الإبداع الروائي والمجتمع

يَسُود اعتقاد فَحْوَاه أن الأديب إنسان يصنع عوالم من وَحْي أَخِيلَتِه تَعْنِيه وحده دون سواه. وتحت تأثير الثقافة التكنوقراطية، يَحْسبُ خَلْقٌ كثيرٌ أن الأدبَ مضْيَعَة للجهد والوقت معا؛ من ثم فلا فائدة من ورائه ولاجدوى.
لِنَسْأَل بالارتكاز على هاته الملاحظة الأولية: هل يَصْنَعُ الأديبُ فعلا عوالم من نَسْجِ خياله؟ وإلى هذا الاستفهام نضيف: أَيُمْكِنُنَا الزَّعم أن الأدب بضاعة خاسرة؟
محاولة الاقتراب من هذين التساؤلين اللذين ٱبتغيناهما مُحَرِّكَين لعملنا هذا سَتَقْذِفُ بنا في خِضَم تَطَارُح مهمة الأديب، فوظيفة الأدب الروائي تخصيصا في مجتمعاتنا العربية.
فمثلما أن الشاعر يكون شاعرا لأنه « يشعر ما لايشعر به غيره، أي يعلم» ؛ نلْفِي الروائي بدوره يعي ما لايعيه سائر الناس، ٱعتبارا لكون الرواية « تشكيلا للعلاقات الإنسانية بكل تعقيداتها «، وتعبيرا مُجَنَّحاً، ومُلتبساً عن عالم يكتشف نفسه « كغابة من الإشارات على حد قول عبد الكبير الخطيبي.
وترتيبا على هذا القول تغدو الرواية نظرة فنية تعبر عن الوجود العيني من جهة، وتشريحا دقيقا بمبضع الإبداع لأدق تفاصيل المجتمع والسياسة، ولطبيعة العلاقات السائدة من جهة ثانية، ثم تركيبا، وإعادة تركيب واعية للواقع الاجتماعي عبر أساليب السرد؛ والوصف، وتقنيات الحوار، وبناء الشخوص من جهة ثالثة.
بهذا المعنى تضحى الرواية تجربة إنسانية وجودية حَمِيمَة تَهُزُّ كيان صاحبها لتُحَرِّكَ فيه كل طاقاته الخلاَّقة، ومقدراته التَّخْيِيلِيَّة التي تسعفه في استحضار كل الأبعاد النفسية والاجتماعية دون فصلِ المعنى عن المبنى، وَوَصْمِ التجربة عن الأسلوب.
بصيغة أخرى، نقول إن الرواية رصدٌ للواقع لا نسخه نسخا فوتوغرافيا. أَفَلاَ يُعْتَبَر «الشكل الروائي… من حيث المباشرة والفورية، أكثر الأشكال الأدبية جميعا ٱرتباطا بالبنيات الاقتصادية، في معناها الدقيق، أي بنيات التبادل والإنتاج للسوق.» ؟
من المحقق أن الروائي فنان لأنه خالقٌ لعوالم، وناقدٌ لها في الآن عينه، لامتلاكه عينا فاحصة تخترق دواخل الناس؛ وتدقق في طبيعة العَوَائِد، ومنطق الأفكار، فَضْلاً عن أساليب التواصل وعلاقات الإنتاج… وهو ما يسمح لنا بالقول إن الرواية، وما شاكلها من الأجناس التعبيرية، ليست بمطلق الأحوال تَزَيُّداً فكريا كما يروج لذلك المنظور التِّقْنَوِي، بِحُسْبَانِهَا حَامِلَةً لِلُغةٍ، وتُرَاثٍ، ومُتَضَمِّنَة للصيرورات التاريخية للمجتمعات. كتب الشاعر» لويس أَرَاغُون « في الصدد ذاته مُوَضِّحاً: « الأدب، بالنسبة لأي بلاد، قضية جدية، إذ أنه وجهه؛ في آخر المطاف» ، بالنظر إلى ٱتصاله بالعقول والقلوب والأذواق ، والأخطر بقضايا الواقع الاجتماعي لأنه يعالج مشكلات الإنسان، وهموم الإنسانية واهتمامات الشعوب. وآية ذلك:
