«الاتحاد الاشتراكي» تحاور الدكتورة فضيلة أيت بوغيمة، أول امرأة أستاذة للطب الشرعي في المغرب

المغرب يراهن على النجاح في تجويد المهام الطبية الشرعية وتقنين ممارستها

 

يعتبر الطب الشرعي تخصصا طبيا ليس بالهيّن بالنظر لخصوصياته المختلفة وارتباطه بالأجساد، الميّتة منها والحيّة، على حدّ سواء، فضلا عن تخبّطه في جملة من الإكراهات والصعوبات على مستويات متعددة، الأمر الذي يجعل منه تخصصا يفتقد لـ «الجاذبية» ولا يعتبر «مغريا» ولا «مستقطبا» لطلبة الطب كي يبحروا وسط أمواجه المتلاطمة، وهو ما يعكسه عدد المختصين المعدود على رؤوس الأصابع؟
تخصص حيوي وضروري لكونه لا يرتبط بمجال الصحة فحسب، بل له وقع على الحياة الحقوقية وعلى العدالة، مما يجعل المطالب من أجل إيلائه المكانة التي يستحقها وتقنين ممارسته وتأطيرها بالقانون حاضرة دائما، حتى في ظل اعتماد قوانين جديدة تأتي بنفس إصلاحي لتجاوز اختلالات الماضي.
«الاتحاد الاشتراكي» ومن أجل تسليط الضوء على مستجدات الطب الشرعي في المغرب، حاورت الدكتورة فضيلة أيت بوغيمة، الطبيبة الشرعية بالمستشفى الجامعي ابن سينا بالرباط وأول امرأة أستاذة للطب الشرعي بكلية الطب والصيدلة بالرباط، التي وقفت عند تفاصيل مرتبطة بالقانون 77.17 وتحديد ماهية الطب الشرعي ومجالات تدخله وغيرها من التفاصيل الأخرى التي جاءت في الحوار التالي.

 

 بداية، الكثير من الناس يعتقدون بشكل خاطئ أن الطب الشرعي تقف حدوده عند تشريح الجثث، فما مدى صحّة هذا الأمر ، وما المقصود بهذا التخصص الطبي ومجالات تدخلاته؟

إن ملاحظتكم هي بكل تأكيد جدّ صائبة وهو ما يتطلّب تدقيق المفاهيم حتى تتكون صورة واضحة عند المتلقي عن ماهية الطب الشرعي ومواضيعه، وهنا تجب الإشارة إلى أن الطب الشرعي يعتبر العلم الذي يمثل العلاقة بين الطب والقانون، وترتكز هذه العلاقة على ما يحتاج إليه القانون من الطب وما يحتاج إليه الطب من القانون، وهو يرمز إلى العلم الذي يختص ببحث الموضوعات الطبية اللازمة لتطبيق نصوص التشريعات القانونية من جهة وكذلك التشريعات والأخلاقيات التي تحكم وتنظم ممارسة المهن الطبية والصحية من جهة أخرى.
إن الطب الشرعي يتكون من شقين هما طب وشرعي. فالطب مبحثه ومجاله هو كل ما يتعلق بصحة الإنسان وجسمه وحياته حيا أو ميتا، وأما الشرعي فمجاله الفصل بين المتنازعين وإثبات الحقوق بهدف الوصول إلى الحقيقة وتحقيق العدالة من خلالها. أما مفهوم الطب الشرعي بصورته العصرية الحديثة فيكمن في أنه “فرع طبي تطبيقي يختص ببحث كافة المعارف والخبرات الطبية الشرعية وتطبيقها بهدف تفسير وإيضاح وحلّ جميع ما يتعلق بالأمور الفنية والطبية الشرعية للقضايا والمسائل التي يكون موضوع التحقيق المنازعة القضائية فيها تتعلق بالجسم البشري وما يقع عليه من اعتداء”. ولما كان التخصص سمة من سمات هذا العصر، فقد تطور هذا العلم وأصبح تخصصا طبيا قائما بذاته وممارسته كتخصص تتم من قبل أطباء اختصاصيين يخضعون لتكوين طبي مدته أربع إلى 5 سنوات بدوام كامل شأنه كشأن باقي التخصصات الطبية الأخرى.
وتتفق التشريعات القضائية والأنظمة الجنائية المختلفة عموما في تحديد أنواع الجرائم والحالات التي يستعين فيها القضاء أو جهات التحقيق بالطب الشرعي والأطباء الشرعيين، وغالبا ما يطلق على تلك الحالات تسمية الحالات الطبية الشرعية أو الحالات الجنائية. والمقصود بالحالات الطبية الشرعية بمفهومها القانوني الحالات التي تحتاج فيها التشريعات القضائية إلى رأي الطب بشأنها، لأن الفصل فيها قائم غالبا على البينة الطبية أو الدليل الطبي، وبالتالي فمجالات تطبيق الطب الشرعي وممارسته تشمل حالات إيذاء الغير بمختلف الإصابات، جرائم وحالات القتل، حالات الوفاة المشبوهة والوفيات المثيرة للشك والريبة، الوفيات مجهولة المعالم والهوية، الجرائم والاعتداءات الجنسية، جرائم الإجهاض، تحديد المسؤولية الطبية، تحديد الأهلية، تحديد السن، تقييم الأضرار البدنية، وأية جريمة أخرى يتوقف تميز ماهيتها وأحوالها على البينة الطبية.

