فقط ولكن أيضا على المستوى العاطفي. فكيف نظر الجابري للموضوعية في مجال الكتابة التاريخية وما حدود الذاتية فيها؟
يُنهي الجابري القسم الأول من عمله بتوضيح العلاقة التي ربطت التأريخ والمؤرخ بالفلسفة ومنظورها، فالعمل التاريخي في نظره لابد أن يرتكز على فكر فلسفي عند الإنشاء والتركيب. فبدون فكر فلسفي لا يستطيع المؤرخ أن يخرج سالما من المطبات المنهجية، وبالتالي لن يكون في إمكانه قط بعث الماضي وإحيائه وتقديم صورة خصبة ومتعددة عنه.
يُتمم الجابري هذا القسم من بحثه وقد تمكن من تزويد الباحث في التاريخ أو الفلسفة بأدوات منهجية ضرورية للتعامل مع التاريخ وقضاياه، لينتقل بنا في القسم الثاني من دراسته لمراجعة حصيلة عشر سنوات من الكتابة التاريخية، من خلال تطبيق ما جاء في عدته المنهجية على المؤلفات التاريخية المعاصرة.
يضع الجابري حصيلة التأليف التاريخي تحت مجهر النقد، ويقصد بذلك المؤلفات العربية ذات الطابع التقليدي في الكتابة التاريخية، والتي كتبها مؤرخون مغاربة في ذلك العصر أو قبله. ثم مؤلفات الدراسات والأبحاث باللغات الأجنبية، خاصة الفرنسية منها، والتي صدرت حول المغرب وتاريخه القديم والحديث. وأخيرا الأبحاث الأكاديمية التي كُتِبَتْ بأقلام مغاربة معاصرين، فرغم أن هؤلاء أبرزوا ضرورة التَّقَيُّدِ بالمنهج العلمي إلا أن أعمالهم كانت بخلاف أقوالهم في الغالب.
يبدأ الجابري القسم التطبيقي بفذلكة جامعة، مُبرزا خصائص المؤلفات التقليدية وعبقرية ابن خلدون في زمانه، ويقف مليا عند التقليد الذي سقطت فيه الكتابة التاريخية بعد مرحلتين سابقتين تميزتا بالتجديد، وفي هذا الصدد استحضر قول ابن خلدون: «ثم لم يأت من بعد هؤلاء إلا مقلد وبليد الطبع والعقل أو متبلد، ينسج على ذك المنوال، ويحتذي منه بالمثال، (….)فيجلبون صورا قد تجردت من موادها (…) يكررون في موضوعاتها الأخبار المتداولة بأعيانها، اتباعا لمن عني من المتقدمين بشأنها». ولاشك أن مرحلة التقليد تمثل المرحلة التي عاصرها ابن خلدون، فالتأليف التاريخي في عصره أصابته عدوى الهرم، فهذا الداء العضال الذي تعدى مفعوله الحياة السياسية والاجتماعية امتد ليشمل الحياة الفكرية والعقلية، فمنذ أن بلغ التاريخ كَفَنٍّ قمة مجده في عهد الطبري والمسعودي (القرن الرابع الهجري) تقهقر شيئا فشيئا إلى أن أصبح التأليف التاريخي عقيما خاليا من كل فائدة، فكان الاختصار ديدن معظمهم، حيث يعمد البعض لتلخيص كتب المتقدمين في منظومات وأراجيز ومختصرات لا فائدة منها، فأفرطوا في الاختصار والتنميط، وربما نجد في موقف ابن خلدون ما يلقي بعض الأضواء على جوانب من تاريخنا الحديث وواقعنا الراهن، إذ نجد ملامح ذلك التناقض المزمن في حياتنا الأكاديمية اليوم وفي وضعيتنا التي تتجه لتكريس العقم والتنميط والتكرار.