1- ما ٱنتبه له الباحث المصري « السيد يسين « في إحدى دراساته المهمة التي أبرز فيها أن إسرائيل وظفت، في حروبها مع العرب، إلى جانب ترسانتها العسكرية، الإنتاج الأدبي العربي، والمصري تحديدا، كٱستراتيجية لاتقل أهمية وقيمة عن التكنولوجية الحربية المتطورة التي شرعت في بنائها وحيازتها منذ نكبة 1948، ومرورا بحرب السويس عام 1956، ووصولا إلى نكسة 1967 التي ٱستتبعتها أزمات ما ٱنفكت تداعياتها تُرْخِي بظلالها على المجتمعات العربية إلى حدود اللحظة الراهنة. فقد عمدت إسرائيل إلى إنشاء قسم للغة العربية وآدابها بجامعتها بغية إعداد باحثين متخصصين في القضايا والمواضيع التي شكلت مدار انشغال الأدباء العرب؛ وطبيعة شخوصهم الروائية، ونفسانياتهم، وقناعاتهم العقائدية والمذهبية، وأساليب تفكيرهم، وطرق عيشهم وعوائدهم في المدن والأرياف على السواء .. هكذا ٱستخلص الباحثون الإسرائيليون، ٱستنادا إلى قراءاتهم المنظمة للإنتاج الأدبي العربي، أن شخوص تلك الأعمال ليست افتراضية أو وهمية نسجها خيال مبدعيها، وإنما هي شخوص مستقاة من صميم الواقع المعيش الذي تَخَلَّقَتْ منه؛ ومن التربة التي تَشَكَّلَتْ بين أحضانها.
فٱعتماداً على تلك الأعمال الأدبية، صاغ الباحث الإسرائيلي « فيكتور صنوع «، الذي كان يشغل مَرْحَلَتَئِذٍ منصب أستاذ للطب النفسي بنيويورك، تقريرا مُفَصَّلاً وَظَّفَهُ مسؤولو أركان الحرب الإسرائيلية كسلاح فعال وحاسم في ٱستراتيجيتهم العسكرية.
2-أعمال المفكر « إدوارد سعيد» التي ٱنهمكت في جزء كبير منها بنقد التجارب الروائية التي تتغذى من المرجعية الاستعمارية لتكرس المزيد من الاحتلال؛ والوصاية على مجتمعات بعينها، بالإضافة إلى تفكيكها للمرتكزات النظرية والإيديولوجية لظاهرة الاستشراق. أَلَمْ يستنتج « إدوارد سعيد « بأن الشرق ٱختلاق وصناعة غربية؟. .
3-تشديد المستعرب الياباني المعاصر» نوبوأكي نوتوهارا « على أهمية الأدب بكل أجناسه في تعميق التواصل بين الشعوب والمجتمعات. فقد لاحظ هذا الخبير في شؤون العرب أن القضية الفلسطينية طُرِقَتْ في الأوساط الثقافية، والسياسية اليابانية من زاوية لاديموقراطية، ووفق منظور غير عادل تماما. والحال أن تَحَوُّلَ مستوى الوعي بصددها، وبالتالي الانشغال بها؛ بما هي مسألة إنسانية حقيقية داخل مجتمعه، يعود الفضل فيه إلى انكبابه المتواصل على ترحيل نصوص كبار الأدباء الفلسطينين إلى اللغة اليابانية، وعلى رأسهم « غسان كنفاني « الذي مَا فَتِیءَ يُردِّد أن « الإنسان هو في النهاية قضية «؛ من ثم كانت رواياته كما قصصه حافزا ومحفزا على إيقاظ الوعي الفلسطيني بمناولته لحياة الخيام، وطرحه لقضية اللاجئين، ووضع المُقْتَلَعين، وحال المنفيين، ومسألة الوطن الذي جعل « غسان كنفاني « يتساءل بِحُرْقَة ولظًى: «ما هو الوطن؟! هو الشوق! إلى الموت من أجل أن تعيد الحق والأرض. ليس الوطن أرضا، ولكنه الأرض والحق معا. الحق معك والأرض معهم.»
