الإستوغرافيا الأجنبية والمتخيل المائي

ولجت كلمة المُتخيل باحة العلوم الإنسانية والاجتماعية بمقتضى أدبيات القرن التاسع عشر. وُظفت الكلمة توظيفا إجرائيا من أجل النفاذ إلى عمق الظواهر الاجتماعية والطبيعية والأعمال الأدبية والأساطير والمعتقدات والأديان…والحال، تدين الكلمة في ترسخها داخل حقل اجتماعيات المعرفة الانسانية إلى أعمال كل من كاستون باشلار Gaston Bachelard وكاستور ياديس Cornelius Castoriadis وجلبير ديان Gilbert Durand… .
أضحى المتخيل انطلاقا من هذه الأعمال المؤسسة «…حصيلة ما تفرزه عملية التخيل أو القوة التخيلية، الذي قد يكون فرديا أو جماعيا، وقد يكون متعلقا بحالة سوية، أو حالة مَرضية… «.
جاء في لسان العرب عن المتخيل: خال الشيء يَخالُ خَيْلا وخِيلة وخَيْلة وخالا وخيلا بمعنى ظن . تفيد هذه المعاني الوهم والظن والشَّبه أو المحاكاة. والمتخيلة هي «…القوة التي تتصرف في الصور المحسوسة والمعاني الجزئية المنتزعة منها، ويتم التصرف فيها بالتركيب تارة، والتفصيل تارة أخرى…» .
نصل إلى أن المتخيل الأجنبي عن مغرب الأمس متعدد ومركب، لا ينحصر في قالب واحد، بقدر ما يترجم سلسلة من الصور الذهنية التي تتصل برؤية استشراقية تشكلت في عصور التصادم بين دار الإسلام» و»دار الكفر»، وجرى ترسيخها في كنف المركزية الغربية. تعود الكلمة من حيث التأصيل إلى الكلمة الإغريقية Imaginarius التي تعني: الشيء الذي لا وجود في الواقع، أو ذاك الذي لا وجود له إلا في ذهن الإنسان كصور ذهنية.
توقفت الإستوغرافيا الأجنبية عند مبحث المتخيل المغربي، وتحديدا المتخيل المائي، في ارتباطه بالأنهار والبحار والقوى الطبيعية. لكن يبدو جليا أنها أضفت عليه صفة الثبات والاستقرار، وانتهت إلى تصنيفات ساذجة قد لا تنسحب إطلاقا على عموم الواقع التاريخي، بقدر ما قد تنسحب على لحظة مخصوصة منه ارتبطت بلحظة اختناق المسار التاريخي . فإلى أي حد نستطيع أن نتثبت من صحة الفرضية القائلة بأن المغرب كان بلدا ذا نزعة قارية، عواصمه السلطانية داخلية النشأة والتكوين، ومِلاحته البحرية ذات ارتباط بالعناصر الخارجية؟
مهما قيل عن مسألة الاختناق الاقتصادي، فقد دشن احتلال مدينة سبتة 1415م بداية مرحلة الانكماش والانزواء المغربي عن البحر. صدف المغاربة عن شؤونه، وتركوا أموره تحت مسؤولية القوى الأوربية التي تسلحت وقتها بالتفوق التقني، وكانت الغلبة لسفينة «الكارافيلا على القافلة» بتعبير أحد المؤرخين البرتغاليين. ورغم المحاولة اليائسة للسعديين من أجل إعادة بناء أسطول مغربي حديث، إلا أنها ظلت محاولة يائسة، وطموحا غير ممكن التحقق بسبب انقلاب الموازين وتبدل المسارات.
من هذه الخلفية، حمَّلت الإستوغرافيا الأجنبية مسؤولية توتر العلاقات المغربية الأوروبية خلال العصر الحديث إلى المغاربة، وتعمدت مسح كل اضافة مغربية في أمور البحر، مثلما عمدت إلى ربط سلوكات اللصوصية والنهب والعنف بالمغاربة…مثل هذه المواقف لا يمكن أن تضمن لنفسها البقاء في صلب التاريخ، ولم تعد مقبولة في الكتابة التاريخية المعاصرة، ف»القرصنة» مثلما يقول فرناند بروديل مغامرة وحرفة لا وطن لها ولا دين لها «.
من شأن دراسة علاقة المغاربة بالبحر أن تكشف عن طبيعة المواقف والذهنيات التي هيمنت على تفكير المغاربة منذ بداية العصر الحديث إلى لحظة حدوث الرَّجة الاستعمارية مستهل القرن العشرين، وهو الاستغراب ذاته الذي حملته الإستوغرافيا الأجنبية عن المغاربة، وعن سبب إعراضهم عن شؤون البحر، وانكفائهم على شؤون الداخل. نفس الاستغراب يقف عنده الباحث اليوم، لم تخلف الكتابة التاريخية المغربية شيئا ذا بال يذكر عن البحر إلا في ما ندر.