 كم يبلغ عدد الأطباء الشرعيين في المغرب وهل يعتبر كافيا للقيام بكل هذه المهام والتدخلات الصعبة والشاقّة؟

إن العدد الحالي للأطباء الشرعيين في المغرب هو 14 طبيبا شرعيا فقط وقريبا سيصبح عددهم 24، وبالفعل يبقى العدد غير كافٍ بالنظر لكل هذه المهام، مما يتطلب بذل المزيد من الجهود للرفع من أعداد المختصين الذين تلقوا تكوينا أكاديميا في هذا المجال، وأن يتم توزيعهم بشكل عادل مجاليا حتى تتوفر كل منطقة على مختص في هذا الباب، يساهم في تكوين الأجيال القادمة ويشرف على تنسيق المهام في علاقة بمصالح النيابة العامة ويوحّد معايير إجراء التشريح بنفس المنهجية، ونفس الأمر بالنسبة لإعداد التقارير من طرف كل من يقومون بالمهام الطبية الشرعية، فعدد من المناطق هي بكل أسف تفتقد لمختصين في هذا الباب، مما يؤثر سلبا بشكل أو بآخر سواء ارتباطا بالجانب الصحي أو الحقوقي.

 قلّة المختصين في هذا المجال تدفعكم لتسطير مجموعة من الأولويات والأهداف، فما هي طبيعتها؟

n لقد بذلت مصلحة الطب الشرعي المتواجدة بالمركز الاستشفائي الجامعي ابن رشد بالدارالبيضاء مجهودات كبيرة لتكوين الأساتذة الحاليين وقد قطع الطب الشرعي بها أشواطا ليست بالهيّنة؛ وأنا أتشرف بكوني تكونت في هذا الباب وصرت أول امرأة أستاذة للطب الشرعي في كلية الطب والصيدلة بالرباط؛ فتحمّل كل واحد منا المسؤولية في موقع من المواقع الصحية على مرّ السنوات، حيث يكون همّنا هو تنظيم النشاط الطبي الشرعي بالأساس، والقيام بالواجب تجاه المرضى ضحايا العنف وغيرهم ممن هم في حاجة إلى خدمات هذا التخصص، بالنظر إلى أن الطب الشرعي مهنة غير معروفة بالشكل الكبير ولا يستوعب الكثير من الناس أهميتها، ونحن نسعى كل من موقعه للمساهمة بكل طاقة وما توفر من إرادة لتطويره بما يشرّف وطننا.

 ما هو رأيكم بخصوص القانون المنظم للمهام الطبية الشرعية؟

بدون شك يعتبر القانون 77.17 المنظم للمهام الطبية الشرعية خطوة إيجابية من طرف القطاعات المسؤولة والمتدخلة في مجال الطب الشرعي، وإن كان مشروع القانون الأول 06.14 أكبر طموحا لأنه كان يهدف لتنظيم الطب الشرعي أكثر من المهام الطبية الشرعية، وكانت ستكون له فائدة أكثر ووقع أكبر من القانون الحالي، لكن مع ذلك لا يمكن النظر لهذا القانون بعين غير إيجابية فقد جاء للقطع مع الفوضى التي تعرفها الممارسة التي تشهدها بعض المؤسسات الصحية التي قد تفتح الباب حتى لغير المؤهلين ولغير المتوفرين على تكوين وخبرة للقيام بهذا التدخل، علما بأن الطب الشرعي وكما أسلفت هو تخصص طبي قائم بذاته، يمتد إلى 5 سنوات في التكوين، وهو تخصص مراقب لأن له تبعات خطيرة على المتقاضين وعلى آليات العدالة بصفة عامة، وبالتالي فالقانون يبقى إيجابيا لتنظيم أكثر ويُظهر أن المسؤولين لديهم رغبة في تنظيم الطب الشرعي والنهوض به في الوقت الحالي، خاصة وأن هذا التخصص في دول مجاورة هو أكثر تقدما مما عليه الوضع في بلادنا.