حرقة الوطن. لوعة الوطن على وجه التدقيق، أَوْجَبَتْ أشياء عميقة، وفرضت معطيات جديدة لم تكن معتادة على صعيد الثقافة والفكر، ولاَمَأْلُوفَة على مستوى الاجتماع فالتحليل والمنهج. ويحتمل أن يكون ذلك هو الدافع الذي حَمَلَ « إحسان عباس « على تحصيل مايلي: « أن الصفة المهمة في أدب « كنفاني « هي بناء الروابط الجديدة بالأشياء، ومدِّ الجسور مع العالم.»
4- قيمة العمل الأدبي وأهميته تتمثل في المساهمة في طرح السؤالات الاستفهامية الكبرى كما شَدَّدَ على ذلك « رولان بارط «.
فلا يكتب الأدب لأجل الأدب عملاً بالمقولة «البارناسية» «الفن للفن «، على ٱعتبار أن الأدب لايطلب البَتَّة لذاته. يقول « نوبواكي نوتوهارا « موضحا هذه الفكرة: « أنا أعتقد أننا عندما نطلب الأدب للمتعة لاَنُبْدِعُ أَدَباً.» فنحن لانكتب بكيفية بريئة بحسبان أننا لا نستطيع « أن نَغُضَّ أبصارنا عن التغيرات التي حَدَثَتْ وتَحْدثُ حوالينا.»
وليس قصدنا هنا أن بالإبداع الأدبي سنغير العالم لأن الروائي لايغير العالم بقدر ما يعمل على إقلاقه؛ وإزعاجه بأساليب إستيتيقية أَخَّاذَة. ونُرَجِّحُ أن ذلك كان المَرْمَى الذي ٱبتغاه « سلامة موسى « حينما كتب: « ليس الأدب الإنساني، أن نؤلف القصص ونكتب القصائد كي نبعث في الأثرياء العطف على الفقراء، والتصدق عليهم وإنما هو أن ننظر بالعين الفنية للمشكلات الإنسانية والاجتماعية» كيما نَتَوَغَّلَ في عمق المجتمعات، ونَتَحَسَّسَ نَبْضَهَا، ونُنْصِتَ لإيقاعاتها، وآليَاتِ اشتغالها من خلال فنون التعبير عن الذات.
جزء كبير من هاته الملاحظات التي أوردناها يصدق على أعمال روائية قوية عربية وغربية يَجْدُر بنا، هاهنا، الإشارة إلى بعض منها على سبيل القصْرِ لا الحَصْر:
فرواية «المعطف « التي أبدعها « نيكولاي غوغول» تتضمن بين طَيَّاتِها نقدا صميميا لتركيبة المجتمع الروسي في العهد القيصري، ولظاهرة الفساد المستشري فيه جراء سطوة البيروقراطية، فضلا عن بؤس المستضعفين وغياب العدالة الاجتماعية.
وهكذا فإن شخصية « أكاكي أكاكيفيتش « المركزية في الرواية المذكورة تعتبر مثالا دامغًا على الإنسان الروسي البئيس، غير المحتَرَم من لدُنِ رؤسائه، والمُحْتَقَر من قِبَلِ زملائه في العمل / المكتب. شخصية « أكاكي أكاكيفيتش « نموذج حقيقي لاحتقار بسطاء المجتمع الروسي، المقطوعين عن الحياة، والفائضين عن الحاجة.
ليس من شك أن « نيكولاي غوغول « أديب رائد بحيث لاَيَعْدِله، فيما أُقَدِّر، غير مواطنه « فيودور دوستويفسكي» الذي كان بحق مبدعا موهوبا؛ و»مفكراً عظيماً « ؛ بل أبرز ميتافيزيقي أنجبته روسيا، وهو مَا مَكَّنَ « نقولا برديائف « من القول: « بالفن ينفذ دوستويفسكي إلى أسس عالم الأفكار؛ كما أن عالم الأفكار يشيع في فنه» .كأعاصير من اللَّهَب مُتَلَفِّعة بِنَفْحَة هيراقليطية ترى « كل شيء ناراً وحركة؛ وتَضَاداً وصراعاً « ؛ وأن الأفكار ماهي عَداَ موجات من النيران لامقولات مُتَخَثِّرة أبداً.. تصور لنا بفنية مدهشة طبيعة الإنسان الروسي المقهور، المنشغل بالبحث عن خلاصه الديني، وتطهيره الروحي لذلك كانت شخوص دوستويفسكي في منتهى الأسى؛ وغاية في الحزن. منشغلة بإيمانها المسيحي الأورثوذوكسي الذي قَدَّرته مُسْعِفاً في تلطيف الإحساس بالضيق؛ وخلاصا للتحرر من الحسرة، والانعتاق من العبث واللاَّمَعْنَى.
