الإنسان جبران في ضيافة الفقد

1 – لا يستسهل الكتابة عن الذين رحلوا عن عالمنا إلا المصاب بداء اليقين القاتل لما في حيواتهم من امتداد عميق في حياتنا . إنني أرى في كل رحيل ما يخجل النسيان . رحل محمد جبران .لا واحد منا نحن الذين عرفناه، عاشرناه، يستطيع أن يهرب من الإدلاء بشهاة حية، مباشرة، صادقة في حق رجل انفجرت في وجهه الحياة بالهائل من المتناقضات فبادلها بالمثل حد التهور .
هو جبران المتناقض إذن. جبران الوديع نهارا. جبران فوق أعالي الاضطراب ليلا. . جبران المتمرد. جبران عدو الخوف من الحياة ومن أعدائها. هو جبران الذي كان يحلم بكتابة ورقة واحدة يحكي بطلها الحياة بلا أدنى عيب ! لكنه جبران بكل يأسه تماما كما نحن قبل وبعد رحيله .
2 -هل كان جبران مزعجا؟ أتحفظ كثيرا من أحكام القيمة. يتخذها حصنا من تُخيفُه هشاشته، من يرى التفاهة بمنأى عن حميمية وجوده. هي الأحكام الجاهزة ملاذ الأرواح المطمئنة على خوائها . مأوى الأغبياء وما أكثرهم . مؤلم ما أرى. من كل الجهات يسيجنا التمويه، بخبث يدعونا للكلام عن الأموات. . وهنا لا سلطة تعلو فوق سلطته . أدرك أن لا جديد في ما أقول . ومع ذلك أجدني مرغما على هذا التوضيح: في واقع تحكمه وتسيطر عليه ذهنية تمجد وتقدس أوهام ماض لا يمكن لمن ينتمي إليه إلا أن يصير ذرة من ذرات الطيش كله.
كيف يمكنك أن تكون هادئا، وديعا، سعيدا، بحياة يرضيها أن يكون نصيبُك منها، كل صباح، أقل من الأقل؟؟
كيف لا يمكنك أن تكون لسان حال التمرد داخل مجتمع يرعى بعناية فائقة زحْف الحشود، ويصاب بالرهاب لرؤيته شخصية إنسان واحد في رابعة النهار؟
3 – يزعجني المطمئن على حراس الجبن وعُبّاده .
نقلق، نهرب، ننزعج كثيرا ممن يرغب رؤية حياته بعيدا عن طاعة الجبن، نعم، عاش جبران- في ما قرر مألوف القول- فوضويا . ليكن. بدأ يتأكد لي أن من أولى الأولويات . عندنا، تحرير الكلام من وصاية شيوخ النصائح .هم أعداء الحياة بكل وقاحة يقدمون أمامك الفاضح في دروس التلصص على متعها. شيوخ النصائح . وحدهم يعرفون أن لا اعتدال في خبثها .
أحيي وأقدر عاليا من بوأ فوضاه مقام العناية بحياته. للإنسان الحق في أن يرى حياته حقا غير قابل للتفويت . تلك حكمة الإنسان الذي يحترم نفسه كثيرا، وهي ببساطة حكمة من يرى الحياة في أعين أمثاله حلما أبديا غير قابل للتفاوض .
4 – ?» جبران هو ما ترى لا ما تسمع»، تلك جملة تجري على لسانه أمام أقرب المقربين إليه. «جبران أحيانا بهكذا حكم يتكلم عن حياته في لج أ حواله . هو جبران بخطواته العاشقة لحانات الدار البيضاء. سكنته هذه المدينة كما سكنها بوضوحها والتباسها، بوداعة الإنسان فيها وبعنفها الزائد عن اللازم . بوجهها المطل علينا يوميا من أعالي الرضى والسخط . هي الدار البيضاء التي لها في أعماق جبران أكثر من درب. هو العارف بخباياه، بمنعطفاته ومنعرجاته . درب أراني الآن أتوغل فيه بكل حيطة وحذر . جبران المعني بهكذا درب، أضحى له مكان خارج كل أزقته . مكان . هو الشبر . في ما يقال، مكان هو القبر . مكان هو بالكاد مكان . طافح بالصمت . مكان يقذفك بعنف. يرجك. يخضك. يصرخ في وجهك . يأمرك بما ليس منه بدٌّ . يأمرك بالكلام.
ما جدوى الكتابة عن إنسان جاورنا الحياة وراح؟
5 – بصخبه، بألفته، بالغامض والواضح فيه . بمعناهما . بمعنى كل الكل. رحل جبران . لا كأس ولا سجائر . لا لوم ولا عتاب . لا مديح ولاذم. لا سوء فهم ولا شنآن . لا صلح لا خصام يليق بالرجل. هو الآن كل ما يتصور كل واحد منا . أضحى صورة إذن . أراني غير بعيد عما يظهر لي من ملامحها . وجه إنسان يخجل كثيرا من رؤية حياته في صورة عيب .

