الإبداع وجدلية المقدس والدنيوي

 

(تضامنا مع الكاتبة فاطمة الزهراء أمزكار)

في المدخل النظري

إن جدلية المقدس والدنيوي هي جدلية عابرة للزمان والمكان. لقد عانى الشاعر العربي أثناء العصر الإسلامي من سطوة رجل الدين وقربه من السلطة السياسية التي كانت تتحالف معه ضد الشاعر، الذي يبدو مشوِّشا على الدعوة الدينية. ولا غرابة أن رجل الدين قد صد المد الأدبي خاصة الشعر، ليس دفاعا عن الإسلام ولكن قصد التقرب من السلطة السياسية، وإثبات مكانته داخل هرمية المجتمع الإسلامي. لقد تحدث المفكر فرج فودة عن الشعر العربي في العصر الإسلامي، وذلك في كتابه الحقيقة الغائبة وخلص إلى أن الشعر العربي لم يكن مزدهرا في هذا العصر، بالمقارنة مع العصر الجاهلي، وكذا الأموي والعباسي بعد الدعوة الإسلامية. لا يمكن للشعر أن يزدهر في ظل ثقافة التحريم، كما لا يمكن للشاعر أن يكون تابعا للسياسي ولرجل الدين. الشيء نفسه ينطبق على الرواية والنقد الروائي، سواء في العالم العربي أو في الغرب قبل ذلك، يقول بيير شارتيه: «لنغلي ديفرينوي ناقد فرنسي ينتمي إلى عصر الأنوار رفض الأخلاق الكنسية، وأعلن إلحاده في اتجاه الكنيسية وتعالي الإله، فحاول من هذا المنطلق أن يدافع عن تحرر الرواية من أخلاق الكنيسة لكي تكون عميقة في وصفها وهو ما جعله يتعرض لحملة شرسة من قبل الكنيسة ورجالها». إن الإلحاد ليس ترفا فكريا، أو نزقا سياسيا، وإنما هو بمثابة موقف وجودي، موقف من الإله ومن الحياة، وعليه تترتب باقي السلوكات الأخرى، وتنبثق المواقف الرئيسة والثانوية.
إن الموقف من أخلاقوية الرواية في النقد الأدبي، هو موقف صارم يتخذه الناقد في البداية، قبل أن يباشر عملية دراسة الإبداع. إن ضرورة تحرير الرواية من قبضة الدين، ليست بالمسألة الهينة، وليست موجهة ضد الدين، في حد ذاته، غير أن احتكار هذا الأخير من قبل رجال الدين والسلطة عموما، هو الذي يجعل بعض الروائيين يتخذون موقفا جذريا من الدين. تحرر الرواية من الدين، يعني مناقشة المواضيع؛ كل المواضيع الروائية دون تحفظات تذكر، وهذا ينعكس إيجابا على النقد الروائي كذلك، يقول بيير شارتيه: «إن الرواية منذورة لمصير آخر غير التسلية العابثة أو المرشد الواعظ، لأنها تعبر أفضل من أي شكل أدبي آخر عن التطلعات الدنيوية لإنسان جديد بالتأكيد يطالب علنا وبقوة بالاستقلال الذاتي لرغباته». هذا هو مصير الرواية الذي ينبغي أن تحبه وتسلكه وأن تدافع عنه إلى آخر رمق. إن الرواية وإذا كانت ستكرر ما يقوله رجل الدين بشكل ببغائي، فإنها لن تكون بارعة مثله في ذلك، لذا فإن عليها أن تخوض في مواضيع غير مطروقة من قبل رجل الدين. يقول بيير شارتيه: «إن هييه، بالحس الديبلوماسي الذي يتميز به، يجعل للرواية حيزا ضمن الآداب دون أن يقطع الروابط مع صرامة دارسي البويطيقا في عصره. فهو يهيئ للنوع موقعا عاما وخاصا في آن واحد يمكن للرواية باعتبارها استراحة للمتأدبين الكسالى أن تتبنى الثقافة الأرستقراطية عن طريق تشذيب يقظ، وتلك هي الغاية حتى وإن كانت الرواية تنسب حتما، حسب نظريته إلى متخيل الإنسانية… النوع الأكثر دنيوية بين جميع الأنواع: الرواية.»