كل كتب التاريخ قبل ابن خلدون كانت تستهل بمقدمة في فائدة التاريخ أو في المنهج الذي سيتبعه المؤرخ، ولم تكن تتجاوز تلك المقدمات بضع صفحات، وكانت تدخل ضمن تقليد روتيني معمول به، وجاءت مقدمة ابن خلدون لتخلق الفرق، فقد كانت تتوخى تأسيس علم جديد يتم بواسطته رفع التاريخ من مستوى الفن إلى مستوى العلم، أي رفع الكتابة التاريخية من مجرد سرد أخبار الأيام والحوادث الماضية إلى مستوى العلم الذي يقوم على النظر والتحقيق والتعليل والتفسير، وبيان كيف تقوم الدول والأمصار، وما يُرافق أو ينتج عن قيامها من صنائع، وبكيفية عامة كيف تنشأ الحضارة ولماذا تزول؟ هذا التصور الجديد والشامل لموضوع التاريخ يطرح قضية المنهج، وقضية المبادئ التي يجب أن يستند عليها هذا العلم؟ كيف نُضفي المعقولية على الظواهر والأحداث التاريخية؟ وهل الحوادث خاضعة في سيرها وتفاعلها لقوانين معينة واضحة وثابتة؟
ينتقل الجابري بعدها إلى الدراسات والمؤلفات والأبحاث التي كتبها الأجانب حول المغرب، وهي في نظره تحاول أن تُقَدِّم صورة منطقية لنسق تاريخنا، على أساس من البحث العلمي، بيد أن هذه الصورة ستبقى مع ذلك أقرب إلى الصورة الذهنية التي شكَّلوها عن تاريخ هذا البلد، وبعيدة عن الصورة الحقيقية المطابقة للواقع، وهذا ما يحصل في الغالب عندما يكتب الإنسان تاريخا لبلد غير بلده، فإذا كان المؤرخ الأجنبي ينطلق من دوافع علمية، فالخلفية الإيديولوجية تبقى حاضرة في أحيان كثيرة.
حصيلة كتابات السابقين والأجانب لم تكشف عن الوجه الحقيقي لماضي المغرب وتاريخه من خلال مراجعة الجابري، ومن ثمة فإن تاريخ المغرب في حاجة إلى أن تُعاد كتابته، تلك هي الخلاصة التي انتهى إليها. فكما سيتضح لنا أثناء قرائتنا لمضامين الكتاب، فإن ما توافر من أبحاث إلى حدود منتصف ستينيات القرن العشرين شيء هزيل جدا، فمن حيث المضمون يمكن القول بصفة عامة أن ما كُتب لم يخرج عن كونه إما اقتباسا من روايات وأخبار الكتب القديمة، أو استشهادا بتحليلات وآراء الدراسات والأبحاث التي قام بها الأجانب، وهذا التركيب التوفيقي لا يمكن أن يقدم لنا تاريخا حقيقيا، فالتاريخ كما شرحه الجابري في القسم الأول من دراسته هو أوسع من مجرد «تركيب سطحي»، إنه بحث دقيق ونظر وتحقيق. إن هذا هو ما افتقدته المؤلفات والأبحاث التاريخية الأولى مع استثناءات محدودة جدا، وفي صفحات القسم الثاني ما يؤكد ذلك، وما يكشف عن حقيقة مرة، وهي أن البحث كان لايزال بعيدا جدا عن التاريخ والتأريخ بالمفهوم الذي شرحه في القسم الأول.
جولة بين المؤلفات التاريخية المعاصرة غاصت في أهداف الكتب المدرسية، وخصائص مؤلفات التجميع والتحصيل (تاريخ داود والمعسول للمختار السوسي)، وبينت قصور المؤلفات في الحضارة المغربية (عبد العزيز بنعبد الله) وكشفت نواقص مؤلفات التاريخ العام، أو ما سماه الجابري التاريخ الحضاري (المغرب عبر التاريخ لإبراهيم حركات)، ووقف مليا عند رسالتين جامعيتين وهما الزاوية الدلائية ودورها العلمي والسياسي للأستاذ محمد حجي، ونشأة دولة الشرفاء السعديين بالمغرب للأستاذ عبد كريم كريم، وختم قسمه بنماذج من المقالات والأبحاث التاريخية التي صدرت بـ مجلة البحث العلمي، ومجلة تطوان ومجلة هسبريس تامودا، وإلى حد ما، مجلة دعوة الحق، وخص منها مقالات عبد القادر الصحراوي ومحمد المنوني وجرمان عياش.