ومهما يكن من أمر، إن أعمال دوستويفسكي تطرح بعمق مأساة الإنسان الروسي الجَوَّانِيَّة، وتعكس شقاء وعيه. بهذا المعنى كان تَوَجُّه دوستويفسكي الأدبي ثوريا بامتياز، ومَنْحَاه تحريريا إلى أبعد الحدود.
نُحَصِّلُ مما تقدم معنا أن الإبداع الروائي ضَرْبٌ أدبي أكثر انفتاحا إن نحن قارناه بما سواه من الأجناس الأدبية؛ بحسبانه شكلا ثقافيا يصوغ وجهات النظر، والإشارات، والتجارب ٱعتبارا لكون الأمم مرويات، وسرديات ومخزونا ثقافيا « يجعلك تُبْصِر بشكل جيد وعميق نفسك، وقومك، ومجتمعك، وتراثك بشكل أفضل».
لِنَتَوَغَّل عميقا في إعمال النظر في وظيفة الأدب الروائي في مجتمعاتنا العربية من خلال وضع هذا التساؤل – الإشكال: كيف تتصور الرواية العربية مجتمعاتنا ؟
تتميز المجتمعات العربية بغلبة الطابع القبلي الذي تعززه الارتباطات، والقرابات الدمائية الناهضة على السلطة الأبوية كأداة للصَّهْر الاجتماعي من خلال ترسيخ التقاليد، والغيبيات، وقيم البداوة المُشِيدَة بالكرم، والفخر، وإشهار مختلف مظاهر الرجولة كالدفاع عن النساء؛ وحمايتهن بوصفهن شرفا، وقيمة تبادلية داخل المجتمع.
فالأب/ البطريرك هو المرشد، والناصح، والزعيم الذي يقود، وماعلى تابعيه إلا الانصياع المطلق لأوامره؛ وكل تلكؤ في الامتثال، والإذعان له يفهم كمس غير مستساغ بسلطته داخل العائلة – العشيرة. فهو المتحكم في مسار الأفراد، والمحدد لمصائرهم في الحياة التي يريدها أن تظل محافظة على المعتقدات والتقاليد؛ وَفِيَّةً للطقوس والعادات، وثباتية القيم والمعايير، وبالتالي لاستمرارية أسلوب التفكير، ومنظومة التنشئة السائدة.
إن « إسماعيل « بطل رواية «قنديل أم هاشم « كان يستعد للسفر إلى « بلاد بره « لدراسة طب العيون. والحال أن هجرته العلمية إلى « بلاد بره « كانت محط ٱرتياب أبيه / البطريرك الذي لم يكن ليقبل أن يُعَرِّدَ ابنه عن تعاليم الدين الإسلامي، وعَوائِد قبيلته التي نشأ عليها كي لا يتشبه ب « الخواجات «. وبكلمة واحدة، ألا ينحرف بانقطاعه عن ذكر الله، وتلاوة الأوراد، وألا يبتلى ب « العجمة وعجز البيان « مادام أن « الشرع هو الحق والعلم جميعا «
فقد أورد « يحيى حقي « مايلي: « بلاد بره ! « ينطق بها الأب كأنها إحسان من كافر لامفر من قبوله، ولاعن ذلة، بل للتزود بنفس السلاح. أما الأم، فمنذ الآن تركبها رعدة المحيط وتأخذها رجفة البرد. تتصور «بلاد بره» نهاية سلم عال ينتهي إلى أرض تغطيها الثلوج، ويسكنها أقوام لهم حيل الجن وألاعيبهم. أما فاطمة النبوية فقلبها واجف، تسمع أن نساء أروبا يسرن شبه عاريات، وكلهن بارعات في الفتنة والإغراء، فإذا سافر إسماعيل فلا تدري كيف يعود إن عاد.»
