الاحتفاء بالبعد الإنساني في أدب الرحلة

رحلة: «من كازابلانكا إلى مونتريال، كثير مما يحكى ويقال» السماء السابعة

 

إذا كان سؤال: ما جدوى الأدب اليوم يطرح بحدة، فإن السؤال يصير أكثر إلحاحا حينما يتعلق الأمر بأجناس أدبية معينة، ومن بين هذه الأجناس أدب الرحلة، إذ أن الكاميرات الرقمية المتطورة والأقمار الصناعية التي تنقل لك الآن العالم بتفاصيله بنقرة صغيرة، تمكّنك من التجول بعيونك في شارع فرنسي وتزور سوقا صينيا وتتوه وسط أشجار الغابات الاستوائية وأنت في مكانك، فما الذي يمكن لأدب الرحلة أن يضيفه في ظل هذا الواقع؟ !

كانت لأدب الرحلة دوما أدوار متعددة، كالدور المعرفي الذي يعرّف القارئ على المكان كحيز جغرافي مما يغني المعرفة الجغرافية، والدور الثقافي الذي يعرف القارئ على الثقافات الأخرى وهو الشيء الذي يسهم في خلق التلاقح الحضاري، والدور الاخلاقي الذي يسجل قيم الآخر التي يمكن أن تكون إضافة قيمية لقيم القارئ، والدور التأريخي الذي يسجل لحظات مهمة من تاريخ حضارة معينة قد لا تنقله كتب التاريخ المتخصصة، لكن هذه الأدوار وغيرها اليوم بدأت تتقلص باعتبار الانفتاح العالمي الذي أحدثته وسائل النقل ووسائل الاتصال والتواصل، ولذلك كان لابد لأدب الرحلة إذا ما أراد الاستمرار أن يخلق لنفسه دواعٍ جديدة تجعل القارئ يستمر في الإقبال عليه، وهذا ما رسمته بامتياز رحلة «من كازابلانكا إلى مونتريال، كثير مما يحكى ويقال» للكاتب شكيب عبد الرحمان التي استطاعت أن تقدم نفسها كرحلة إنسانية تبحث عن الإنسان متخذة المكان كذريعة، عن ذلك الإنسان المفتقد والذي يطمح إليه كل عربي باعتباره قارئا محتملا لهذه الرحلة، والذي يطمح إليه خصوصا كل مثقف يأمل أن يعيش إلى أن يرى وطنه العربي في السكة الصحيحة نحو سلوك طريق التقدم والنجاح.
تُصور رحلة من كازابلانكا إلى مونتريال، رحلة كاتبها والتي قام بها إلى الديار الكندية وهو الإنسان العربي المغربي المتخم بجراح انهيار الإنسان في سياق معيشه العربي بل والعالمي، تحمل الرحلة بعدا ما بعد كولونيالي عميق خاصة في رؤيته السعيدية، نسبة إلى إدوارد سعيد، حيث تصور الرحلة نماذج إنسانية غير كندية استطاعت أن تحقق اندماجا مبهرا في المهجر الكندي، وتساهم في نهضة البلد المحتضن من خلال مساهمتها الاقتصادية بل والفكرية والتمثل القيمي للثقافة الكندية، وفي هذا احتفاء بنجاح الإنسان العربي في الاندماج الكامل في منظومة إنسانية متكاملة كان دائما يُتهم أنه لا يستحقها أو ليس في مستواها حينما كان يعيش في مناخه العربي في بلده الأصلي.
إن الكاتب هنا يحاول أن يحتفي بذلك الإنسان المجرد من الانتماءات والذي يستطيع أن يحقق النجاح ويعود إلى إنسانيته إذا ما وجد المناخ الذي يساعده على ذلك، ليدفعنا الكاتب ورحلته لأن نعيد الإيمان بأنفسنا وبإنسانيتنا التي يمكن أن نستعيدها رغم السياق المضاد.
يتنقل الكاتب في رحلته عبر مجالات جغرافية متعددة ومتنوعة في الديار الكندية، لكنه كإنسان مثقف لا يحتفي بالنموذج الاستهلاكي والرأسمالي المتغول، ولا تخطفه الأضواء التي لطالما اختطفت المهاجر إلى عالم الغرب المبهر، حيث لا يختار في رحلته من الأماكن إلا ما كان لها بعد إنساني وثقافي وفني، وهو هنا يعاود الاحتفاء بالبعد الإنساني للإنسان العربي خصوصا من خلال احتفائه بنفسه، بذاته الإنسانية، في إشارة إلى أن الانسان العربي ليس دائما هو ذلك المنبهر بالبنايات الشاهقة وبالأضواء المبهرة وبالمولات والمتاجر العملاقة ذات السلع الثمينة والغالية وغير ذلك من مظاهر قشور التقدم الغربي، الكاتب هنا ينقل لنا أماكن إنسانية بامتياز، المستشفى النفسي والمكتبة والمقهى والمهرجان وملعب التنس والجامعة وغيرها من مظاهر التقدم الحقيقي للإنسان الغربي الذي يحتفي بالفن والثقافة والتعليم والرياضة وكل ما يمس الإنسان مباشرة، وهذا حقيقة ما ينقص الإنسان العربي المشغول بسؤال النهضة المرتجاة.
إن العمل الضاج بالمقارنات المضمرة بين الجغرافيا الكندية والجغرافيا العربية ليس القصد من ورائه المقارنة المجالية، وإنما مقارنة السياق الذي يغذي القيم الإنسانية في الإنسان كإنسان دون النظر إلى عرقه وأصله، وخاصة أن هذا السياق أبرز البعد الإنساني والقدرة على الاندماج لدى النماذج الإنسانية العربية التي ساقها الكاتب في رحلته، والتي عاشت السياقين العربي والكندي واستطاعت أن تنسجم وتتطور داخل المناخ الكندي بسهولة، وهو عكس ما وقع لها في سياقها العربي.
وسط هذا الاحتفاء الإنساني بالإنسان العربي والذي يجعلنا نرى بوضوح إيمان الكاتب بهذا الإنسان، لم يغفل الكاتب الاحتفاء بالإنسان الكندي المتمثل للقيم والمثل العليا التي استطاعت أن تجعل بلده من خلال تمثلها وتطبيقها إحدى جنان الأرض التي يطمح كل إنسان سوي أن يبلغها، ومن خلال هذين الاحتفاءين يقول لنا الكاتب أن الإنسان هو الإنسان، وإن اختلفت الظروف التي تخرج من كل واحد منا مخبوءا مختلفا يتمثله سلوكات تختلف حسب السياق.
نخلص أخيرا إلى أن رحلة «من كازابلانكا إلى مونتريال، كثير مما يحكى ويقال» لكاتبها شكيب عبد الرحمن هي صرخة قوية، صرخة استنجاد تدعو إلى إنقاذ الإنسان العربي من السياق والظروف المحيطة به كي يبرز فيه الإنسان الناجح والمتسامح والمندمج، لنقول مع الكاتب جملة تلخص كل شيء: نحن لسنا فاشلين، لكننا وضعنا ضمن شروط الفشل، وعلينا تغييرها لنتغير.


الكاتب : ياسين كني

  

بتاريخ : 28/01/2022