 ما هي أبرز عناوين هذا القانون؟

هي كثيرة ومتعددة، فقد حسم الجدل في صفة الطبيب الشرعي بالنسبة للأطباء، الذين يتحصّلون عليها بعد تكوين أكاديمي مؤطر بالقانون، وهذا التحديد لا يعني أي تمييز أو إقصاء للغير وإنما هو للتوضيح وضبط مجالات التدخل المؤطرة بالقانون في إطار من التكامل والاستفادة من خبرات الجميع دون استثناء، لكن مع التمييز بين الطبيب الشرعي الذي يعتبر هذا التخصص في شموليته هو النشاط الوحيد الذي يقوم به وبين غيره من الأطباء الذين يمكن أن يمارسوا أعمال التشريح الطبي إلى جانب أنشطة طبية أخرى يقومون بها.
قانون تكلّم كذلك عن كيفية انتداب الطبيب الشرعي وحقوقه في الخبرة وعن أطباء الجماعات المحلية وأطباء القطاع العام الذين يقومون بالتشريحات كما أشرت إليه، وإلى النقاط الأساسية التي يجب توفرها في التقارير الطبية الشرعية التي لها أهمية كبيرة وتعتمد عليها محاكم المغرب في تكييف الوقائع والجرائم وغيرها، وحدّد حقوق وواجبات الطب الشرعي، إلى جانب باب للأحكام التأديبية والزجرية.

 ما هي انتظاراتكم كأطباء مختصين في الطب الشرعي اليوم وما هي الرسائل التي تريدون توجيهها؟

نحن نترقب ما بعد القانون 77.17 وتفعيله على أرض الواقع، ارتباطا بدور النيابة العامة وأيضا في علاقة بوزارة الصحة وغيرها، خاصة وأننا في حاجة إلى إرادة أكبر وإمكانيات أقل لتنظيم مهام الطب الشرعي في المستشفيات وخلق وحدات مختصة وإحداث هيكلة إدارية واضحة لهذه المصالح في الأقطاب الجامعية دون استثناء، في ظروف تعطي لهذا التخصص قيمته باستحضار أبعاده الحقوقية والإنسانية في شموليتها.
وإلى جانب ما سبق أود ومن خلال منبركم المحترم، توجيه رسالة إلى كل المتدخلين والمعنيين بضرورة الاستثمار في التكوين الأكاديمي، والعمل على الرفع من عدد المناصب الممنوحة للطب الشرعي، وتحفيز الأطباء مع تحسين ظروف العمل، فضلا عن إعادة النظر في المصاريف الجنائية وتحسينها بالنسبة للأطباء الشباب لخلق نوع من الجاذبية والتحفيز.
إن المستشفيات تعتبر الوسط والمناخ الأمثل لكي يقوم الطبيب الشرعي بالمهام الطبية الشرعية التي لا تقف عند حدود التشريح الطبي إذ يجب تغيير هذه النظرة لأن التخصص يهتم بالأحياء أكثر من الأموات في إطار الخبرة الطبية، ويتعيّن تقنين الممارسة لتحسين جودة خدمات الطب الشرعي. إننا مدعوون اليوم وأكثر من أي وقت مضى للنجاح في رهان تجويد المهام الطبية الشرعية، سواء تعلّق الأمر بوزارة الصحة أو النيابة العامة أو وزارة العدل وكذا وزارة الداخلية، وإلى تظافر الجهود وتوحيدها وتكتلها لتطوير هذا التخصص بما يخدم المصلحة العامة ويقدم صورة مشرفة ومتقدمة لبلادنا على المستوى الحقوقي والإنساني.


الكاتب : حاورها: وحيد مبارك

  

بتاريخ : 06/01/2021