لأَبِ « إسماعيل « رغبة أكيدة وإصرار قوي على أن يتعلم ابنه، وأن يستفيد من علم الغرب الذي» لامفر من قبوله (= العلم) لا عن ذلة، بل للتزود بنفس السلاح»، أي تقنيات الغرب وتطوراته شريطة ألا يشمل هذا تحصيل ثقافة الغرب، والإلمام ببنيته الفكرية المحيطة بهاته الثقافة. وهنا، بالتأكيد، مكمن معضلة الانتقاء لدى العرب. للتدليل على هذا الكلام هاك هاته الفقرة: « وصيتي إليك أن تعيش في « بلاد بره « كما عشت هنا حريصا على دينك وفرائضه، وإن تساهلت مرة فلن تدري إلى أين يقودك تساهلك. ونحن يابني نريدك أن ترجع إلينا مفلحا لتبييض وجوهنا أمام الناس. وأنا رجل قد أوشكت على الكبر، وقد وضعت كل آمالنا فيك. وإياك أن تغرك نساء أروبا فهن لسن لك وأنت لست لهن. «وقد شرح الأستاذ «عبد الله العروي» هذه التلفيقية بقوله: « التأديب ليس التدريب والتأهيل. يتدرب المرء على التجارة أو الخياطة ، يتعلم الفقه أو الطب، يبرع في الرياضيات ولاينسلخ عن عوائده.»
لايقيم النظام الأبوي وزنا ولا ٱعتبارا لكيان الفرد؛ كما لايتيح للأولاد / الأبناء فرصا ممكنة لبناء ذواتهم بكل استقلالية وحرية أَمَلاً في ٱستنشاق هواء عصرهم. فالتنشئة التقليدية التي درجوا عليها تُلْجِمهم. تَأْسرهم وتسجنهم. بل تكبح تطلعاتهم وَتَفَتُّقَ قواهم الخلاقة، وتكبت دوافعهم، وتقمع أفكارهم وٱتجاهاتهم، ومشاعرهم لتضحى شخصياتهم متقوقعة؛ خَنوعة ومن ثم سجينة صراع لايبقي ولايذر مع ذاتها المأزومة وعالمها الهَجِين. تتجاذبها اتجاهات متعددة يتداخل فيها، صراحة أو ضمنا، التقليد والحداثة، العقل والنقل، الأصالة والمعاصرة، الماضي والراهن، والجديد والقديم..
السلطة الأبوية شديدة الوطأة على الأبناء، بالنظر إلى كونها تعمل على تكييف شخصياتهم كَيْما تظل طيعة، محافظة ومتحفظة، غير قادرة على الدفاع عن رأيها الخاص مادام أن الأب / البطريرك قوة رهيبة ورادعة، قامعة بالتوبيخ، والعقاب، والزجر، واللوم والصفع متى ٱرتَهَنَتِ الأمور بقضايا الجنس، والطابوهات التي تضع الحدود، وتفرض المتاريس التي لاينبغي تجاوزها. وهذا مَاتُجْلِيه بوضوح تام رواية « الحي اللاتيني « التي تنطوي على نقدٍ صميمي لأسلوب التربية السائد في المجتمعات العربية. فبطل « الحي اللاتيني « (= مجهول الاسم) الذي سافر إلى باريس لأجل ٱستكمال دراساته العليا ظل مع ذلك مثقلا بِوِزْرِ التقاليد. مشلولا ذهنيا. هُرُوبيا. مُفْتَقِراً لأي ذوق فني وأدبي بسبب حرمانه العاطفي، وجوعه الجنسي وقحطه المعرفي. نقرأ طَيَّ الرواية مايلي: « الإنسان الشرقي تُعْوِزُه الثقافة الفنية غالبا لأن هذا الذوق الفني يكتسب بالعلم والممارسة والصبر ولا يخلق مصنوعا في النفس.»
لاتتوقف رواية « الحي اللاتيني «، في تقديري، عند حدود مقاربة عالمين / ثقافتين: حداثة الغرب وتقليدية الشرق، بل تتجاوز ذلك إلى التفكير في ماعاشه البطل في مجتمعه الأصلي؛ وما يحياه الآن لينتصب الاستفهام أمامه وهو يتأمل مَلِيًّا حال « ناهدة « الفتاة العربية المنغلقة، الوَجِلَة، والمُتَوَجِّسَة من الرجل، المُتَبَلِّدة المشاعر والإحساس؛ والمُتَرَدِّدَة بٱستمرار.