هذه الجزئية دفعت الباحثين الفرنسيين مستهل القرن العشرين ( لوي برونو- إميل لاووست- جورج كولان- روبير مونتاني…) إلى إجراء تحريات ميدانية عكفت على دراسة المصطلحات البحرية داخل المناطق الأمازيغية. تحريات ميدانية ظلت مُغلفة بمواقف سلبية.
انشغلت هذه التحريات بالكشف عن أنواع الأسماك وتقنيات الصيد والقوارب…فهذا لوي برونو L. Bruno يرجع هذه المصطلحات البحرية ذات الاستعمال اليومي بكل من مدينتي الرباط وسلا إلى الأصل الإسباني بالقول: «…الصناعات البحرية الموجودة في المغرب صناعات مستوردة من اسبانيا… « مثلما يقول في موضغ آخر، أن»…فزع الانسان المغربي من البحر يعود إلى جهله بأبسط المعطيات النفسية والطبيعية المتعلقة بشؤونه، بالإضافة إلى الأوهام والوساوس والخرافات والأساطير التي تهيمن عليه وتحدد علاقته بالبحر… « ما يجعل خوف المغاربة، حسب هؤلاء من البحر، مسألة ثقافية ذات تجذر حضاري وتاريخي.
لا غرابة إذا ما استحضرنا السياق العام الناظم لهذه التحريات أن يسير روجي كواندرو R. Coindreau صاحب كتاب «قراصنة سلا» نفس وِجهة لوي برونو. يعتبر كواندرو أن البحر باب الخلاص ورمز الحرية للفرد والجماعة في أروبا الحديثة ، وأن ظاهرة الخوف من البحر ظاهرة إسلامية عامة «…فالخوف من البحر ظاهرة عامة عند المسلمين، ويبقى هذا الرعب أشد حدة عند المغاربة مقارنة مع غيرهم من أهالي شمال افريقيا… « ويزيد على ذلك»…معرفة الأهالي بتقنيات البحر بسيطة جدا ومواقفهم منه ساذجة… «. ما دفع المغاربة من الاستعانة بالخبرة الأجنبية.
خوف المغاربة من البحر مصدره الجهل، ومبعثه الحذر. لقد خلفت الذاكرة الشعبية صدى عن هذا الخوف بقول مأثور: ثلاثة لا أمان فيهما: البحر والسلطان والزمان .
إذا تقدمنا في الزمن، يقف قارئ المتن الإستوغرافي الأجنبي عند حدود مشروعية سؤال جوهري صاغته تقارير وتحريات البعثة العلمية مستهل القرن العشرين: كيف يُعقل أن يتجاهل المغرب الخيرات التي توفرها له أنهاره وسواحله البحرية التي تقدر بثلاثة آلاف كلمتر ؟ هل من المعقول حسب زعم روبير مونتاني أن يعيش هذا البلد أسيرا تحت رحمة الأمطار، وأن يبقى مهددا على الدوام بشبح المجاعة، في الوقت الذي تعد فيه مياهه البحرية من أغنى المياه الأطلنتيكية؟ لماذا لم ينتبه هذا البلد إلى محورية الاقتصاد البحري في النمو، على غرار أروبا التي انتبهت إلى هذا الاقتصاد بشقيه العسكري والتجاري، وصار المحرك الأساسي للنمو لديها ما بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر . ما حقيقة أن المغاربة أداروا الظهر للبحر والماء كما تدعي الكتابة الاستعمارية؟ وهل يمكن الحديث عن الماء في مُتخيل واحد أم في مُتخيلات مختلفة؟ وهل علاقة المغاربة بالبحر والماء ظلت سطحية وارتبطت في أساسها بعناصر خارجية، وما الأسباب التي حالت دون اهتمام المغاربة بالبحر حتى يجعلوه محركا لاقتصادهم على غرار ما حصل في البلدان الأوربية خلال العصر الحديث ؟
الاقتراب من قضايا المتخيل هو اقتراب من الذهنية المغربية في بُعديها العالِم والشعبي، غير أنه يظل اقترابا ملغوما، لكونه يتطلب نوعا من الاحتراس والتهيب، ذلك أنه يتنوع بتنوع الظرفيات والمراحل، ويختلف باختلاف تجارب الأشخاص والجماعات، ويخضع لتحول ميزان القوة والنفوذ. فمنذ بداية العصر الحديث شعر المغاربة بالقلق والخوف من البحار، لكونها من مصادر الأخطار الخارجية .