6 – هو جبران الساخر في وجه الغباء . عدو الحقد . جبران زعيم ما لا يحصى من خصومات مع ذاته ولا في يوم ما خرج منتصرا عليها ! في روح الراحل ذرة من ذرات ما لا يطاق في كل واحد منا . وحده المثقل بغروره يشهد على أوهامه .
7 – بما يليق بالتقدير تكون الكتابة في الذين ودعونا الوداع الأخير . لتكن يقظتنا دوما على مسافة من الوقاحة . وحده العارف بالإنسان، المدرك لمعناه ولامعناه، يرعبه ما فيها من فظاعة. كم يرتاح الكلام للوجه الساطع صدقا فيه . أكتب اللحظة عن إنسان أحسبني وجها من الوجوه التي عانقها ذات يوم. هو الآن هناك وأنا هنا في وضعية باحث عما تبقى من دفء رماد ما قيل حول أهوال الفراق . أعلم ،ليس لدي ما يمكن إضافته في هكذا مقام . أكتفي بالإشارة إلى ما يهمني توا .
أجد الراحة في الكلام عن اللقاء والفراق . عن الفرح والألم. عن النبيل والسافل من معاني الحياة . يسعدني الكلام كثيرا عن الإنسان، وعن صداقته وعما فيها من خسارات حيوية لمن ذاق طعمها ذات يوم ! هكذا أجدني شاهدا على لحظات ممتعة وأخرى غاية في الاضطراب رفقة الراحل محمد جبران وغيره من الوجوه الأشد التباسا في وضوحها. أولى بالصداقة عندي إنسان مسؤول عن التباسه . احتاط دائما من الواضح بشكل فاضح
8 – هو جبران هناك . كنت أتمنى لو أُلقيت هذه الكلمة وهو على قيد الحياة . أدرك الآن أنها لا تعنيه وبالمطلق لا تهمه . أدرك أنها لن تضيف شبرا واحدا لروحه في مكانها المسيج بالصمت الأبدي .
الصمت الذي يتجاوز كل الحدود. يداهمها. يداهمني .
كم هو عصي على الوصف إحساس من يجد نفسه مرغما على مواجهة فداحة الموت بما علق بالكلام من دخان.
9 – لست من الذين يتقنون تلاوة الكلام على القبور . ولا أتصورني مؤهلا لهكذا دور . عرفت جبران إنسانا لم يتردد في يوم ما في الوقوف بجانبي بكل ما فيه من معاني المعنى واللامعنى. عنف لا تعوزه لطافة عاقل لا يتنكر لخلله . وفي هذا ما يجعله عسيرا على الفهم . عاش وفيا لضده. بصدق عانقه ومضى تاركا كل غضبنا عليه، وعلى هذه الحياة في مهب العاتي من معانيها .
ولج جبران عالم الكتابة.ترك لنا شهادة تتكلم عن عيوب بطل يعرفه كل واحد منا . ناوله الكلمة . هل توفق؟ للقارىء خلاصة ما بدا له من جهتي أنا أقول. ليس من حقي الآن وأنت هنالك يا محمد أن أتكلم عن قوتك أو عن ضعفك. عن الوجه البريء أو الوجه الآثم فيك.
أعلم، لم يعد من حقي أن أمجدك ولا أن أغضب عليك . يكفيني ما أرى فيك الآن موتك. واجب احترامه يحتم علي التزام حدودي في الكلام عنك ما بقيت حياتي شاهدة على مصاحبتك لي بمودة إنسان له في عيني نصيب من الغرابة حقا .
ختاما، دعوني يا أصدقاء جبران أقول:
يخجل من استضافته القبر من بناه في حياته مكانا يسعُ مُطلقَ الحقد .


الكاتب : عثمان بنعليلا

  

بتاريخ : 15/11/2019