« ناهدة « شديدة الارتباط بأسرتها. غير مستقلة. مسلوبة الإرادة. محرومة عاطفيا ومكبوتة جنسيا.
لذلك نُلْفِيهَا « تخاف الرجل، تخاف الكائن الذي ينبغي أن تثق به، لأنها تخاف الجسد الذي ينبغي لها أن تحبه» لتَتعَمَّقَ الْهُوة بينهما فتمتلئ كل يوم « بركام جديد من أحاسيس الكبت، والحرمان والخوف» الذي فرضته القوالب الاجتماعية الإقطاعية القَرْوسطوية. ويتعاظم السؤال حين يقارن البطل بين « ناهدة « و « وفرانسواز «، صديقة صديقه العراقي « فؤاد « التي تشتغل أمينة في إحدى المكتبات بباريس.
« فرانسواز» هاته شابة غربية، سليلة المشروع الأنواري التحرري لذلك فهي تفيض ثقافة وإنسانية. تعشق « فرانسواز» الموسيقى والمسرح، وتحب الشعر، وتهوى المطالعة. وهذا هو سِرُّ تَحْصِيلِها لذوق فني مرموق؛ وٱمتلاكها لِحِسٍّ نقدي رفيع ومدهش.
فثقافة « فرانسواز « أصل ٱستقلاليتها وتحررها، وٱعتدادها بامتلاك أمورها الشخصية بمنأى عن كل سلطة داخلية كانت أم خارجية.
يصف بطل الرواية هذه الشابة الفرنسية بٱنبهار؛ فلطالما لاحظ أنه كلما خرج وأصدقاءه لتوهم من مشاهدة مسرحية في « الكوميدي فرانسيز « و» ٱنفضوا من المسرح، أخذوا يُعَقِّبُونَ على المسرحية. وحين فرغت « فرنسواز « من الإدلاء برأيها، أَيْقَنَ أنَّ أمامه فتاة رفيعة الثقافة، ناضجة الحس.»
ولايختلف حال « ناهدة « في شيءٍ عن حال «محسن».3 يجسد « محسن « حالة « الشاب العربي الواقع تحت رَسْفِ عوائد مجتمعه الشرقي مثلما تمثل « ناهدة « المرأة العربية الواقعة في قَبْضَةِ الثقافة القضيبية. فحتى وإن يَمَّمَ « محسن « شَطْرَ العاصمة الفرنسية طلبًا لتأهيله العلمي؛ ظلت أثقال التقاليد حاضرة في تصرفاته، وبات السلف جاثما بقوة على ذهنيته.
يمارس العربي مَسْلَكِيَّات بعينها دون أن يضعها أمام السؤال الجذري؛ ولربما هذه هي حقيقة شخصية «محسن» البئيسة عاطفيا، والمنخورة نفسانيا إلى حد أنها لم تكن تَجْسُرُ على المجابهة، أو تقوى على الإفصاح عن مشاعرها وميولاتها حيال الجنس الآخر. لذلك نلاحظ حرص « محسن « على تجنب اللقاءات العلنية في الأماكن العمومية التي يُحْتَمَلُ أن تجمعه بالفتيات؛ وبِمَنْ يعشقُ، « سوزي « والحالة هذه ، الشابة الفرنسية التي تَوَلَّهَ بها بِحُبٍّ أفلاطوني لم يَسْتَسِغْهُ « أندري « الذي كان محسن « نزيلا لدى أسرته.»
ظل « العصفور المصري « يقتفي أثر محبوبته « سوزي» التي تعمل بائعة للتذاكر في مسرح» الأوديون» في قلب باريس. كان يسير على إثرها من غير أن تفطن لأمر الفتى الذي قمع حبه بين جوانحه فلم يجرؤ يوما على مكاشفتها به، أويُسِرَّ لها عما يتلجلج من لَوَعَةٍ في صدره. كان خجولا إلى أبعد الحدود . فقد شكلته تقاليد محيطه على دَيْدَنِ النَّأي، والالتزام بمسافة ٱجتماعية (= ونفسية أيضا ) فَصَلَتْ بينه وبين النساء؛ كما أجبرته على تجنب كل تواصل معها ٱعتبارا لأن الفصل بين الجنسين ظل أساس تتشئته التي ترتب عليها ٱهتزاز ثقته في نفسه؛ وٱرتباكه لحظة محاولته إبداء رأيه، أو التعبير عما يَجِيشُ في صدره.