العامل الديني هو الذي يسمح بفهم وتفسير مراحل الاستمرارية والقطيعة التي عرفها التاريخ المغربي خلال أكثر من ألف سنة…أسس المغاربة مجتمعهم انطلاقا من فكرة السعي نحو الخلاص، وخاصة وأنهم عاشوا في مجال جغرافي شبه قاحل قد تخفف من حرارته رطوبة المحيط الأطلسي . هذه الفكرة هي التي تنبه إليها دانييل ريفي حينما ألمح إلى إن كتابة تاريخ المغرب هي أيضا كتابة تاريخ المعتقد الديني على هذه الأرض، وتاريخ البحث عن الرزق، وتاريخ السلطات السياسية التي تعاقبت على حكم البلاد وتحكمت في مصائر العباد.
نصادف باستمرار بين ثنايا الكتابة الاستعمارية إشارات متكررة تعمد إلى تهميش اهتمام المغاربة بشؤون البحر، وتعتبره اختصاصا أجنبيا، من العهود القديمة إلى مجيئ الاستعمار. لقد صوَّرت هذه الإستوغرافيا المغاربة بمظهر الشعب البدائي العاجز عن إدراك المعطيات الطبيعية، لا عجب أن يلجأ المغاربة حسب زعم هذه الإستوغرافيا دائما إلى تأويل الأشياء تأويلا ساذجا يمزج بين الانبهار والخوف، ويجعل وراء كل ظاهرة طبيعية قوة ربانية متحكمة. حينما نسلم بهذه الصورة الاستعمارية، يأخذنا نوع من الوَجل والتهيب من منطوق بعض الكتابة الاستعمارية، من ذلك الموقف الذي حاول أن يربط بين المتخيل المغربي في بُعده المائي والعجز الذهني عن إدراك الأمور.
ظل المغربي، وفق ما يستفاد من تحليلات لويس برونو، يعمد إلى تحويل الأشياء المستعصية عنه إلى قوة ربانية ، أَوَ ليس الوراء من هذا القصد جر القارئ إلى الاعتقاد بأن المغاربة ظلوا يستعينون في تدبير حاجاتهم المائية ببركة الأولياء، وخاصة أولياء البحر ؟ لقد طالب جون لوي مييج إلى إعادة النظر في الفرضيات المألوفة التي تعوَّد الأجانب ترديدها حول علاقة المغاربة بالبحر .
يقدم لويس برونو تخريجة لهذه المسألة، السلوك المائي المغربي يعكس تمازج عادات وطقوس وثنية مع معتقدات إسلامية في ذهنية المغاربة . فهل نجاري عبد المجيد القدوري في القول أن الكتابة الاستعمارية نجحت في حجب الواقع، وخلقت بالتالي متخيلا مغربيا كان يسعى بالأساس إلى دعم وخدمة مصلحة سلطات الحماية؟
تشفعت الإستوغرافيا الأجنبية وخاصة الفرنسية منها في سبيل تأكيد وجاهة فكرتها بحجة أن المغاربة لم يستعملوا البوصلة إطلاقا، كما أنهم لم يراكموا خبرة ودراية تذكر في مجال البحر، حيث ظل الاعتماد على الأسرى والعلوج والأتراك والمسيحيين مستمرا في قيادة السفن. كما أن اللغة العربية تفتقد إلى المفردات والمصطلحات البحرية، حيث أن جلها مقتبس من اللاتينية، أو من اللغات المتفرعة عنها. بخلاف هذه الصورة، نجد الإستوغرافيا البرتغالية تنحى منحى آخر، حيث تؤكد على قوة العالم الإسلامي في البحر، خاصة مع الجغرافي الادريسي والرحالة ابن بطوطة، والبحار ابن ماجد الذي شارك في الكشوفات الجغرافية مع فاسكو دي كاما. ظل لفظ «أناس البحر» يتردد في متون الكتابات البرتغالية كعبارة تطلق على المسلمين. لكن واقع الانكماش، الذي توقفت عنده الإستوغرافيا الأجنبية يرتبط بانقلاب موازين القوى لصالح أروبا الذي تُجسدها واقعة أسر الحسن الوزان 1518م بما هي واقعة تعبر عن سيطرة أوروبا على البحار والمحيطات، وقبله احتلال سبتة 1415م التي شكلت إنذارا حقيقيا لفقد السيطرة على البحر.
مع تحولات العصر الحديث صار البحر لدى المغاربة مصدر قلق وتوجس وانشغال، منه تتأتى كل الأخطار والأهوال ( الأسر/ الغرق/ الخراب…) . صار البحر الأبيض المتوسط بمثابة الفخ الذي تصطاد به القوى المسيحية المسلمين بعدما أخرجتهم من الأندلس.