في النهاية خلص الجابري إلى ضرورة إعادة كتابة تاريخ المغرب بالشكل الذي يُرضي تساؤلات المغاربة، ويلقي أضواء كاشفة على ملابسات حاضرهم، ويُزيل بعض الحجب عن وضعيتهم الراهنة، والوضعية أو الوضعيات التي هم مقبلون على مواجهتها في الغد القريب، ولكن كيف يمكن كتابة هذا التاريخ «الحقيقي»؟
إن الجواب على هذا السؤال تُمليه طبيعة المعرفة التاريخية نفسها، وهي المعرفة التي قال عنها الجابري أنها ذات جانبين؛ موضوعي وذاتي، يمتزجان امتزاجا: جانب تحدده المادة التاريخية التي على المؤرخ أن لا ينقطع قط عن البحث عنها في مختلف مضانها، وجانب تُمليه الأغراض التي علينا أن نتوخاها من التاريخ.
أبان الجابري في القسم الثاني من دراسته النقص الذي طبع الكتابات التاريخية الأولى، ولم يقتصر هذا النقص على العمل التاريخي كصناعة لها قواعدها وأصولها، بل شمل أيضا المادة التاريخية. فمعظم الذين ألَّفُوا في التاريخ اقتصروا على المؤلفات التقليدية وبعض أبحاث ودراسات المؤرخين الأجانب. وحتى لا يُصبح الأمر مُجرد اختصارات لما كُتِبَ بالأمس، فالجابري يقترح ضرورة العودة إلى كافة المصادر باختلاف أنواعها، من خلال البحث والتنقيب في مختلف المصنفات، المطبوعة منها والمخطوطة، سواء منها ما كان موضوعه الأدب أو التراجم أو الفقه أو التفسير. إن دعوة الجابري لتوسيع المؤرخ من دائرة مصادره ستتحقق مع الجيل الثاني، وهو ما أبرز تنوعا في الإنتاج التاريخي الأكثر موضوعية وشمولية لاحقا.
تنبه الجابري لأهمية الاستفادة من المصنفات المختلفة المشارب، ونوه في هذا الصدد بمجهودات الفقيه محمد المنوني بما نشره من الوثائق والمخطوطات النادرة، واعتبر الجابري الوثائق الخاصة والعامة أهم كنزٍ يستنير به المؤرخون طريقهم، فهي تختزن كثيرا من الحقائق التاريخية التي لا توجد في غيرها من المصادر، وهو أمر كان قد تفطن له أيضا الأستاذ جرمان عياش.
وإلى جانب الوثائق المحلية، دعا الجابري الباحثين آنذاك إلى النهل من الوثائق الأجنبية، سواء منها ما يوجد في دور المحفوظات والخزائن، أو ما نُشِرَ منها بخصوص المغرب كمجموعة دوكاستري الشهيرة. وليس هذا فحسب، بل لابد من الرجوع إلى كتب التاريخ الأخرى التي ألفها مؤرخون من الشرق العربي قديما وحديثا عن المغرب، دون نسيان التعامل مع المصادر المادية، والبحث عنها (آثار، نقود…).
لقد أبرز الجابري أهم جوانب النقص في العمل التاريخي بالمغرب سواء النقص «المهني» الذي يتجلى في عدم إدراك بعض من تصدوا للتأليف التاريخي لحدود وأبعاد المهمة الملقاة على عاتق المؤرخ، فالعمل التاريخي، كأي عمل علمي، له أصول وقواعد ومتطلبات. وليس من الجدية أن يَعمد الإنسان الخوض في ميدان يجهل أسسه وأصوله.
في خاتمته للعمل، وكما عودنا الجابري في أعماله اللاحقة، يتطلع الى الآفاق والرؤية المستقبلية، إنها امتدادات وآمال علقها على الفترات اللاحقة، وانطلق فيها أولا بتحديد الزاوية التي علينا أن ننظر منها إلى الماضي، ليكون منظورنا للقادم أوضح وأسلم.

(*) باحث في التاريخ الديني والأنثربولوجيا


الكاتب : الأستاذ ربيع رشيدي

  

بتاريخ : 29/10/2021