مثلية إبداعية لا مثلية واقعية

فاطمة الزهراء أمزكار، أستاذة يافعة، منخرطة بقوة في موضة السوسيال ميديا، حيث تكتب وتصرح بين الفينة والأخرى، مغلبة الكتابة على المقابلات الصحافية النادرة… منذ سنوات خلت، وهي تنشر القصص القصيرة التي تكتبها عبر الفايسبوك، كما تنشر مقاطع من روايتها قبل اكتمالها الأخير، دون أن تثير حفيظة أحد… بداية سنة 2022، ستصدر أخيرا روايتها الأولى عن دار أگورا، بعنوان «مذكرات مثلية» دون أن تثير انتباه أحد كذلك، لأن الرقيب أميٌّ لا يقرأ الكتب لكي يقبل بعضا منها ويرفض البقية. ولو كان يفعل ذلك لصودرت الكثير من العناوين المختلفة، أو لصار مثقفا في المقابل وتخلى عن دور الرقابة البوليسي المقيت… بالموازاة مع المعرض الدولي للكتاب الذي أقيمت دورته الاخيرة بالرباط، ستنظم دار أگورا حفل توقيع للكتاب… من هنا بالضبط ستثار قضية الكتاب لأول مرة من خلال الموضوع الذي عالجته الكاتبة الشابة. إن المثلية التي تطرقت إليها الرواية هي مثلية فنية أدبية، يمكن النظر إليها من زاوية النقد الأدبي الذي يمكن الاستعانة به، في تقويم العمل الأدبي، دون ربط ذلك بالواقع المجتمعي وبشخص الكاتبة، ذلك أن المثلية مجَرَّمة في القانون الجنائي المغربي، وهذا نقاش يتطلب مدخلا قانونيا وحقوقيا وإرادة سياسية قوية. وفي المقابل، هل المثلية مجرمة في الإبداع الفني؟ هل يمكن محاكمة البطلة في الرواية وفقا لفصول القانون الجنائي؟ هل يتحمل السارد المسؤولية الكبرى من خلال زاوية النظر التي بَأَّر من خلالها على الموضوع السردي؟…
من الناحية الفنية الصرفة، يحق للقارئ وللناقد الأدبي الحكم على الكتاب من حيث الثيمة والموضوع والشخصيات والشكل السردي، دون تجاوز ذلك إلى القول بأن الرواية تهدف إلى نشر «الرذيلة» و»الفسق» و»الفجور» و»الشذوذ» بين الشباب. هذه مغالطة مفادها التضييق على الإبداع باسم الدين. لقد بادر العديد إلى الحكم على العمل ومهاجمة الرواية دون أن يقرؤوها، وهو ما لا يستقيم مع النقد البناء الذي ينبغي أن يكون من أجل إنصاف العمل إبداعيًا. والأكثر قبحا وتهافتا في الموضوع هو أن ترضخ إدارة المعرض إلى تلك الأصوات النشاز التي طالبت بوقف عرض الكتاب وإلغاء لقاء التوقيع، والحال أن الإدارة لا علاقة لها بما يُعرض داخل الأروقة ما دام أنها قد رخصت لكل دور النشر الحاضرة في هذه الدورة. وبما أن الموضوع قد اتخذ صبغة فضائحية، كان على الإدارة أن تكلف على وجه السرعة لجنة مكونة من بعض النقاد من أجل الحسم في طبيعة الكتاب وجنسه الأدبي، ومدى استيفائه للشروط الأجناسية، دون السقوط في الحكم الأخلاقوي الضيق.
إن مصادرة حق الكاتبة في العرض والتوقيع، هو مصادرة للحق في حرية الضمير والفكر، وللحق في الإبداع، وهي مصادرة ستلاحق إدارة المعرض طيلة زمن المعرض الدولي وفي الدورات المقبلة، حيث سيطفو دائما هذا النقاش حول الرقابة ومحاكم التفتيش.


الكاتب :  زهير دادي

  

بتاريخ : 08/07/2022