الإبداع عربون الوفاء والإخلاص في ذكرى تأبين الفنان عمر أفوس(1949 ـ 2005)

رغم أن الظروف فرقت بيني و بين الفنان عمر أفوس ولم تجد لا بلقاء ولا بإطلالة على منجزه، فإن اطلاعي على الورقة المسكوكة
التي اقتطعها الفنان إبراهيم الحيسن من مونوغرافيته حوله تحت عنوان «سلطان النور» وعلى صور لبعض لوحاته، خاصة تلك التي تنتمي
للمرحلة الحروفية، حفزتني على أن أدلي بالملاحظات التالية في شكل رؤوس أقلام:
ـ إن اختيار الفنان عمر أفوس للحروفية كموضوع أو الأصح كموتيف هو اختيار استراتيجي ، لأنه يحسم أمر إشكالية الأصالة
والمعاصرة.فالاختيار أصيل يعود إلى اكتشاف الحروف المكونة للغة العربية (في القرن الرابع الميلادي) وإلى تشكيلها ونحتها
وتصفيفها، والتعبير بها في تركيبها بمزجها و فصلها أو ربطها في كلمات ثم عبارات ..هذا الإرث يكوّن الآن ذاكرة، منذ اللحظّة
الأولى لفصل الشفاهي عن الكتابي وتأصيلها كذاكرة منفصلة عن النسيان. إن مقاومة التاريخ والتغيرات سيفرز لنا عدة خطوط
مختلفة في كتابتها: الكوفي والرقعة و النسخ والثلث والديواني والفارسي والأندلسي والمغربي وخط الطغراء على النقود…
كيف نتعامل ونتفاعل الآن مع هذه الذاكرة؟
ـ أمامنا الآن (أمام الفنان الآن) اختيارات عدة : إما أن يستمر في تخطيط تلك الحروف كما خطها مؤسسيها ويحافظ على صفة فنان
خطاط كالفنان محمد قرماد، أو أن يعتمدها كذريعة لبناء وتشييد لوحاته كما يفعل الآن الفنان عبد الله الحريري والفنان سعيد الرّغاي،
وقد يختار كل منهما خصائص تميّزه كاختيار سعيد الرّغاي خاصية التكرار والأمثال أو الأشعار المشهورة، أو اختيار عبد الله الحريري
الحروف المنفصلة عامة دون صياغتها في كلمات ولا عبارات وتشتيتها في فضاءات كروماتية.
هذه الاختيارات يجيزها ويؤسسها معيار واحد هو الإبداع.
ـ بين الاستمرار في إبراز جمالية الحرف أو الخط العربي وإضفاء قدسية القرآن عليه، واعتماد آيات وسور منه، وبين الاجتهاد في
صبغ صفة الأنسنة عليه والعمل على ابتكار أشكال جديدة و جمالية مغايرة، يعترضنا مطبّ يمكن صياغته على الشكل التالي:
«العديد من المحاولات الفنية تميل إلى اختيار روحانية ما تصهر فيها عملها وتدمج ضمنها منجزها ، ولتكن هذه الروحانية هي الصوفية
سواء كانت طرقية أو فلسفية، معتقدين أن نتائج الصوفية إذا وافقت أعمالهم أو أعمالهم وافقت نتائج الصوفية، فإنهم حققوا إبداعية فنية وجمالية.»
كأن يخطط الفنان أبياتا شعرية لابن عربي أو الحلاج ويعتبرها إبداعا ، والحال أن الأمر لا يعدو أن يكون نقلا أو تقليدا.
ـ الصوفية اختيار وتجربة، أما التشكيل فاختيار وتجريب. لكن بينهما قطيعة إبستمولوجية (لكل منهما مسلماته وأدواته ومنهاجه)، إلا أن
الأسبقية للتجربة أي للرؤية وللحدس على التجريب والتخطيط والتعبير .ابن عربي لو لم «يفتح عليه الله»لما كان شاعرا ولا فيلسوفا أي مبدعا.
التصوف الطرقي أكثر انغلاقا ودوغمائية من التصوف الفلسفي لأن هذا الأخير أكثر انفتاحا على التجربة يسبر أغوارها لما تنفتح أمامه الأبواب الموصودة والأسرار المستغلقة، ويبقى قاب قوسين أو أدنى من الحقيقة المطلقة، لذا يمكنه أن يعبر عنها صاحبها شعرا
أو فلسفة أو تشكيلا .
ـ لماذا نعبر عن «التجربة الصوفية» بقاموس ديني أو لاهوتي غيبي متافزيقي لأن التجربة لا إنسانية أو تفوق قدرات الإنسان كإنسان.
ليوطار يسميها «اللاإنساني»فما هو هذا اللا ـ إنساني الذي يسكننا بشكل غريب؟هذه الغربة هي أرض يباب ، مكان فينا ينفلت من كل
مراقبة ويتجاوز كل تواصل، مكانه سرّي لا نتحكم فيه بواسطته نكتشف حقيقتنا ..نكتشف الشريك الغريب الأطوار فينا.
هو اللاشعور تارة والحمق تارة أخرى، هو العبقرية هو الذكاء، هو الحدود القصوى لما هو طبيعي فينا هو الخارق للعادة ..
هو الطفولة حين تكبر فينا..
ـ الإبداع يقطن في هذه الأرض الخلاء بل هو هذه الأرض .أرض لم يطأها أقوام ولا ألسنة إلا لماما.لم يكتشف إلا اليسير منها .
هذه الجهة يسميها دولوز : الكاووص أي العمى والسديم . يمد الفنان يده إليه ليقتطف ما تلامسه تلك اليد .هكذا انبثقت حروف
عبد الله الحريري من أفق هذا السديم، لذا فهي دوما متدافعة في ما بينها تعاند هذا اللون أو ذاك ..

* ألقيت هذه الورقة في فعاليات تكريم الفنان التشكيلي الراحل عمر أفوس
التي نظمت من طرف جمعية أتولييه آثار أرث بتنسيق مع المدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء يومي 26 / 27 أكتوبر 2023.


الكاتب : إدريس كثير

  

بتاريخ : 02/11/2023