تتبع المتخيل المغربي داخل متون الإستوغرافيات الأجنبية يجعله لا ينحصر في تفسير واحد، ولا يسير على نحو خطي، ذلك أنه يحيل على التباعد في الادراك، بين مُتخيل الخاصة ، ومُتخيل العامة. فإذا كانت وظيفة الأول تترجم الهواجس العالمة داخل البيوتات الكبرى، فإن الثاني يُجسد وظيفة الإحساس بالضعف والعجز. هذا العجز هو الذي يجعل العامة لا تشعر بالطمأنينة، فكيف يرتاح الانسان إلى الماء في حين أن أصله من تراب؟ هذا الإحساس بالخوف يجعله يلجأ إلى تحويل هذه القوة إلى قوة ربانية لا بشرية، ويفرض عليه أسلوب عيش مخالف لما تعود عليه في اليابسة. في مقابل ذلك، ربط العامة البحر بالأولياء أو بالمدن، بحر مولاي بوسلهام، بحر مولاي بوشعيب، بحر مولاي عبد الله…أو بحر طنجة، بحر سلا، بحر أصيلا، بحر أكادير…صورة الولي الذي يمشي فوق الماء (الولي أبو بكر الورياغلي)، أو الذي يملك قدرة الاستشفاء من أمراض الجلد والعقم بواسطة الماء (عبد الله محمد بن أمغار الصنهاجي). فالأولياء يُجسدون في ذهن العامة الارادة الربانية، حيت تتدخل البركة لترويض قوى الطبيعة.
تاريخيا، شكل عبور المغاربة إلى عدوة الأندلس بداية السيطرة المغربية على البحر الأبيض المتوسط، وترسيما لقاعدة سياسية جديدة في هيكلة الدولة المغربية، تتخذ من البحر ورقة سياسية في الصراع مع القوى الخارجية. لقد تحولت النظرة الوسيطية التي كانت تنطلق من أن البحر وسيلة لتزكية ودعم المصالح المغربية وتقوية أمن المسلمين، نحو موقف جديد يطبعه الخوف والخنوع والقلق والارتياب، وخاصة مع تراجع المرينيين عن دعم السياسة البحرية. والواقع أننا بصدد تحول حاسم ومصيري، ستترتب عنه ردود أفعال لا يمكن أن تقرأ إلا في سياقاتها وظروفها.
عن قضية ردود الأفعال، أثارت الإستوغرافيا الأجنبية مسألة القرصنة. قضية تاريخية تحتمل ولا تزال قراءات متعددة. فهي من جهة، تعكس إحساس المغاربة بحجم التفاوت، ورغبتهم في التقليص منه، ومن جهة موازية، تعكس رغبة المورسكيين في الانتقام، ومن جهة ثالثة، رغبة الكنيسية المسيحية في مطاردة المسلمين…القرصنة قوس في تاريخ المغرب الحديث، يبدأ مع توحيد مملكتي قشتالة وأراغون 1492م وبداية مسلسل الطرد الموريسكي، وينتهي عمليا مع الوِفق التجاري لسنة 1856م الذي أعلن بشكل رسمي خروج المغرب من دائرة التنافس حول البحر. وهي بذلك، أي – القرصنة البحرية- لا تخرج عن إطار رد الفعل الطبيعي تجاه واقع الاختناق الاقتصادي الذي فرضته القوى الأوربية على العوالم الأخرى، وتجاه مبدأ «حق الانتقام» Lettre de reprisaille الذي صاغته الكنيسة الكاثوليكية ضد مُسلمي الأندلس. وكل ربط لها بالعالم الإسلامي دون غيره من العوالم، يظل ربطا تعسفيا لا تَسْنُده وقائع التاريخ . أفلا يحمل هذا الحكم في خلفياته نوايا اتهامية؟ ألا يهدف هذا الحكم وجوبا إلى حجب قضايا أعمق وأسئلة أخرى موازية عن تحولات العصر الحديث؟ ألا يمكننا أن نُسلم بأن القرصنة كانت الأداة المتبقية أمام المغاربة للضغط على الدول الأوروبية ؟
لم تكن تحولات «العصر الحديث» في صالح المغرب، انكفأ على ذاته، على عمقه القاري، وصدف عن شؤون البحر ، واضطر مثل غيره من الأمم إلى التخلي عن البحر نتيجة التفوق التقني. فكان لهذا الانزواء أن تضررت مصالحه الاقتصادية والسياسية. النتيجة على المستوى الذهني: الإحساس بعمق التراجع والتفاوت الحضاري بينه وبين الآخر.


الكاتب : عبد الحكيم الزاوي

  

بتاريخ : 28/09/2023