ولما لم يستطع « أندري» فهم دواعي تردد « محسن « ولاتصرفاته، وقد أطال المكوث في المقهى قبالة « الأوديون « يراقب عن بعد « سوزي « انتفض أمامه قائلا بٱستغراب:
« لا!…حقيقة لا !…إنني لا أستطيع أن أنفق عمري جالسا هكذا…إن الزمن شيء لاتعرفونه أنتم معشر الشرقيين، ولايعنيكم أمره!…»
هكذا» حَمْلَقَ أندريه في محسن مليا، ثم صاح : آه، أيها الشرقيون !..أنتم بلهاء أم أنتم حكماء؟…هذا مايُحَيِّر !…
-تلك عبقريتنا !…»
تُجْلِي هذه الاقتباسات، وما أكثر غيرها، أن صدمة الحداثة أربكت توازن الشخصية المتخلفة لِتُصَيِّرَهَا متقلِّبة ومهتزَّة. في الشرق يختنق الجسم والروح معا. أما في الغرب فيكون طلقا. على أن الفقرة التالية المقتطعة من رواية « أديب « هي أبلغ تعبير عن التناقض الوجداني الناجم عن التأرجح بين ثقافتين: إِصْرُ العادات وصلابة التقليد، والحاجة إلى الحداثة كضرورة ملحة: « أشعر بأن نشأتي في مصر هي التي دفعتني إلى هذا كله دفعا وفرضت هذا كله علي فرضا، لأني لم أنشأ نشأة منظمة ولم تسيطر على تربيتي وتعليمي أصول مقررة، وإنما كانت حياتي مضطربة كلها أشد الٱضطراب، تدفعني إلى يمين وتدفعني إلى شمال، وتقف بي أحيانا بين ذلك. ولو أني بقيت في مصر لأنفقت حياتي كلها كما بدأتها في هذا الٱضطراب المتصل في غير نظام وإلى غير غاية. ولكني عبرت البحر إلى بيئة لايصلح فيها الٱضطراب، ولاتقوى على الحياة فيها نفوسنا الضعيفة المضطربة. فلم أحسن لقاءها ولم أحسن ٱحتمال الأثقال فيها. ولم أحسن الخضوع لما تفرضه من نظام وٱطراد.»
تلك، في ما أحسب، عينة تمثيلية، رَمَيْنَا منها إثارة إشكالية علاقة الرواية العربية بالمجتمع، وقد حملتنا على الخُلُوص إلی مايلي :
1-أن الرواية تَجَلٍّ من تَجَلِّيات الوعي الإنساني شأنها في ذلك شأن مختلف الفنون الجميلة المجسدة لروح الأمم (= الروح الاجتماعي) ولعبقريتها الخاصة.
2-ثم إنها تنحو منحى التحليل الفني الذي يتقصد الكشف عما يَعْتَمِلُ فِي المجتمع من أحداث بأساليب جمالية؛ فضلا عن أنها نظرة فنية تُثَغْثِغُ بتفاصيل العلاقات السائدة؛ ولسيكولوجيات الشخوص التي تتبدى مُمَزَّقَة بين أثقال الماضي، وسطوة حاضر يَمُورُ بأسئلة الراهن التواقة إلى تأزيم الموروث الثقافي وإن بعنف بَيِّنٍ أحيانا.
فقد أورد ناشر رواية « عمارة يعقوبيان « أن علاء الأسواني؛ جراح الأسنان، كتب رائعته الأدبية هاته متقصدا الكشف عن السوس الذي ينْخُر مجتمعه بدءا من لحظة « انقلاب الضباط الأحرار»، ومرورا ب « مرحلة الانفتاح «، ووصولا إلى ما بعد أحداث سنة 1977 الدامية.

-نص المداخلة التي قدمتها بجامعة « ليل» الفرنسية لطلبة الدراسات العليا قسم اللغة العربية وآدابها يوم 12 مارس 2021.
(باحث في علم الاجتماع)


الكاتب : د. ناصر السوسي

  

بتاريخ : 08/09/2023